انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 169/صور سياحية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 169/صور سياحية

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 09 - 1936


1 - فرنسا وباريس

بقلم سائح متجول

تأثرت مصر بالثقافة الفرنسية طوال القرن الماضي؛ ولم يكن ذلك لأن مصر أمة من أمم البحر الأبيض تميل بخواصها وموقعها إلى الأخذ بالثقافة اللاتينية، ولكن لأن ظروفاً خاصة اجتمعت منذ الغزوة البونابارتية لتحمل مصر فيما بعد على الاستعانة بالفرنسيين في مشروعات الإصلاح والتجديد وإرسال بعوثها العلمية الأولى إلى فرنسا. هذا هو الأصل في تأثر مصر بالثقافة الفرنسية، وهو عارض تاريخي محض، لا دخل فيه للعوامل الجغرافية أو الميول والخواص الجنسية؛ ومن ثم فأنا نرى أثر الثقافة الفرنسية في مصر يضمحل اليوم، لأن مصر تختار اليوم لنفسها من مختلف الثقافات، لتبني ثقافتها القومية، ولا تقف عند ثقافة دون أخرى.

ومع ذلك فما تزال الثقافة والآداب الفرنسية تحظى منا بأكبر عناية؛ وما تزال فرنسا تجذب منا أكبر عدد من الزائرين؛ وما يزال اسم باريس يثير في نفوسنا سحراً لا يقاوم؛ بل إن كثيراً من أولئك الذين لم يروا باريس يعرفونها معرفة عقلية وروحية شاملة: يعرفونها من الكتب والصحف والسينما، وتربطهم بها روابط فكرية قوية؛ وما تزال أول أمنية للسائح المبتدئ أن يرى باريس.

وقد حظيت باريس من العربية بكتب ورسائل عديدة، وحظيت في العهد الأخير بكتابين لاثنين من كتابنا المعروفين، وصفت فيهما معاهدها ومغانيها وجوانب كثيرة من حياتها الاجتماعية، وانك لتقرأ في الكتابين فصولاً وشذوراً تفيض إعجاباً بفرنسا وباريس وكل ما هو فرنسي، بل إنك لتشعر من خلال تلك الفصول الحارة المنمقة أن فرنسا هي أمة الأمم، وأن باريس هي مدينة المدن وإلهة الجمال والعلوم والفنون؛ وما زالت هذه الألوان الوردية المغرقة تطبع كل ما نكتب عن فرنسا وباريس.

على أنه يلوح لنا أن هذه الفتنة التي قد تجد مبرراتها في بعض المؤثرات والظروف الخاصة، والتي تثيرها في معظم الأحيان أهواء وميول خاصة، ويذكيها الجهل بأحوال الأمم والعواصم الأخرى، وانعدام روح المقارنة الذي تتضاءل أمامه الصور والألوان الخلابة؛ يلوح لنا أنها فتنة مبالغ فيها، وأن شيئاً من الملاحظة البريئة، وقليلاً من الاتزان في الوصف والرواية، وطرح المؤثرات والاعتبارات الخاصة مما يعاون على عرض صور أصدق وأدق من تلك الصور الوردية التي عرفناها وألفناها.

ومهما يكن في هذه الصور القديمة من صدق؛ ومهما يكن لهذه الفتنة القديمة من مبررات، فأنا نقول لأولئك الذين يرون العالم كله في فرنسا وفي باريس: إن الأمور قد تغيرت أعظم تغير في فرنسا وفي باريس.

وكاتب هذه السطور سائح متجول يرى ويلاحظ، ولكنه لا يدعي الوصول إلى المجهول والخارق، وإنما يلاحظ ويقدر ما تهدي إليه المشاهدة والتجارب بعيداً عن كل اعتبار وهوى.

لم تقدم فرنسا أية تسهيلات للسياحة سواء في مسألة النقد أو السكك الحديدية أو الفنادق أو غيرها كما فعلت ألمانيا وإيطاليا، وما زالت تعتمد على جاذبيتها القديمة؛ غير أن فرنسا تخدع اليوم في قيمة هذه الجاذبية؛ وقد انحط موسم السياحة في فرنسا انحطاطاً عظيماً، ولم تعد باريس كما كانت في الماضي تعج بعشرات الألوف من الأجانب ولا سيما الأمريكيين والإنكليز؛ وأهم عامل في هذا التحول هو ارتفاع قيمة الفرنك الفرنسي بالنسبة لنقد البلاد التي خرجت عن معيار الذهب. فالأمريكي أو الإنكليزي أو المصري الذي يزور فرنسا يفقد نحو أربعين في المائة من قيمة نقده؛ أضف إلى ذلك الغلاء الفاحش الذي يغمر كل شيء في فرنسا؛ ففي الفندق والمطعم والمقهى، وفي الملاهي والتنقل وكل ما يتصل بالحياة اليومية، نشعر بوطأة هذا الغلاء المرهق، وتشعر كأن النقد يذوب بين يديك سراعاً.

ولنضرب أمثلة مادية؛ فالغرفة البسيطة في فندق متوسط تكلف في اليوم من 25 إلى 40 فرنكاً (من 33 إلى 52 قرشاً) ووجبة الطعام في مطعم متوسط تكلف من 15 - 25 فرنكاً (20 - 33 قرشاً) هذا عدا الخدمة وهي من 10 إلى 15 في المائة؛ وثمن البيضة الواحدة في المقهى أو حيث تتناول إفطارك فرنكان ونصف (3 , 5 قروش) وثمن الواحدة من الموز أو التفاح أو الخوخ شراء يتراوح بين فرنك ونصف وثلاثة حسب النوع والحجم؛ وأما في المقهى فما خلا القهوة والنبيذ والكونياك والبيرة، فإن أثمان المشروبات الأجنبية تبلغ حدوداً تزهدك دائماً في طلبها؛ والسجائر الفرنسية رخيصة ولكنها سخيفة لا يقبلها الذوق، والسجائر الأجنبية تكلف ضعف ثمنها وأحياناً ثلاثة أمثال؛ وأما التنقل في مدينة عظيمة كباريس فلست أحدثك عن (التاكسي) لأنه ترف لا يطيقه سوى الأغنياء، ولكني أقول إن أجور الأمنيبوس والترام الذي بقيت منه خطوط قليلة هي الضعف وأحياناً ثلاثة أمثال أجورها التي نعرفها هنا؛ ولولا شبكة الترام الأرضي (المتروبولتان) التي تربط أحياء باريس وأطرافها ربطاً عجيباً بأجر زهيد (سبعين سنتيما أو نحو قرش صاغ) لكانت باريس أتعس العواصم من حيث المواصلات.

هذه أمثلة وملاحظات نعني بها السائح المتوسط ولا نعني بها طبقة الطلبة أو أولئك الذين يلجئون إلى بعض الفنادق الشعبية الرخيصة حول الحي الجامعي في سان ميشيل وفوجيرار، ويتناولون طعامهم في مطاعم العمال، فهؤلاء حقاً يستطيعون أن يستمرئوا نوعاً من العيش الرخيص لا يستسيغه السائح المتجول مهما كان من تواضعه وقناعته.

ولا تنس إلى جانب ذلك الغلاء المرهق تلك الضريبة التعسفية التي أصبحت رذيلة اجتماعية شنيعة في فرنسا (وفي غيرها أيضاً) ونعني (البقشيش)، ففي كل مكان وفي كل مناسبة، في التاكسي وفي المطعم والمقهى والمسرح وأينما حللت، يمثل شبح البقشيش، ويطلب بإلحاح خشن؛ وكل شيء يتطلب عطية حتى ولو لم تقدم أية خدمة؛ والشره خلة بارزة لتلك الطبقة التي تحتك بها في كل لحظة ونعني طبقة الخدم والسقاة؛ وروح الجشع تبدو في كل مكان؛ وقد تدخل المسرح أو الملهى الواحد فيطلب إليك البقشيش أربعة أو خمسة متعاقبون من الخدم قبل أن تجلس في موضعك، وإذا ترددت قيل لك إنا هنا لا نتناول أجراً ونعتمد على البقشيش، وإذا لم تتذرع بشيء من الحزم والبرود كانت الخسارة فادحة؛ هذا إلى المفاجآت السيئة في الحساب؛ ففي معظم الأحيان تدفع أكثر مما تتوقع لأسباب وأبواب غير معقولة ولكن لا مفر من إجابتها.

ولقد قيل في يونيه الماضي إن البرلمان الفرنسي قد أقر قانونا بإلغاء (البقشيش)، وقد صدر القانون فعلاً، ولكنا أسأنا فهمه وإدراك مقصده، فلم يكن قصد الحكومة الاشتراكية أن تحرم الخدمة ومن إليهم من نعم هذه الضريبة المرذولة، بل كان قصدها أن تجعل (البقشيش) حقاً وضريبة مشروعة لا عطية فقط، وأن تحفظ كرامة هذا الخادم أو العامل فلا ينتظر البقشيش كعطية أو نفحة وإنما يرى فيه حقاً مكتسباً ينظم دفعه حسب الظروف والأحوال؛ ولهذا كان أول ما قرأنا في تعليمات الفندق في مرسيليا ما يأتي: (بما أن البقشيش قد ألغي، فقد قررت إدارة الفندق أن تحتسب بدل خدمة قدره عشرة في المائة!).

ومما يلاحظه السائح في فرنسا، وفي باريس بنوع خاص، أن الأمانة في المعاملات ليست متوفرة دائماً؛ وربما كان أول وأشهر التجارب التي يلاقيها السائح في ذلك هي مسألة التاكسي؛ فإذا لم تكن تعرف الطريق أو لك فكرة عنه فويل لك من السائق؛ وقلما تجد سائقاً يقودك إلى المكان المقصود مباشرة، ولا بد أن يطوف بك حيناً قبل أن يقودك إغليه، وعبثاً تلاحظ أو تعترض، وعند الحساب تضاف إلى الأجر ملحقات زائفة يؤيدها السائق بالصخب والوعيد؛ والويل لك إذا ترددت في الدفع؛ وهذه تجربة أعتقد أن كل سائح مستجد يلقاها في فرنسا؛ وقد بلوتها ير مرة وسمعت في شأنها روايات مدهشة مضحكة معاً عن تفنن السائقين في ابتزاز الملحقات غير المشروعة. وإنك لتلقى مثل هذا الغش أحياناً في المطعم والمقهى إذا لم تحسن مراجعة الحساب؛ ومن الحق أن نقول إنك تلقى مثل هذه التجارب في غير فرنسا، وإنك تلقاها في إيطاليا وباقي أمم البحر الأبيض، ولكن يندر أن تلقاها في أمة من الأمم الشمالية.

وحب المال خلة مشهورة في فرنسا، وهي تذهب إلى حد الجشع المثير، وإنك لتلمس هذا الشره في كل المعاملات، وتشعر بأن روح المادة والاستغلال تطغى على كل شيء وكل اعتبار، ومن ثم كان شغف الكسب بأي الوسائل، وكان تجلي الأثرة وانعدام روح المعاونة والمروءة في معظم الطبقات التي تحتك بها. ومن النادر أن تجد في باريس من يتقدم لمعاونتك أو إرشادك لمعرفة مكان أو غيره بشيء من التطوع أو الرقة التي تأنسها في بلاد أوربية أخرى؛ وإذا قدم إليك مثل هذا العون شعرت أنه مقرون بالسرعة والمن، وأحياناً بالتكلف والجفاء، كأن وقت الفرنسي كله وكلماته كلها من ذهب؛ وكثيراً ما تجاب بهز الأكتاف و (ليس عندي وقت) وأمثالها.

هذا وقد أفسدت الروح الاشتراكية أخلاق الطبقات الدنيا وآدابها، فالعامل والصانع والبائع والخادم والموظف الصغير، هؤلاء جميعاً يتصورون أنهم سادة الموقف في فرنسا، وأن المستقبل لهم. وإنك لتلاحظ هذا الأثر السيئ بنوع خاص في طبقة العمال والخدم، فهم يؤدون أعمالهم بتكلف ولا يحفلون بشيء؛ وهم يشعرونك دائماً عند الحديث أنهم سادة مثلك، ولهم في ذلك إشارات وألفاظ وقحة. وقد كان لحوادث أسبانيا في هذه الطبقات أثر عميق ملموس؛ وكم سمعنا في الفندق والمطعم وفي الشارع والمترو من بعض أفراد هذه الطبقات أن الحكومة الاشتراكية إذا لم تجب مطالب الطبقات العاملة، وإذ لم تسع إلى تحسين الأجور وتخفيض مستوى المعيشة، فإن ما وقع في أسبانيا سوف يقع قريباً في فرنسا.

وقد عرفت فرنسا أنها بلد الجدل السياسي؛ ولكن هذا الجدل يحتدم اليوم في فرنسا بشدة ظاهرة ويغمر كل الطبقات؛ وقد تشهد هذا الجدل في الشارع وفي المقهى وفي الترام، وتسمع أغرب الآراء وأشدها تطرفاً. وتلقى الصحف على اختلاف نزعاتها رواجاً عظيماً بين كل الطبقات، وتلقى الصحف والنشرات الاشتراكية رواجاً خاصاً بين الطبقات العاملة. وقد لفت نظري كتابان يعرضان للبيع بكثرة ويقبل الناس على شرائهما، أولهما رسالة عن حياة مسيو (ليون بلوم) رئيس الوزارة الفرنسية الحاضرة، والثاني كتاب عنوانه (دوريو رجل الغد)، ودوريو هو النائب الشيوعي الذي خرج على الحزب الشيوعي وعلى أوامر موسكو وكون لنفسه شعبة خاصة تتقدم كل يوم في الأهمية والعدد؛ ويرى كثيرون أن دوريو هذا سيكون من قادة الغد، وأنه ربما اضطلع بدور عظيم في التطورات السياسية المقبلة.

ومما يلفت النظر بنوع خاص حالة القلق السياسي التي تسود فرنسا اليوم، وتبدو ظاهرة في كتابات الصحف وفي تعليقات الأفراد، ويشمل هذا القلق الشؤون الداخلية والخارجية معاً؛ ففي ميدان الشؤون الداخلية يشعر الكثيرون بأن فرنسا مقبلة على تطورات سياسة هامة، وأنه ربما اقترنت هذه التطورات بشيء من العنف. وفي ميدان الشؤون الخارجية يرى الكثيرون أن احتمالات الحرب الأوربية تتقدم بسرعة، وأن نشوبها ربما كان أقرب مما يتصور الناس، وأن فرنسا ستدعي في القريب العاجل إلى خوضها.

(يتلى)

(? ? ?)