انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 17/الشعر المرسل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 17/الشعر المرسل

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1933



للآنسة سهير القلماوي. ليسانسييه في الآداب

في مقال الأستاذ قدري لطفي الذي نشر بالعدد الخامس عشر من الرسالة أشياء كثيرة يحسن الاجابة عنها، لولا أني أحببت أن أكتب هذا المقال عن رأيي في الشعر المرسل لا في الرد على الأستاذ. ولكني لا أترك مقال الأستاذ هكذا بل سأطلعك على بعض فقرات ترى منها أني لم أهمل الاجابة عنه لأنها شاقة بل لأنها من السهولة بحيث يعرفها القارئ متى قرأ المقال.

انظر إلى قوله مثلا: (أما تمام المعنى في البيت الواحد فلم يكن من خصائص الشعر العربي وإنما كان من خصائص الشعراء العرب). .!! وخبرني بعد معنى هذا القول ومدى نصيبه من الصحة.

ثم أنظر إلى قوله (ولا أحسب أحدا يدعونا إلى ترك الشعر القديم وإهماله لنفسح المجال للشعر المرسل في غير حاجة ملحة ولا ضرورة ملجئة) وخبرني من ذا الذي يريد للفن أن يخضع للضرورات الملجئات والحاجات الملحات، وخبرني أيضا إذا دعونا إلى الشعر المرسل كان معنى هذا أن نهمل الشعر المقفى، لم لا يجوز وجودهما معا، وكلنا يعلم أن الشعر المرسل في كل لغة وجد فيها لم يمح الشعر المقفى وانما وجد بجانبه.

وأمثال هذين المثلين كثيرة فليقرأ القارئ مقال الأستاذ فهو خير دليل على ما زعم.

ولقد تورط الأستاذ أبان ثورته غيرةً على القافية في غير هذا النوع من الخطأ. فقد زعم أني قلت: (أني لا أشعر بفقد القافية ما دام المعنى كاملا في البيت)؛ زعم الأستاذ أني أريد بذلك حكما أو تأثيرا في الحكم على قصيدتي. وأنا وإن كنت لا ألوم الأستاذ على هذا النوع من الفهم لما يقرأ الا إنني أذكر له أني لو لم أدون فكرتي في هذا النوع من الشعر المرسل الذي نظمت به قصيدتي لأسأت إلى نفسي وإلى قارئي لأني أؤمن تماما أن من واجب الكاتب أن يصور للقارئ فكرته واضحة جلية، ولما كانت فكرتي شيئاً يتعلق بالحس فقد صورت للقارئ شعوري. ولكن الفرق بين طريقتي في التعبير وبين طريقة الأستاذ هو أني دونت شعوري ونسبته إلى نفسي، أما هو فقد دون شعوره وعممه متخذا نفسه مقياسا لكل قاريء، أنظر إلى قوله: (ولكن اصطدام القارئ بحروف متغايرة في أواخر الأبيات يشعره بفقدان الوزن في ثناياها!!)

ولندع مقال الأستاذ لأدون رأيي في مسألة الشعر المرسل واضحا جليا حتى لا يتورط غير الأستاذ فيما تورط فيه.

الجدال في الشعر المرسل لا يقوم على أساس، فالمسألة ليست من مسائل الحساب أو المنطق، وإنما هي مسألة حس. أنت تسمع نغما فيعجبك، وأنا أسمعه فلا يعجبني، فإذا تناقشنا أعواما ما استطاع أن يقنع أحدنا الآخر. أذني تستسيغ الشعر العربي مرسلا، وقد تكون أذني شاذة، ولكنك لن تقنعني بعدم استساغته. ستقول لي: ولكن المسألة ليست فوضى، فهناك الذوق العام، ولكني وإن كنت أحترم الذوق العام لا أقبل حكمه دائما، وفي كل الأحوال، فالذوق العام له تاريخ في مثل هذه الأحوال يجعلني أتشبث برأيي. فقد يستسيغ الذوق العام غدا ويشغف بما لم يطق سماعه بالأمس، وفي مسألة الشعر المرسل خاصة كان للذوق العام تاريخ يعيد نفسه منذ كان هذا النوع من الشعر بغيضا غير مستساغ أول ظهوره في كل لغة ظهر فيها، فلا ضير أن يكون كذلك في اللغة العربية أيضا.

ثم هناك ناحية أخرى، فالذوق العام لا يستطيع اليوم أن يحكم حكما عادلا في الشعر المرسل لأنه لم يسمع منه الا القليل، وقد لا يكون في هذا القليل شئ جميل رائع كالذي في الشعر المقفى.

وقد تقول لي أخيرا أن طبيعة اللغة العربية لا توافق مثل هذا النوع من الشعر، وأنا وإن كنت لا أستطيع التحدث عن طبيعة اللغة العربية بمثل هذه السهولة الا أني أزعم أنها قد تتحور قليلا فتقبله. وأنت إن استطعت الحكم على الماضي والحاضر فلن تستطيع الحكم على المستقبل. ولكن ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية في القصيدة الواحدة إذا غيرتها كل خمسة أبيات مثلا، ولا تقبلها إذا غيرتها في كل بيت؟. ثم ما بال طبيعة اللغة قبلت تغيير القافية في كل بيت إذا ما راعيت القافية بين شطري كل بيت على حدة، ولا تقبل تغير القافية دون مراعاة الموافقة بين الشطرين؟ ثم ما بالها أخيرا قبلت تغير البحور في القصيدة الواحدة ولا تقبل تغير القافية ولزوم بحر واحد؟ ستقول ولكن في كل هذا نوعا من القافية كافياً لإحداث تلك الموسيقى المألوفة. إذن أصبحت تقتنع بشيء من القافية بعد أن كان الشعر العربي لا يقنع الا بالقافية كلها متبعة من أول القصيدة إلى آخرها. وإذا قبلت اللغة بعض التغير فاني أزعم أنها ستقبل التغير كاملا.

وما رأيك في أني أرى في الشعر المرسل أنواعا جديدة من الموسيقى يعجز عنها بل قد يفسدها الشعر المقفى؟

الوزن في القصيدة ليس بالنغم الخافت الذي تسمعه الأذن، فهو عندي وأظن عندنا جميعاً أقوى موسيقى في الشعر، ثم هناك موسيقى الألفاظ وموسيقى الحروف، فهل من المحتوم وجود القافية المكررة المحركة بحركة معينة حتى نشعر بأن هناك موسيقى؟

والغريب أنه بينما نحن نتناقش في الشعر المرسل يتناقش الأدباء الأمريكيون الحديثون في الشعر الحديث الذي لا وزن له ولا قافية.

ليطمئن قرائي فسيفنى عمري في الدعوة إلى الشعر المرسل، فهل يتيسر لي أن أدعوا إلى هذا الشعر الحديث الذي لا أستسيغه الآن؟ ولكني لا أعرف، فقد أستسيغه غدا.

وأخيراً أرى كما أسلفت أن المجال ليس مجال جدال وإنما خير رد على خصوم الشعر المرسل هو أن أكتب وأن يكتب غيري من أنصار الشعر المرسل قصائد نستطيع أن نقنع بها الذوق العام الذي نحترمه جميعا، وأن نقنع بها أيضا من يهمنا إقناعهم.