مجلة الرسالة/العدد 167/الفلسفة والإلهيات
مجلة الرسالة/العدد 167/الفلسفة والإلهيات
اتفقت كلمة الشعوب الإسلامية على أن العصر الذهبي للخلافة قد ازدهرت فيه مذاهب في الفلسفة، كانت عربية إسلامية ذاعت في العالم ذيوعاً واسع المدى، وأن المعاهد الإسلامية قد مهدت لظهور الجامعات الأوربية، وكانت المثال الذي به تقتدي وعلى هداه تسير.
وهذه النظرة المنطوية على اعتبار الإسلام مصدر الحضارة الأوربية، نشأت في رحابه، ودرجت في ظلاله، واستقت من معينه، لا نراها منبثة في الكتب الأدبية التي أريد بها مجرد الدعاية فحسب، بل نراها شائعة - بحق أو غير حق - في أكثر البحوث القيمة التي ساهم فيها العلماء من المسلمين المحدثين وتناولت تقدم الأنظمة الإسلامية وتاريخها في العصر الوسيط.
وإنا لنرى في الأدب الغربي بين الحين والحين إشارة إلى ما يطلقون عليه اسم (الفلسفة العربية)، كما نرى طائفة من كتاب الغرب تذهب إلى أن الفلسفة المسماة بهذا الاسم ليست إلا خليطاً من آراء القدماء لا تجانس بين مواده المتنوعة، قد ترك ليتفاعل وينضج، فهم منتهون إلى أن ليس هناك شيء اسمه (فلسفة عربية) وإلى أن الشعوب الناطقة بالضاد لم تفعل شيئاً أكثر من أنها استولت على الفلسفة اليونانية التي كنت شائعة بين المسيحيين من أهل سوريا، والمثقفين من أهل حران الوثنيين، ثم أضافت إليها بعض عناصر استمدتها من فارس والهند.
ومهما يكن من شي فإن من الحق أن نرد الفلسفة العربية في مادتها وصورتها وغايتها إلى حضارة البلاد التي غزاها العرب، وأن نعتبر الفلسفة اليونانية المعين الذي استقوا منه مذاهبهم.
ومهما قيل عن هذا الأمر في العصور الحديثة فإن العلماء المسلمين في العصور المتقدمة لم يخطئوا السبيل إلى فهم هذه الحقيقة. فالجاحظ البصري المتوفى سنة تسع وستين وثمانمائة بعد الميلاد - وهو كاتب قدير متبحر كان تأثيره في أسبانيا الإسلامية على جانب عظيم من الأهمية - يعترف اعترافاً واضحاً بفضل الفكر اليوناني على أهل ملته فيقول: ألم تبلغنا كتب القدماء التي خلدوا فيها حكمتهم الرائعة، وعالجوا بين صفحاتها دروس التاريخ المتشعبة، حتى بدا الماضي حياً أمام أبصارنا؟ ألم تصل إلى أيدينا نفائس تجاربهم التي ما كنا بغير هذه الكتب لنعرفها أو لنصيب في الحكمة حظاً يذكر، أو نسلك للتحصيل سبلاً معقولة؟
وفوق ذلك فإن الفلاسفة وعلماء الكلام لم يحاولوا في أكثر أبحاثهم أن يخفوا عن الناس النبع الذي نهلوا منه.
وما كان التعلل بالعلم ليخدع المسرفين في التعصب للقرآن وسنة النبي. فكانت الأبحاث العقلية المجهولة للعرب في عصر الرسول تلقى استنكاراً شديداً كما كان الذين يدخلون في الإسلام بدعة يستمدونها من مصدر أجنبي معرضين لهذا النوع من الاستنكار، وكانوا يقولون إن الفلسفة (حكمة مشوبة بالكفر) - وإذا استعرضت أسماء المؤلفات ككتاب: عرض لمخازي الإغريق ومنها للحكم الدينية - وكتاب البرهان الحسي على تفنيد الفلسفة في القرآن عرفت ما تتضمنه الكتب مما يؤيد ما نقول - وثمة حكاية متداولة عن فيلسوف معروف عدل عن آرائه وهو على فراش الموت، وكانت آخر عبارة قالها: صدق الله العظيم وكذب ابن سينا.
ومن الحق كذلك أن نذهب إلى القول بأن ما أضافه العرب من الثقافة الإنسانية إلى تراث من سبقهم من المفكرين لم يكن كبير الشأن ملموس الأثر. وبالرغم من هذا، ومع أننا على يقين من أن ما خلفته الحضارة الإسلامية لا خطر له، أوليس أكثر مما ورثته عن غيرها من الحضارات، فليس من العدل في شيء أن ننكر عليها توصلها إلى الجمع بين الأفكار الفلسفية على نمط مميز لها، تلك الأفكار التي عزاها علماء المسلمين إلى أنفسهم.
وإنه لمن الظلم البين أن نحقر من شأن الشغف في طلب العلم من أجل العلم، ذلك الحماس الذي كان يتقد في صدور جموع غفيرة من الناس في رحاب الدولة الإسلامية المترامية الأطراف.
وفي الحق أن لعبارة (الفلسفة العربية) معنى معيناً عند المستشرقين، فهم يعرفون أن بين العرب الخلص الدم واحداً فذا هو (الكندي) قد امتاز بطول باعه في المسائل الفلسفية، ولكنهم يعرفون - إلى جانب هذا - أن ذلك الخليط الغريب الذي يغلب عليه التنافر - والذي ائتلف من الأرسطاطالية والأفلاطونية الحديثة، وسلم به أكبر الفلاسفة المسلمين كتفسير معقول للكون - يعتبر عربياً قبل كل شيء وإن لم يكن إسلامياً، لأن أكبر زعمائه كثيراً ما كانوا مسلمين بالاسم أو زنادقة جهروا بذلك جهراً أدى إلى ضياع حياتهم أو فقدان حرياتهم.
ولو أن العرب كانوا برابرة كالمغول الذين أطفئوا جذوة العلم في الشرق إطفاء لم ينبعث من بعدهم البتة - وقد لا ينبعث أبداً بسبب ضياع دور الكتب وفقدان الآثار الأدبية - لو أنهم كانوا كذلك، لتأخر عصر الأحياء عن موعده في أوربا أكثر من قرن.
وليس من شك في أن حياة طالب العلم قبل عهد الطباعة كانت تفيض دائماً بالضجر واليأس، وكان مألوفاً عند الكثيرين من طلاب العلم أن يقوموا في طلبه برحلة يقطعون فيها ألف ميل أو يزيد في سبيل البحث عن معلم يتلقون عنه العلم. ولبثوا يقاسون هذه المشقة حتى العصر الذي قامت فيه الجامعات الإسلامية - بل إلى ما بعد هذا العصر - وقد قام الشبان برحلات طويلة من الأندلس إلى مكة أو من مراكش إلى بغداد، تاركين دورهم وهم خالو الوفاض أملاً في التتلمذ لأستاذ يصادف اختيارهم.
ولعل في وسعنا الآن أن نقول كلمة في نشأة الجامعات الإسلامية: فأولاها هي المدرسة النظامية المعروفة ببغداد، وقد قام بتأسيسها نظام الملك صديق عمر الخيام ووزير السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) سنة سبع وخمسين وأربعمائة للهجرة، أي في العام السابق للفتح النورماندي لإنجلترا. ثم قامت بعد ذلك بقليل جامعات أخرى في نيسابور ودمشق وبيت المقدس والقاهرة والإسكندرية وغيرها من البلدان، وكثيراً ما قامت في مدن اشتهرت بالعلم قبل قيام الإسلام كما سيأتي ذكر ذلك بعد.