انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 165/توكيد الذات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 165/توكيد الذات

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 08 - 1936



للأستاذ أديب عباسي

لمحت في ذات صباح، وأنا في الشمس انفض عن نفسي بقية من ليل، هرَّا مهزولا يسير متوجِّسا متسرِّقا على مقربة مني؛ ولم يطل بهذا الهرّ ارتيابه وتوجسه، وتحقق له سوء ظنِّه بكلاب الحي، إذ لم يمض إلا قليلاً حتى أقبل عليه من إحدى الجواد القريبة كلب بطِر شديد الجلب شديد العزم على أذيته، كأن له ترة قديمة عنده وحسابا ينوي وفاءه.

وأدرك هرنا أي شيء لا بد لاحق به، وأدرك كذلك أن الهرب ليس بمنجيه ولا مخلصه من هذا الذي أخذ عليه الطريق وسد المهرب. فاستدار في الحال وازبأر وهرَّ هريراً وأبدى عن أنيابه، وأتأر بالخصم بصره، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وتنفش شعره، وتقوس ظهره، وشال ذنبه، ووقف يتحفز.

ولم يفت كلبنا المعتدي مغزى ذلك جميعاً، ووقف تلقاءه يرمقه ويروزه ببصره ملياً، حتى إذا بدا له أن الهجوم من الناحية الأممية - وقد حصنتها مخالب مرهفة وأنياب حديدة - قد لا يخلو من خطر أكيد، انفتل منسلا كدأب الكلاب، وباغته من الخلف مباغتة استطار لها لبُّه وانخلع قلبه. وأقبلت كلاب الحي تتعاوى من بعيد ومن قريب، وكلها في البغي والاثم سواء، فكأنها وكأنه ما عناه الشاعر حين قل:

تكاثرت (الكلاب) على خراش ... فلا يدري خراش ما (يصدُّ)

وهممت عندها أن أقوم وأنجد هرنا المسكين وأذب عنه هذه العرجلة الباغية من الكلاب، إلا أن هرنا لم يدع لي لأتدخل، وحلَّ الإشكال بطريقة مسددة من إلهام الطبع، وهداية الغريزة، واستعداد الفطرة، إذ عمد إلى هذه الكلاب يستلُّ سخيمتها ويزيل شرَّتها بالاستسلام لها والكف عن قتالها، ولسان حاله يقول:

ولو كان (كلبا) واحدا لاحتملته ... ولكنه (كلب) وثانٍ وثالث

ولم تنتظر الكلاب منه حركة كهذه، فوجمت حياله تفكر ماذا هي صانعة بعد الذي رأت من استسلامه وانقطاعه عن كل مظهر من مظاهر الخصومة والدفاع، وكأن كلابنا فهمت عنه ما أراد وفطنت إلى مغزى حركته تلك، وأدركت دلالتها ومعناها، فابذعرَّت قانعة بما هيأ لها هرنا المغلوب من معاني الفوز والغلب؛ وقام هرنا وسار لطيَّته يرهف سمعه ويقِّلب بصره ذات اليمين وذات الشمال، ويُعد نفسه مرة ثانية لتمثيل الدور نفسه إذا أحوجه الأمر.

وفكرت ملياً فيما شهدت وطفقت أسائل نفسي: أنحن هنا أمام ظاهرة خاصة من ظواهر الحياة قاصرة على الكلاب وخلافها من ذوات الظفر والناب، أم نحن أمام ظاهرة عامة شاملة من ظواهر الحياة تشمل الإنسان والحيوان جميعاً ويخضع كافة الأحياء لحكمها وقيودها؟

ولم يطل أمد الهجس والارتياب، وأيقنت بعد القليل من التدبر أنه حالة عامة شاملة كأعم وأشمل ما تكونه حال من أحوال الحياة وظواهرها.

وتسأل: ما تلك الظاهرة، وما طبيعتها؟ ولا نطيل فهي مما وصفنا ورأيت ما يمكن أن ندعوه (توكيد الذات) وإبراز الشخصية. فكلبنا المعتدي الأول لما هاجم الهرّ بلا عداوة سابقة أو حقد قديم، إنما فعلها ليثبت من قدرة نفسه وحدة أنيابه وقوة عضله، وليؤكد لنفسه أنه ذو غلبة وبطش، ومثله في ذلك الكلاب الأخرى، وعليه لما رأت الهر يتخاذل ويتنازل لها جميعاً عن كل حق من حقوق توكيد الذات غادرته ولم تؤذه.

وأنت ترى مما أثبتنا هنا من عمل الكلاب أن هذا الدافع إلى توكيد الذات في الحيوان دافع فطري غريزي لا يخرج بمجمله عن معنى القتال المباشر الذي تمارسه جميع الحيوانات على اختلاف طفيف بينها في أساليبه وطرائقه.

أم في الإنسان فيتخذ هذا الدافع من توكيد الذات وتقريرها شتى المظاهر ومختلف الأشكال والصور، ولن تخطئ مظاهره - في لون من ألوانه - في الطفل واليافع والشاب والشيخ جميعاً.

والطفل يبدأ سلوكه يتأثر بهذا الدافع من العام الأول في عمره، وكلنا يعرف جيداً ما هي الأساليب التي يصطنعها الصغار لينبهوا إليهم الكبار ويستجلبوا رضاهم وتقديرهم، ومن هنا كان الفهم الصحيح للطفولة يوجب على المربين الانتباه الشديد لهذا الدافع والانتفاع به في توجيه الصغار توجيهاً صالحاً وتحريضهم على الإجادة والتبريز في حدود إمكانهم وكفاياتهم. وفي الحق ليس أقتل لروح الطموح في الطفل ولا أدعى لفشله من أن يغفل الآباء والمربون هذا الطور الدقيق في حياة الطفل ويتركوه وشأنه بلا تشجيع ولا استحسان حيث يستحقان، أو يعكسوا الأمر عليه ويملئوا سمعه بالنقد ويقابلوا حماسته بالفتور وثقته من نفسه بالتشكيك والريبة. ولا نغالي إذا نحسب أن أكثر الفاشلين في الحياة هم ممن كانت طفولتهم نزاعاً بين إهمال الوالدين وقسوة المحيط وبين ما ركِّب في نفوسهم وغرس في طباعهم من ميل جامح قوي لتأييد النفس وتوكيد الذات. وكم من طفل أعجزه أن يحوز رضى البيئة وتقدير الوالدين بأساليب مقبولة ووسائل سليمة، فراح بعدها يصطنع أغرب الوسائل وأخطرها في حاضر حياته وآتيها، كأن يعمد إلى نفسه يؤذيها أذى بليغاً أو يعمد إلى الغير يؤذيه مثل ذلك الأذى، أو كان يعمد إلى الآنية يحطمها والثياب يمزقها ولسان حاله يقول: هو ذا أنا أثبت كياني وأؤكد اقتداري وكفايتي بما ترون إن كان لا يعجبكم ولا ينبهكم إلي إلاَّ مثل ما تشهدون.

وليس من المتعذر أن تتصور حال مثل هذا الطفل، إذ يشب، كيف تكون. وليس من الصعب أن تتبين في مثل هذه الأعمال الشاذة أولى بوادر الإجرام والخروج على النظام وأوضاع الاجتماع. يحكى أن أفراد الشرطة في أمريكا ألقوا القبض، بعد لأي، على لص خطير اعتاد أن يتصدى للقطارات ويسلبها، واقتادوه إلى قاعة التحقيق. وبعد استجواب سيكولوجي دقيق دهش المحققون إذ استبان لهم أن هذا اللص كان في طفولته وحداثته كأشد الناس حياءً وخجلاً. ولما سئل فيم إصراره على أعمال العنف والإجرام أجاب بأنه إنما يفعلها ليؤكد لنفسه أنه ليس من الحياء وخور العزيمة كالذي يحس ويشعر.

هذا ويجب ألا يفوتنا أن معظم أنظمة التربية الحديثة مبنية على هذا الميل مستهدية به. فنظام الصفوف والمباريات والجوائز وما إليها من وسائل التحضيض والتشجيع تتهدى هذا الميل وتستغله. وليس من السهل أبداً أن تستبدل بهذا الدافع للعمل والإغراء به دافعاً آخر من ميول النفس وأهوائها.

ويشب الطفل فيجد نفسه بين الأمر الواقع من جد الحياة وبين هذا الميل القوي الذي لا يغفل ولا يهادن، ويجد نفسه بين العدد الذي لا يحصى من مثبِّطات العزم ومفترات السعي وبين ما أجَّج في نفسه وغرس في طبعه من حبِّ الغلب وشهوة الفوز وبروز الشخصية. فإذا أسعدته الهمة ولاءمته الظروف وسار سيرة ناجحة في الحياة نشأ نشأة بعيدة إجمالاً من شذوذ الطبع وغرابة الخلق وما يصاحبها من شذوذ العمل وانحراف السلوك. أما إذا عاندته الظروف وخانته الكفاية فهناك ما تشاء من شذوذ الطبع وغرابة السلوك. ولدينا صنوف وصنوف ممن ينشئون هذه النشأة الشاذة في الحياة.

فالمتقشفون هم إجمالاً نفر فشلوا في الحياة بعد أن خوَّضوا فيها، أو قدروا الفشل قبل ذلك، فاختصروا على أنفسهم العمل ووقفوا في أول جادة الحياة وبداءة السعي دون أن يحاولوا مضياً في الطريق وزيادة في السعي. لقد أعياهم أن يغلبوا بيئتهم ويتغلبوا على ضعفهم، فانقلبوا على أنفسهم - وهي أهون شيء عليهم - وأحالوا عليها بالخصومة وأضووها بالحرمان وتعوَّضوا بخصومتها عن خصومة المحيط والأضداد من الخارج. ولسنا بالطبع نعزو إلى هذا العكس في ميول الاستعلاء ورغبة البروز وتوكيد الذات جميع نماذج التقشف وإنكار الذات المشهودة، إذ لا ريب أن من حوادث التقشف ما لا يرجع في بواعثه إلى فشل المرء في الحياة كالذي يُرى من تقشف أناس قد تهيأت لهم أسباب النجاح في الحياة وذاقوا لذات الفوز والغلب ولكنهم مع ذلك آثروا حرمان الذات ومطاردة اللذات. على أننا نعود ونقرر أن معظم حوادث التقشف هي في مجملها وسيلة العجز في تقرير الشخصية وتوكيد الذات.

والحسد - كذلك - تعبير صامت واتجاه سلبي معكوس لدافع توكيد الذات. والحسد ينشأ ويتأصل في النفوس كلما تسامت مطالب المرء وبعدت غايته ثم أعجزته القدرة وعاكسه المحيط فلم يسم، عملاً وواقعاً، إلى مستوى مطالبه. ومن هنا يحسب الأخلاقيون وعلماء النفس أن الحسد ظاهرة عامة شاملة بين الناس إذ كان النجاح المطلق الذي يرضى عنده المرء عن كل شيء في الحياة مطلباً صعباً وغاية لا يسمو إليها جهد بشري. ويخيل إلينا أنه لو يسر لامرئ من الناس كل أمانيه ومهدت في سبيله جميع الصعاب ودمثت جميع العقبات وأنيل كافة ما تتشهاه النفوس وتصبو إليه، لفكر بجد وحرقة زائدة في أن ينال كمنزلة الآلهة من خلود مطلق وعلم كامل وقدرة فائقة. ومرجع ذلك أن المرء بطبيعة تكوينه النفسي والفكري مثالي يكره النقص أبداً ويتطلب المزيد والكمال، والكمال لا حد له ولا انتهاء. وهذا لا ريب يفسر لنا لماذا ينسينا نجاحنا الكبير نجاحنا الصغير، ولماذا ينسينا فشلنا الأكبر أبداً فشلنا الأصغر.

والرجل الحساس هو الآخر صنف خاص من الناس فشل في أن يؤكد نفسه ويرغم المحيط على اعتبارها وتقديرها بالقدر القائم له منها في خياله، فغدا - لذلك - سيئ الظن بالناس كثير الارتياب لهم، وصار لكل حركة من حركاتهم معنى الاجتداء عليه والانتقاص له والزراية به، وغدا - كذلك - قليل الاحتمال دائم النفرة سيئ التقدير.

ومثل الحسَّاس - على اختلاف طفيف - الرجل الحيّ. هذا إذا فشل في توكيد نفسه وتمييز شخصه، قام في وهمه أنه امرؤ لا يصلح للعمل ولا يقوى على الجهاد، فانزوى منطوياً على نفسه عاكفاً على همومه مجترّاً لآلامه. إلا أن بينه وبين الحسَّاس فرق أن الحسَّاس يعالن الناس غالباً بما يقدر من سوء رأيهم فيه ويحتجُّ على ذلك ويدافع عن نفسه، بينما الحيُّ في غالب أمره لا يفعل شيئاً من ذلك بل يتجرع آلامه صابراً متحاشياً، بقدر الامكان، أن يجيء والناس بسبيل واحد. ومرجع الفرق هنا إلى أن الحساس له رأي طيب في نفسه بالإضافة إلى ما يتصور من سوء رأي الغير به، بينما الحيُّ يسيء الظن بذاته ويعتقد أن الناس لهم فيه مثل رأيه في نفسه.

ينضاف إلى هذه المظاهر المعكوسة من توكيد الذات مظهر آخر هو مظهر الإسراف في الغرور وتقدير الذات. وهو ينشأ إذ يشبُّ المرء - لأسباب عدة من إساءة التوجيه - على اعتقاد قوي أنه امرؤ فوق الناس، وأن من سخافة الأقدار وغفلة الزمان وجور البيئة أو يولد بين الناس، يعيش كما يعيشون، فيشقى كما يشقون وينعم كما ينعمون ويكتفي من الأماني والآمال بمثل ما يتمنون ويؤملون، ويخيَّل إليك كأنه عاتب على ربه الذي خلق من الناس غيره!!

هذا وقد يتخذ الغرور مظهراً آخر غير مظهره العام حده التشدُّق بالكمال ونقد الزمان والتبرم بالبيئة، ويسير في اتجاه معاكس أو موارب كالذي يُرى في نفرٍ من الناس لم يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم على المحيط ولم يستطيعوا أن يجاهروا بكمالهم ويعالنوا الناس بكفاياتهم واقتدارهم (كما يقدِّرون لأنفسهم)، فانقلبوا - لذلك - صنفاً متواضعاً من الناس لا يهمهم - ظاهراً فقط - أن يتلبَّسوا حالات زريَّة وينتقدوا أنفسهم على مشهد ومسمع من الناس. وقد تغشُّ غير الفطن مثل هذه المظاهر حتى ليعتقد الملاحظ السطحي الذي لم يسبر غور الأمور أن هذه المظاهر تصدر عن عقيدة صادقة بالنفس وإخلاص في التقدير. إلا أنها مظاهر - على كل حال - لا تخفى على المتبصِّر الذي لا يخدعه ظاهر الإخلاص وجودة التمثيل. يحكى أن سقراط رأى فتى أثينياً موسراً يعتلي منصة الخطابة في أسمال بالية وثياب مهلهلة، فنظر فيه سقراط متفرِّساً زمناً ثم خاطبه بلهجة صارمة: أيها الأثيني الشاب، إني لأكاد أرى الغرور والكبرياء ينزَّان من اهابك، ويطلاَّن من وراء كل خرق ورقعة من ثيابك!

تلك بعض المظاهر المسرفة لدافع توكيد الذات. وأما مظاهره الطبيعية التي لا إغراب فيها ولا شذوذ فتقع في أشكال وألوان عديدة لا تقل عن مظاهر الشذوذ والغرابة.

من ذلك هذا الميل العام الشامل لدى جميع الأمم والأجناس إلى التقسيم والتدريج وتأليف الطبقات يتميز بعضها من بعض ويعلو بعضها بعضاً، ثم هذا السعي الدائب والاشرئباب الدائم من الناس إلى تغيير الأمكنة وتبديل المنازل حيث يستحب التغيير والتبديل، ثم ذلك الجمود على ذات الحال والحرص على البقاء في ذات المنزلة حيث لا يشتهى التغيير والانتقال، ولعله ما كان يتحوَّل أبناء الطبقة من الطبقات ولا يتزحزحون عن محلهم صعوداً ولا هبوطاً لو خلا الناس من حافز توكيد الذات والاستباق إلى الأمكنة العلية والمنازل البارزة.

وكما يقع التزاحم على المنازل الرفيعة بين الطبقات يقع كذلك بين الأجناس والأمم والممالك والدول. ولعل دافعاً قوياً من دوافع الحروب كان يزول لو زالت من النفوس رغبة الامتياز وهوى الاستعلاء.

وفي الناحية الفردية يظهر الميل إلى توكيد الذات توكيداً طبيعياً مقبولاً في مظاهر عديدة؛ منها رغبة التميز والتبذير في الاكتشاف والاختراع والإبداع الفني والأدبي؛ ومنها رغبة البروز والامتياز في مجال الاقتصاد وجمع الثروة؛ ومنها حب الغلب والانتصار في ميادين الرياضة البدنية من محاضرة ومصارعة وملاكمة وخلافها؛ ومنها - كذلك - حب الانتصار في ميادين الرياضة العقلية والترويح عن النفس بالنكتة البارعة والفكاهة الطليقة والهزل المستجد؛ ومنها حب التبريز والسمو في ميادين القيادة الاجتماعية؛ ومنها شهوة التغلب والقهر في ميادين الحب والغزل، ومنها خلاف هذا شيء كثير.

فرغبة الامتياز وشهرة البروز في ميادين العلم والاكتشاف والاختراع، وفي ميداني الإبداع الفني والأدبي، هي في أول دوافع الإنشاء والإبداع العلمي والفني. وليست الرغبة في الاختراع والاكتشاف، وفي الإبداع الفني ناجمة فقط مما ركب في النفوس من غرائز الاستغراب وحب الطرافة وما يكون من تسامي دوافع الغريزة الجنسية من مستواها الحسي إلى مستوى أعلى وأجل، إنما هي ناجمة إلى حد كبير مما رُكِّب في الطباع من ميل قوي إلى تقرير الذات والتغلب على الصعاب والعقبات.

وفي مجال جمع الثروة وحشد المال مظهر توكيد الذات ما تراه من عدم وقوف الناس في جمع الثروة عند الحد الذي ييسر جميع مطالب العيش وأسباب الرفاه والدعة. فالمرء يعمل أولاً لرد غائلة الجوع وسد الحاجات الضرورية، فإذا تيسر له مقدار من الثراء يحقق له سد الحاجة وطرد الفاقة انتقل حافز الإنتاج من مجال الحس إلى مجال الشعور، وغدا هدف الإنتاج وتكثيره لذة التميز والانفراد بالشيء. ومن هنا قلما نرى ربّا من أرباب المال يعتريه الفتور والوناء في الجمع والإنتاج، لأن في ذلك وسيلة صامتة يكاثر بها الأعداء ويراغم الخصوم ويدل على الأقران. وهذا الدافع لا ريب يفسر لنا تفسيراً مقبولاً كثيراً من أنواع الاستملاك السخيف، كشهوة جمع الطوابع وتواقيع العظماء ومخطوطات الكتاب، وخلاف هذا مما لا قيمة له في ذاته، وإنما كل قيمته ما يشعر مالكه بلذة الانفراد بالشيء والامتياز عن الناس ولو بالسخيف الذي لا قيمة له في ذاته ولا وزن.

وفي ميادين الرياضة البدنية من أثر هذا الدافع أن اللاعبين والمتثاقفين والمتحاضرين يقررون أشخاصهم ويؤكدون ذواتهم لدى النظارة والمشاهدين. ولولا ذلك لظلت الألعاب الرياضية ظاهرة فردية أكثر منها ظاهرة اجتماعية. وأنت تلمس أثر ذلك جيداً من الحماس الذي يستولي على قلوب اللاعبين كلما كثر عدد المشاهدين وزاد تحريضهم وتحمسهم للاعبين. ولو كان ترويض الأجسام وحده هو المقصود من الألعاب الرياضية لاكتفى اللاعبون بملاعبة ذواتهم ومثاقفة أنفسهم وحسب.

وفي ميدان الرياضة العقلية والترويح عن النفس بالنكتة والهزل يقع هذا الميل موقعاً أول. وما يؤلف من نكتة ويروج من نادرة ويذيع من فكاهة مرجعه في الأصل ميل النفوس إلى التسرية بالظهور والبروز والاستعلاء على الخصم المشهود أو الغائب. فنحن إذ نضحك من موضوع النادرة أو الفكاهة، إنما نضحك لأنها تضع لنا شخصاً أو أشخاصاً موضعاً غريباً ضعيفاً يثير فينا حس الاستعلاء والبراءة من الغفلة أو الجهل أو البقاء. على أن النادرة - في الأحوال الطبيعية - تعجز العجز كله أن تستثير الضحك فينا إذا بلغ الضعف في موضوعها حس الاستعلاء، ويثير بديلاً منه حس الإشفاق والخشية أن يصيب هذا الموضوع شرٌّ أو أذى بليغ. ومن هنا قد يصور لك الكاتب صورة هزلية تستثير الضحك والابتسام، ولكنك لا يسعك إلا أن تجم وتكف عن الابتسام والضحك متى بلغ كاتبك بموضوع هزله حداً مخطراً كأن يتعرض لخطر أكيد أو يضحى على حال تدعو إلى الإشفاق والأسى، ولن يعيدك إلى استشعار الغبطة والسرور إلا أن يعيد لك الكاتب موضوع هزله إلى مثل حاله الأولى التي لا تبلغ من القوة إضعاف حس الاستعلاء فيك ولا تبلغ من الضعف توليد حس الإشفاق والأسى في نفسك.

والميل إلى توكيد الذات وما يستتبعه من شهوة البروز ورغبة الاستعلاء تعمل عملها الأكيد في ميدان العمل الاجتماعي وفي مجال القيادة الاجتماعية، إذ كان الانقياد وحب التعاون يستحيلان على الجمهور إذا لم يقم فيه القادة الذين يفرضون ذواتهم فرضاً على الناس ويقودونهم قيادة حازمة قوية إلى حيث يشاءون لهم من رفعة وخير وصلاح.

وقد يستدرك القارئ هنا ويسأل: أيكون الميل إلى توكيد الذات وشهوة البروز في مجال القيادة والزعامة عامل خير ووسيلة صلاح في ميادين العمل الاجتماعي، ونحن نشهد من آثارهما هذا الميل المسرف والتكالب المزري على أسباب البروز والرفعة في ميادين الزعامة المختلفة، وإن يكن ذلك - في كثير الأحيان - على حساب الأماني العامة وإهدار المصالح الكبرى للشعب؟

ونجيب أن الميل إلى توكيد الذات عن طريق السيادة الاجتماعية ككل ميل آخر من ميول النفس يضحي أداة فاسدة ووسيلة هادمة إذا خبثت النفوس وأسفت الغاية، وعلى أن في يد الشعب - في معظم أمره - القدرة على كبح هذا الميل وحصره ضمن حدود الصالح العام، بما يداول من ثقته بين الزعماء والقادة وبما يشهر بالقيادة النفعية المتاجرة وبما يوليها من المقت والمحاسبة الشديدة، مما يقمع في القيادة عواطف الأثرة وحب الانتهاز والاستغلال حيث تهم أن تبرز وتستعلن. ولا مراء في أن الانتهاز والاستغلال عن طريق القيادة الاجتماعية يقلان في شرفنا إجمالاً قلة مطردة بما تحدثه التربية من رفع مستوى التعليم والتنبه الفكري وتعميق غور العواطف الاجتماعية.

وأخيراً أثر هذا الميل في ميدان الحب، فنرى أن دافع توكيد الذات هذا يعمل عمله القوي في طلب التنويع في الحب وعدم الاكتفاء بحبيب واحد يقصر عليه الهم وينيط به القلب إلى آخر العمر. وذلك أن من الناس من يبلغ حس الاستعلاء وشهوة الغلب ورغبة البروز عندهم مبلغاً يطغى عندهم على عاطفة الحب الصحيح فيغدو لا يهمهم من يحبون بقدر ما يهمهم كم من الخلق وقع في حبائل حبهم، فكأنهم بهذا يقيسون قدرتهم على الغلب والفوز في ميادين الحب بعدد اللواتي يهمُّهن ذكرهم واستحوذت على قلوبهن صورهم.

ونقف عند هذا الحد من التفصيل والتمثيل لهذا الميل في أحواله الطبيعية والشاذة موقنين أن الاستقصاء التام والجلاء الكامل لجميع آثاره إنما هو استقصاء لأعظم حالات النفس أثراً مطبوعاً في الخلق والسلوك وأشدها دافعاً وحافزاً على العمل، وليس هذا المجال مجال ذلك.

أديب عباسي