انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 163/دانتي ألليجييري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 163/دانتي ألليجييري

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 08 - 1936


4 - دانتي ألليجييري

والكوميدية الإلهية

وأبو العلاء المعري ورسالة الغفران

فردوس دانتي

في آخر المطهر أن دانتي تحسى من فرات (ليث) جرعة نزعت ما في نفسه من أدران هذه الدنيا التي لا يجوز لمن ينطوي عليها أن يجوس خلال الفردوس. . . وهي جرعة إلهية جعلت من جسم دانتي هلاماً شفافاً وهيولى نقية استطاع بعدهما أن يرقى في السماء، ويعرج في الأثير، في إثر بياتريس. (1) وأخذ طيف بياتريس يصَّعَّد في الأديم الأزرق المشرب بنضارة البنفسج، وأخذ طيف دانتي يصَّعَّد في إثرها بقدرة الإله العلي، حتى كانا في السماء الأولى، والفتاة الطاهرة في خلال ذلك تحدثه وتتلطف به، وترفه عنه بعض ما كان يضيق به صدره من وساوس. (2) إلى أن دخلا تلك الجنينة الصغيرة التي أرضها من فضة وأنهارها من لجين. . . جنينة القمر! حيث تشرح بياتريس لحبيبها المشدوه سبب تلك الظلال التي تعلو وجه السيار الصغير، والتي يراها الناس من سكان الأرض في هذه الحياة الدنيا. (3) وفي رحاب القمر، يلقى دانتي الفتاة بيكاردا دوناتي التي تأخذ معه في حديث طويل، فتخبره أن هذا القمر هو جنة المساكين الذين نذروا حياتهم للخير في الدار الأولى، وعاشوا عيشة كلها تقوى وكلها بر وورع، ولكنهم، وا أسفاه، لأمور ما، لم يوفوا بكل ما نذروا من فعل الخيرات، ثم تلفته إلى روح الإمبراطورة كوستانزا، تمرح في بعض جنبات القمر، وتلعب. (4) وتنطلق بياتريس، وفي إثرها دانتي، وكلما عمى أمر عليه جلته له صاحبته، (5) حتى يكونا بعد رحلة سماوية جميلة، في كوكب عطارد الذي يقع في السماء الثانية؛ وثمة، يلقيان ثلة من أرواح البررة الأطهار ويتبرع أحدهم فيبدي استعداده للإجابة عن أي سؤال يلقى عليه من أمور الماضي أو الحاضر أو المستقبل. (6) ثم يعرف دانتي أن الشخص الذي عرض عليه هذا العرض إن هو إلا الإمبراطور العظيم جوستنيان الذي يذكر للشاعر من أمور الحياة الأولى، فيما يتعلق بشخصه الإمبراطوري، الشيء الكثير، ويشرع بعد ذلك يحدثه عن عظمة الرومان القدماء، ويعدد له فتوحهم وخوالد غزواتهم دوخوا بها أقاصي الأرض في ظلال بنودهم التي تحمل رمز رومة الخالد. . . النسر. . . ويذكر له أن روح روميو فلنيف تمرح في رياض عطارد ذات الزهر والأفواف. (7) وتتفرق الأرواح عن دانتي، وينطلق جوستنيان غير مستأذن، ولكن شكوكاً كثيرة تثيرها كلمات الإمبراطور في نفس الشاعر من أجل الفداء البشري، فتشرع بياتريس تقشعها واحداً فواحداً من نفس خليلها؛ (8) ويعرجان إلى السماء الثالثة حيث الكوكب الجميل المتلألئ فينوس (الزهرة)، وحيث يلقى الشاعر صديقه العزيز الكريم شارل مارتل الذي يحدث دانتي عن مملكته الواسعة المترامية الأطراف التي كان يسيطر عليها في الدار الأولى، ثم يتغير الحديث فجأة إلى الأبناء والأحفاد والسبب في اختلاف فطرتهم وطبائعهم عن طبائع آبائهم (9) ويمضيان فيلقيان روح ابنة الهوى كيونيزا التي طالما فتنت قلوباً وعذبت بحبها أفئدة، والتي كانت تملأ الأرض فسوقاً وتفعم المدائن دعارة، ثم تابت وثابت، وندمت على ما قدمت، وأقبلت على فعل الخيرات؛ وحدث أن ورثت عن أبيها عدداً من الأرقاء فمنحتهم حريتهم، وبذلك غفر لها وتُقُبِّل توبتها، وهي في هذا المكان من فينوس لا تطمع في درجة أعلى؛ ويمضيان فيلقيان فولكو الشاعر المنشد فيحدثهم عن الزانية، خضراء الدمن، رحاب التي تابت هي الأخرى فغفر لها، وسكنت هذا الكوكب مع كيونيزا. وبعد أن ينتقد الشاعر فولكو بابا روما وينعى عليه تغاضيه عن استرجاع الأراضي المقدسة يعود فيتنبأ عن بعض الكوارث التي تتربص به طي الغيب، والتي ستسحق سلطته. (10) ويعرجان صعداً فيكونان في الشمس (!!) التي يعتبرها دانتي السماء الرابعة، وما يكادان يبلغانها حتى تحدق بهم ثلة من اثني عشر روحاً، ويتقدم أحدهم (توماس أكويناس) فيقدم أصحابه إلى دانتي ويخبره عن درجاتهم (11) ثم يتوسع أكويناس في سرد حياة القديس فرنسيس، الراموز الملائكي للحب، ويلحظ أثارة من الريب تنشب في فؤاد دانتي فيحدثه عنها ويجلو له الحق الذي يمترى فيه. (12) وتقبل ثلة أخرى من اثني عشر تقياً فيتقدم أحدهم (القديس دومينيك) ويسرد أسماء أصحابه لدانتي. والقديس دومينيك هذا هو الراموز الملائكي للحكمة. (13) ويعود توماس أكويناس إلى حديثه مع دانتي، وكلما لمح أثارة من الشك في نفسه نبأه بها وجلاها له، وحذره من الوسواس وحذره من أن يحكم بقلبه أو عقله على شيء دون أن يدرسه ليصل إلى حقيقته. (14) ويبرز سليمان النبي من وسط الجماعة فيحدث دانتي عما يكون من مظهر الصالحين من عباد الله بعد البعث. ثم يعرجان إلى السماء الخامسة التي هي مارس (المريخ) في زعم دانتي، ويريان ثمة أرواح الشهداء الذين حاربوا تحت رايات الصليب الخفاقة، ولم يخشوا في سبيل ربهم أن يجرعوا غصص الموت. . . أولئك قد بدت عليهم سيماء الصليب، وما تفتأ أرواحهم ترسل في الفردوس أناشيد الخلود المرنة تطريباً لعباد الله السعداء. (15) ويبرز من بين الملأ سلف دانتي الصالح كاشيا جيداً، ويأخذ مكانه تحت الصليب، ثم يتعرف إلى دانتي الذي يفرح به ويهش للقائه، ويأخذ في حديث طويل عن ماضي فلورنسا السعيد الحافل وينعى على الخلف ما فرطوا في جانب الوطن وما أوضعوا في الفتنة، ومرجوا في الضلالة (16) ويخبر دانتي عن يوم ميلاده، ويصف له مجد فلورنسا ومدى حدودها في أيامه والأسر العريقة التي كانت تزدان بها تلك المدينة الشيقة التي انحطت أرومتها وفسد طيب محتدها واتضعت أقدار القروم من أهلها الأعلين (17) ويرسل كاشيا جيدا حبل القول فيتنبأ لدانتي عما يتربص به من غدرات الزمان والنفي من حظيرة الوطن حين يعود أدراجه إلى الحياة الدنيا. ثم ينتحي ناحية ويتناول طرساً من أوراق الجنة، وقلما من قصباتها ويشرع في كتابة شعر طويل ريق. (18) ويمضيان فيريان طوائف شتى من أرواح المحاربين الشهداء الذين خاضوا معامع الحروب الصليبية يمرحون في أفياء الجنات الوارفة التي يهتز عنها المريخ؛ ثم ترسل بياتريس عينيها العميقتين في لازورد السماء، وتشير إلى دانتي فيعرجان في الأثير إلى جوبيتر (المشتري) الذي هو السماء السادسة في حساب شاعر الكوميدية وهناك يلقيان جموعاً زاخرة من أرواح الصالحين الذين حكموا بين الناس بالعدل ووزنوا بالقسطاط المستقيم. ويكون هؤلاء أنَّى توجهوا مكونين دائماً شكل نسر (رمز رومة القديمة). ثم ينتهي الفصل بحملة شعواء على رجال الأكليروس وما اشتهروا به من الطمع وحب الذات والتكالب على حطام الدنيا وجمع الأموال بالحق وبغير الحق؛ ويخص دانتي رجال البابا بالقدح الأكبر من هذه الحملة (19) ويتكلم النسر الذي تكوّنه هذه الجماعة بلسان واحد مبين، فيقص على دانتي السبب الذي من أجله اتُّخذ رمزاً لعظمة الرومان. ثم يتكلم دانتي كلام المتشكك عما إذا كان محتملاً أن (يَخْلُصَ) الرجل من الناس من عذاب الجحيم من غير أن يكون مؤمناً بالمسيح مصدقاً به، فينبري النسري للإجابة ويزيل الريب من نفس دانتي ويخاطبه في شأن أصحاب السيطرة والحكام من المسيحيين وما سيؤدونه من الحساب الثقيل يوم القيامة. (20) وكذلك يمتدح النسر عدل بعض الملوك وورعهم، ويكوِّن هؤلاء عين النسر نفسه، وفي إنسان عين النسر يقف النبي داود، وفي الدائرة المحيطة به يقف تراجان وحزقيال وقسطنطين ووليم الثاني ملك صقلية وزفيوس. . . ثم يوضح له كيف وصلت أرواح هؤلاء إلى الفردوس وهم لم يؤمنوا بالمسيح (ولكنهم عملوا بما جاء قبله من لدن الرب فاستأهلوا دار المثابة). (21) ويسموان في السماوات العلى، فيبلغان السماء السابعة التي هي سَاتِرْن (زُحَل) حيث يسمق منه سلم ذاهب في الجو لا تدرك آخره عينا دانتي. وفي زحل يلقيان أمماً من أرواح الصالحين الذين قضوا حياتهم الأولى في اعتزال وصوفية وتأمل. ثم يدنو منهما روح كريم نقي، وهو روح خليل المسيح الورع التقي بييرو داميانو (أحد كرادلة الكنيسة ومصلحيها العظماء) فيجيب على أسئلة كثيرة يوجهها إليه دانتي، ثم يقدح في ذمم القسس الأخسّاء ورعاة الكنيسة الذين فتنتهم الدنيا بزخرفها وصرفتهم عن وظائفهم الدينية وشغلتهم عن هداية الناس. (22) ويريان جموعاً أخرى من الأتقياء المتفكرين ومن بينهم القديس الأطهر بندكت الذي يذكر لدانتي أسماء أصحابه الراضين في ظلال الرب في فراديس زحل. ثم يستطرد فيذكر أن المسوح والزنارات وسائر ألبسة القساوسة ورجال الكنيسة لا قيمة لها ما لم تزنها مسوح من الخلق الكريم والتقى والنقاء. ويزيد فيقدح في خراب ذمم الرهبان والأحبار وفساد ضمائرهم. وينطلق الألفان فيعرجان إلى السماء الثامنة، سماء الأنجم الثابتة، التي يدخلانها من الهَنْعَة. ومن ثمة يرجع دانتي بصره كرتين إلى الوراء فتبدهه المسافة الهائلة بينه وبين الأرض (23) وهناك، يرى المسيح (صلوات الله عليه) يأخذ بناصر الكنيسة ويشد أزرها، ومن حوله الملائك الأطهار يسبحون لله ويلهجون بحمده. ثم يسمو السيد المسيح فيعرج في السماء العليا وفي أثره أمه البتول مريم، شاخصة إليها أبصار الجميع. (24) ويتقدم القديس بطرس من دانتي فيسأله بضعة أسئلة يعرف بها إخلاصه ونقاء إيمانه، ويجيب دانتي فيقنع القديس بالكلم الطيب والبيان البريء (25) ويتقدم القديس جيمس فيسائل دانتي عن الأمل، ثم يبدو القديس يوحنا فيدهش دانتي لرؤيته، ولكن القديس يمحو دهشه ويذكر له أنه عرج إلى السماء بروحه فقط، ولم يعرج إليها بروحه وجسمه إلا المسيح وأمه مريم. (26) ثم يسائله القديس عن الفضيلة فيجيب دانتي إجابات ناصعة. وينظر الشاعر فيشدهه أن يرى أبانا آدم، فيتأدب ويتقدم إليه، فيخبره أبو البشر عن كيفية خلقه وإقامته في الفردوس ومدى إقامته فيه، ثم ما تلا ذلك من خروجه منه وسببه، ثم عوده إليه، ويتظرف فيذكر له أسم اللسان الذي كان يتكلم به في بدء الخليقة ويعود القديس بطرس فيصل حديثه، ويحمل على خلفه حملة شعواء لما اتصفوا به من جشع ذهب برواء الأبرشية الرسولية، وينسى دانتي فيحدق نظره في بياتريس غافلاً عما أوصته به في أول الرحلة إلى الفردوس فتأمره أن يغضي. . . . فيفعل. . . . ثم يعرجان إلى السماء التاسعة حيث يطلعان على الحق الجلي من أمر هذا الخلق، وحيث يشهدان فطرة الطبيعة في جماع فضائلها، وتسخط بياتريس على الإنسان (ما أكفره. . . يكون أمامه الخير بيّنا والشر بيّنا، ثم يدلف بعلمه في طريق الشر، مضحياً هذا الفردوس من أجل هنات هينات) (28) ويؤذن لدانتي فيطلع إلى الوجود الإلهي، ثم يطلع إلى الخورس الملائكي يرسل ألحانه الكنائسية الرائعة في قبة الفردوس. (29) وتنظر بياتريس في مرآة الحق الإلهي (هكذا) فترى أن بضعة شكوك قد نفذت إلى فؤاد دانتي وظلت ثمة تساوره، فتضاحكه، ثم تفجأه بما يفكر فيه، وتجلو له ما نفذ إلى قلبه من ذلك الوسواس، وتذهب في القول مذاهب شتى، وتنتهي إلى ذم رجال الدين الذين شغلتهم الدنيا عن نصرة الإنجيل. (30) ثم يدخلان سماء المنتهى ذات السناء الساطع والضوء اللامع، ويكاد نظره ينبهر لولا أن تدركه بياتريس. . . ويرى إلى نهر الضوء المتألق فينظر كيف ينتصر الملائك على شرور العالم وكيف ينتصر معهم المؤمنون المباركون. (31) ويتلفت الشاعر فلا يجد فتاته إلى جانبه، بل يجد مكانها رجلاً طاعناً في السن إذا تفرس فيه عرف فيه القديس برنارد الذي يخبره أن بياتريس قد عادت إلى عرشها ثم يريه بركات العذراء مريم عليها السلام (32) ثم يريه كذلك أرواح القديسين الذين وردت أسماؤهم في العهدين (الجديد والقديم) (33) ثم يدلف القديس برنارد نحو البتول الكريمة فيرجوها أن تمنح بركتها لدانتي وتسبغ عليه من نورانيتها حتى يستطيع التأمل في عظمة الله. وتهب له مريم ما سأل، فينكشف الغطاء ويلقى دانتي ربه فيصلي له ويضرع إليه أن يهبه إشراقة يضفيها على كتاباته وأشعاره. ثم يؤذن له فيخطف لمحة من الثالوث المبارك العظيم الذي يتحد فيه الله القدير (جل وتعالى) بالإنسان.

ويفيق دانتي، وتنتهي رؤياه العجيبة. وسنرى من الكلمات التالية كيف اقتبس الشاعر صور القرآن الكريم وأخيلة الإنجيل الجميلة، وطريقة فرجيل في الجزء السادس من الأنييد، فتم له هذا العمل الفريد.

(لها بقية)

د. خ