انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 163/الثورة الأسبانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 163/الثورة الأسبانية

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 08 - 1936



بقلم باحث دبلوماسي كبير

كانت أسبانيا قبل بضعة أعوام تحيا حياة عادية، وتتمتع في ظل الملوكية بنوع من الاستقرار والسكينة، لا يزعجها سوى بعض الأزمات الداخلية والاضطرابات المحلية. ولكن أسبانيا شاءت منذ بضعة أعوام أن تحطم نير الملوكية، وأن تقيم حكومة جمهورية شعبية؛ وكانت الملوكية الأسبانية تحتضر في الواقع قبل ذلك بأعوام، في ظل حكومة الطغيان العسكري التي فرضها الجنرال بريمو دي رفييرا على أسبانيا منذ حوادث مراكش الشهيرة؛ وكانت أسبانيا تعاني مرارة هذا الطغيان المرهق ساخطة متربصة؛ فلما توفي الجنرال دي رفييرا اضمحل نير العسكرية؛ وحاولت الملوكية أن تستعيد سلطانها القديم، ولكن الشعب الأسباني كان قد سئم حياة الذلة في ظل النظم المطلقة، فانتهز فرصة الانتخابات العامة التي أجريت في ربيع سنة 1931 وأبدى رغبته جلية في مناصرة الجبهة الجمهورية، وشعرت الملوكية أنه لم يبق لها أمل في البقاء، فآثرت أن تنسحب في سكينة، وأن تترك الميدان حراً للشعب الذي لفظها وأباها.

وهكذا قامت الجمهورية الأسبانية نتيجة ثورة سليمة لم يشبها سيل الدماء، ولا ويلات الحرب الأهلية؛ واعتقد الشعب الأسباني، واعتقد العالم أن أسبانيا سوف تستقبل في ظل الجمهورية حياة جديدة من الحرية والسكينة والرخاء.

ولكن الجمهورية الأسبانية ولدت ضعيفة مفككة العرى، ولم يستطع زعماؤها منذ البداية أن يجمعوا كلمتها أو يوحدوا قيادتها ضد القوى الرجعية التي كانت تتربص بها؛ ومنذ البداية انحدرت الأحزاب والقوى الجمهورية إلى غمر الخصومات والمعارك المحلية؛ ونمت الحركة الاشتراكية في ظل النظام الجديد بسرعة، واستطاعت ولاية قطلونية مهد الاشتراكية الأسبانية أن تملي إرادتها على حكومة مدريد، وأن تفوز باستقلالها المحلي؛ وتوالت الأزمات الداخلية والاعتصابات المحلية، وزادت الأزمة الاقتصادية في حدة هذه الاضطرابات وخطرها على الجمهورية الفتية؛ وألفت الجمهورية نفسها عاجزة عن ضبط القوى التي أثارتها، وتعاقبت الحكومات بسرعة، وسارت البلاد مسرعة إلى الفوضى؛ ولم تدرك الأحزاب الجمهورية أنها بهذه المعارك المستمرة تمهد لفوز القوى الرجعية الت تتربص بها.

وكان الجيش مهد هذه القوى الرجعية التي تناصرها فلول الملوكية الذاهبة؛ وقد دبر فلول الملوكية وفلول النظام القديم في الأعوام الأخيرة عدة محاولات ومؤامرات لإسقاط النظام الجمهوري، ولكنها فشلت جميعاً، لأنها كانت محاولات محلية لا تؤيدها قوة عامة. على أن روح التبرم والسخط كانت تضطرم دائماً في معظم وحدات الجيش؛ ولم ينس زعماء العسكرية أنهم تمتعوا بسلطان الحكم في عهد الطغيان العسكري، وأن قيام الحكومة الجمهورية إنما هو قضاء على سلطانهم ونفوذهم؛ ورأوا من جهة أخرى ما يشجع آمالهم ومشاريعهم في عجز الحكومة الشعبية، وتوالي الاضطرابات العامة، وسأم الشعب من هذه الفوضى التي يذكيها تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتوالي الاعتصابات.

وقد ألفت العناصر العسكرية الناقمة فرصتها في الاضطرابات والاعتصابات الأخيرة التي دبرها الشيوعيون بالأخص، والتي ما زالت منذ أسابيع تزعج حكومة مدريد وتستنفد اهتمامها وقواها، فأعلنت خروجها على الحكومة، واتخذت (تيطوان) عاصمة مراكش الأسبانية قاعدة لها؛ وقد كانت مراكش الأسبانية وما زالت معقل العسكرية المتمردة؛ بيد أن زعماء الثورة كانوا قد اتخذوا أهبتهم في كثير من القواعد الأسبانية في الشمال والجنوب حيث تحتشد العناصر المعارضة لحكومة مدريد؛ وكان إعلان الثورة في الثامن عشر من يوليه في منطقة الحماية الأسبانية، حيث أعلن زعيم الثورة الجنرال فرانكو ثورة الجيش على حكومة الجمهورية، ووجوب تخليها عن الحكم. وفي الحال اجتازت عدة فرق من جيش مراكش البحر إلى الشاطئ الأسباني من جهة الجزيرة ومالقة. ولم تكن حكومة مدريد جاهلة بالأمر، بيد أنها اضطربت لقيام الثورة في عدة مناطق دفعة واحدة، وزاد في اضطرابها أن الوحدات البحرية والجوية التي سيرتها لمقاتلة الثائرين، وإطلاق قنابلها على تيطوان، انضم معظمها إلى الجيش الثائر.

وفي الحال اتسع نطاق الثورة، وانضمت حاميات الشمال في ولايات ليون وأراجون وجليقية إلى جانب الثورة؛ واخترق الجيش الثائر ولايات الجنوب بسرعة، واستولى على قواعد الأندلس: قادس وغرناطة وأشبيلية؛ واتخذ أشبيلية قاعدة للزحف على مدريد، وأعلنت القيادة الثائرة سقوط حكومة مدريد، وقيام حكومة أسبانية جديدة في الأندلس.

أما حكومة مدريد فلم تر أمامها بعد الذي رأته من تمرد القوى النظامية سوى الاعتماد على التجنيد العام. ولنلاحظ أنه في خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى من قيام الثورة تعاقبت ثلاث وزارات في مدريد ولم تمكث إحداها سوى أربع ساعات، واستقال رئيس الجمهورية السنيور أزانا؛ وفي الحال حشدت حكومة مدريد قوات جديدة من بين العمال والطوائف الموالية لها وهي التي تجتمع حول الجبهة الاشتراكية، وسيرتها لمقاتلة الثوار في الشمال والجنوب مع بعض القوات النظامية التي لبثت موالية لها. ومنذ أكثر من أسبوعين تضطرم أسبانيا بسلسلة لا نهاية لها من المعارك الدموية، وتقول الحكومة في بلاغاتها دائما إنها تقبض على ناصية الموقف وإنها دحرت الثائرين حيثما دارت رحى الحرب الأهلية. وتذيع القيادة الثائرة من محطات الإذاعة اللاسلكية في أشبيلية أنها دحرت قوى الحكومة، والأنباء المتضاربة تتوالى من الجانبين، بيد أنه يلوح من سير الحوادث والظروف أن جيش الثورة إذا استثنينا منطقة قطلونية الاشتراكية حيث دحرت العناصر الثائرة، يتقدم في معظم المناطق بسرعة؛ وقد أشرفت القوات الثائرة على مقربة من مدريد ونشبت بينها وبين قوات الحكومة معركة هائلة في (وادي راما) يقال إن الخسائر فيها بلغت من الجانبين زهاء عشرين ألفاً؛ والخسائر فادحة في جميع المناطق على وجه العموم، وخصوصاً في القوات غير النظامية التي حشدتها الحكومة من طوائف لا خبرة لها بالقتال. بيد أن قوات الحكومة استطاعت أن تقف زحف الثوار في الشمال. وأما في منطقة مدريد، فلا تزال المعارك دائرة حتى كتابة هذه السطور؛ والظاهر أن قوات الحكومة استطاعت أن تصمد في وجه الثائرين، لأن زعماء الثورة يقولون إنهم يعتمدون في سقوط مدريد على الحصار وقطع مواصلاتها حتى تضطر إلى التسليم جوعاً.

ويقول زعيم الثورة الجنرال فرانكو، إن الثورة ترمي إلى إنقاذ أسبانيا من براثن الشيوعية وانتشالها من تلك الهوة السحيقة التي تتردى فيها مذ غلبت عليها أحزاب اليسار واستولت على مقاليد الحكم، وإن الروح الثورية قد أضرمت في الشعب واستغلت لجانب الشيوعية، وإن الجيش لا يستطيع صبراً على تلك الحال المخزية التي تبدو بها أسبانيا أمام العالم، وإنهم قد اعتزموا إنقاذ أسبانيا من قبضة أعدائها الذين كادوا أن يقضوا على كيانها الاقتصادي. ويقول في بلاغه الذي أصدره إلى الجيش: (إن الاعتصابات الثورية تشب من كل جانب وتشل حياة الأمة، وتقضي على رفاهتها، وتدفع بالشعب الأسباني إلى الجوع واليأس، وإن ذخائر أسبانيا الفنية قد أضحت عرضة لهجمات الجموع الثائرة التي تصدع بأمر الأجنبي، وتمقتها السلطات؛ وإن الأمة تدعو الجيش اليوم وتناديه لإنقاذها. . . الخ).

أما برنامج الثورة فيلخصه الجنرال فرانكو فيما يأتي: تحقيق السلام والإخاء بين جميع الأسبانيين، وضمان العمل والعدالة الاجتماعية، والقضاء على الانتخابات المزيفة، والاعتصابات المدبرة، وحماية الحكومة المدنية من كل النزعات الثورية، وحماية أسبانيا من الدسائس الأجنبية التي تعمل لخرابها. . .

على أننا نستطيع أن نتبين من خلال هذه الحوادث والظروف حقيقة أخرى، هي أن الحرب الأهلية تضطرم في أسبانيا من جبهتين من المبادئ، أعني بين الديمقراطية والفاشستية، وهذه هي نفس المعركة التي نشبت وما زالت تنشب في كثير من الأمم الأوربية بين قوى الطغيان والديمقراطية. ولا ريب أن الفوضى التي تعانيها أسبانيا منذ قيام الجمهورية، والأزمات الداخلية المستمرة، هي ذريعة القوى الرجعية في القيام بحركتها، وهي التي أدت بالحكومة الجمهورية إلى هذا الضعف الذي يعرضها إلى السقوط. ونلاحظ أن أسبانيا توجد اليوم في ظروف تماثل ظروف إيطاليا قبل قيام الفاشستية؛ فقد انتهت بها الاضطرابات الاشتراكية المتوالية إلى مثل الحالة التي تعانيها أسبانيا اليوم وألفت الفاشستية، أو بعبارة أخرى قوى الطغيان الفرصة سانحة للقيام بوثبتها، والقبض على ناصية الحكم إلى يومنا.

وليس من ريب في أن العسكرية الأسبانية المتمردة ترمي بوثبتها إلى غايات فاشستية محضة؛ ومهما كان من الصيغ والتصريحات الخلابة التي تستتر وراءها في القيام بحركتها، فإن ظفرها يعتبر خطراً على أسبانيا من الوجهة الدستورية؛ ذلك أن قيام الدكتاتورية العسكرية معناه القضاء على النظام الجمهوري، وما يترتب عليه من الحقوق والحريات العامة، والعودة إلى نظام الطغيان الذي أنشأه الجنرال دي رفييرا قبل ذلك بعشرة أعوام، وربما كان ظفر العسكرية من جهة أخرى مقدمة لعود الملوكية الأسبانية، وقيامها ثانية في كنف العسكرية الطاغية، ورهن نفوذها وإشارتها.

وثمة حقيقة أخرى، هي أن هذه المعركة التي تضطرم اليوم في أسبانيا بين قوى الطغيان والديموقراطية بصورة مادية مروعة، إنما هي ناحية من المعركة العامة التي تدور رحاها اليوم في أوربا بأسرها، تارة في الجهر وتارة في الخفاء، وربما كان من الصعب اليوم أن نتبين نتائج هذه المعركة الحالية في المستقبل القريب؛ بيد أن الذي لا ريب فيه هو أن الديموقراطية فقدت كثيراً من قوتها القديمة، وأدت بضعفها وتخاذلها وما كشفت عنه في الأعوام الأخيرة من نواحي الفساد، إلى إضعاف العقيدة الديموقراطية وتحول جانب كبير من أنصارها إلى الجبهة الخصيمة؛ وهذا وجه الخطر في مستقبل الديموقراطية. وإذا أسفرت المعركة الحالية في أسبانيا عن فوز العسكرية الطاغية، فإن ذلك يكون ضربة جديدة للديموقراطية بأسرها، وعاملاً جديداً في انتعاش القوى الرجعية، ونذيراً بالمستقبل المظلم الذي يهدد الديموقراطية في جميع البلاد التي لا زالت تصمد فيها.

(* * *)