مجلة الرسالة/العدد 161/القصص
مجلة الرسالة/العدد 161/القصص
قصة سورية واقعة
النهاية. . . .
للأستاذ علي الطنطاوي
في ليلة قمراء من شتاء 1929
بينما كان حيّ المهاجرين (في دمشق) يرفل في حلل الرخاء والترف، ويجر أثواب الدعة والنعيم، ويثب من الطرب، ويمشي على الذهب. . . وبينما كانت قصوره البُلْق تشتعل بالكهرباء فتأتي في الليل بالنهار، وشوارعه المتوازية الصاعدة إلى سرّة الجبل تتمايل أشجارها تمايل العروس، وتلوح أنوارها للعين، كأنها في تسلسلها وانتظامها حبال اللؤلؤ، ويسبغ عليها القمر حلة منسوجة من خيوط النور، وتتراقص على نسيمها المعطر نغمات الحاكي والمذياع. . .
. . . كان في الشارع العام الممتد على سفح الجبل، شيخ همّ، أبيض اللحية، متفكك العظام، مقوس الظهر، قد أخنى عليه الزمان، وحطمه الدهر، يسير منفرداً يتوكأ على عصا، لا أنيس له إلا ظله الذي يمشي معه، ينمو ويتطاول كلما ابتعد عن المصباح، ثم يضعف ويختفي، ثم يولد ظلّ جديد. ويبدأ قوياً واضحاً، كما تنمو الكائنات وتقوى، ثم يدركها الضعف، ثم تبيد لتأخذ مكانها كائنات أخرى أقدر منها على العيش، وأحق منها بالحياة. . . حتى بلغ (قصر الوالي)، هذا القصر الأبيض الفخم، المعتزل وسط الجنائن الواسعة، الذي يخطر أمامه الجندي الذي يحمي (حمى رئاسة الجمهورية. . .) فوقف على الدرابزين وجعل يحدق في القصر ويتأمل شرفه ونوافذه المضيئة، ويستمع إلى صوت الحياة الرغدة الناعمة ينبعث من غرفه وأبهائه، حتى علق بصره بغرفة بعينها ينبثق منها ضوء شديد، فجعل يحدق فيه حتى زاغ بصره وعراه شبه دُوار، فجلس على طرف الدرابزين وأمسك بحديده البارد، وألقى برأسه على كفه، وأنطلق يفكر. . . يفكر في دنيا بعيدة. . . بعيدة جداً، قد طم عليها لجّ النسيان؛ يعالجها بالذكرى، فيراها ينحسر عنها الماء، وتبدو له شيئاً بعد شيء، وتعرض عليه كما يعرض (فلم سينمائي) غريب عنه لا عهد له به، ولا صلة بينه وبينه، وان كان من القائمين به، والممثلين فيه. . .
. . . ففتح عينيه، وراح يحدق في الظلام
رأى دمشق في أواخر القرن التاسع عشر - وهي ولاية عثمانية - ورأى ناظم باشا (والي دمشق) وقد اصبح ذات يوم لقسَ النفس ضيق الصدر، فأقبل على عمله فلم يجد له عزماً. فعمد إلى المطالعة والتسلية فلم يزد إلا ضيقاً. فأمر أعوانه أن يتمموا له منزلاً جميلاً مشرفاً، فينصبوا فيه خيامه، ويعدوا فيه مجلسه، ليصطبح فيه، وينزله بقية يومه. فتسابقوا إلى طاعته، وتباروا في خدمته، فلم تكن إلا ساعة واحدة حتى كان المجلس معداً. فلما جلس واطمأن نظر فرأى منظراً عجيباً، ما رأى له مثيلاً وقد جاب أنحاء المملكة: رأى كأن أمامه متحفاً للطبيعة فيه من كل مشهد صورة، ومن كل لون مثال؛ فحواليه تلال وسفوح ما لها حدّ، وعن يمينه جبال صخرية قائمة فيها روعة وعليها جمال، ومن أمامه (يزيد) يجري زاخراً مزبداً يحيط بهذه السفوح ويحدق بها، وهو يلمع في شعاع الشمس فتخاله العقد مستديراً بجيد حسناء، ومن وراء النهر الغوطة الخضراء، إحدى عجائب الدنيا، تمتد إلى نهاية الأفق، والمزة وصحراؤها الواسعة، وسهولها الفيح، فلم يكن يشاء أن يرى جبلاً ولا نهراً ولا خضرة ولا بادية إلا رآها، والسماء تبدو حيال الأفق كأنها البحر، يا لروعة البحر في دمشق. .!
ودمشق تظهر من بعيد، وهي نائمة على هذا البساط السندسي الأزلي، عليها غطاء من نسج الغصون موشي بالزهر، وقد هبت عليها نسائم الصباح الرخية، تمس وجهها مساً رفيقاً، وسقسقت في أذنيها العصافير توقظها برقة ولطف، وهدر في مسامعها بردي يهزها كي تفيق. . .
والجامع الأموي يظللها بقبته المشمخرة العالية، ومآذنه الطويلة السامقة، وبنائه الضخم الهائل، الذي يحمل أعباء القرون الثلاثين التي مشت عليه، مذ كان معبداً وثنياً - إلى أن صار - كنيسة نصرانية، إلى أن سما فكان مسجداً إسلامياً، يجهر فيه بالآذان، فيرن صداه على ضفاف الكنج، وشاطئ اللوار، ويقوم الناس إلى الصلاة صفاً واحداً ممتداً من قلب الهند إلى قلب فرنسا
فانتفي عنه الهم، وطار به السرور، فسأل من حوله: - ما للدمشقيين لا يبنون هنا، ويقيمون على هذا السفح حياً لا يكون مثله مصيف في الدنيا ولا مشتى؟
فما بقي منهم إلا من وثب الضحك إلى شفتيه، وهم بقهقهة مجلجلة، ولكنه أمسك حرمة للوالي، وحياء منه، وقالوا له:
- ولكن يا مولانا، من يرضى أن يقيم في هذا المنفى ويسكن في جبل أجرد، لا ماء فيه ولا نبات، ويسافر كل يوم ساعة كاملة، ليصلي في الأموي، أو ليرد السوق؟
فأطرق الوالي يفكر ويجيل عقله الكبير وعزمه النافذ في كافة الممكنات ليجعل من هذه السفوح القاحلة أجمل حي في اجمل مدينة، ويحيل هذه الرمال رياضاً تجري من تحتها الأنهار!
ثم انقطع الفلم ودار ابيض يحمل أياماً وسنين خالية لا شيء فيها ثم وضحت فيه صورة. . .
فإذا هو يرى حادثة كريد (اقريطش) حين غدرت أوربا - على عادتها دائماً - بالمسلمين، وشردت أهل الجزيرة من آمن منهم بالله واليوم الآخر بين سمع الأرض وبصرها، فدعا بهم ناظم باشا والي الشام وجمعهم وبنى لهم من أموال الدولة بيوتاً صغيرة متشابهة، متشابهة كمحطات القرى، ضيقة كغرف الخفراء، بناها على سفح قاسيون فكان لهم عصمة ومأوى، وكانت للحي الذي يحلو بذرة ونواة
ثم استدار الفلم وإذا بدمشق خارجة تستقبل إمبراطور ألمانيا وقد جاء يزورها زيارته المشهورة، ففرشت له الحكومة الحرير وأوطأته الديباج، فلم يطلب من ناظم باشا إلا أن يزيره الجبلين العظيمين والأثرين الخالدين: قاسيون، وقبر صلاح الدين! فانطلق العملة والبناءون يقيمون له على سفح قاسيون (المسطبة) التاريخية التي تدعى اليوم وإلى الغد (مسطبة الإمبراطور) ويمهدون له الطريق إلى مقبرة صلاح الدين في الكلاّسة
وهناك في أصل جدار الأموي الشامخ، وعلى هذه العتبة الواطئة وقف إمبراطور ألمانيا، وأعظم ملوك العصر، مطأطئ الرأس خاشعاً خاضعاً، ثم ركع على ركبتيه، ثم سار حبواً حتى وصل إلى جانب القبر، فوضع عليه إكليلاً من الزهر، وقال:
- هذه لك يا سيد أبطال العالم ثم أمَّ قاسيون، فلما استوى على (المسطبة) ورأى هذا المنظر استخفه الطرب فصاح:
- ما على الأرض أجمل من دمشق! ما على الأرض أجمل من دمشق!
فصحت عزيمة الوالي على إنشاء الحي، وبادر إلى الأمر ببناء هذا (القصر الأبيض)
واستدار الفلم فرأى ناظم باشا قائماً في شرفة القصر، يتأمل في الوفود الذين أتوا ساحة القصر، ليكرموا الرجل الذي تغلبت إرادته الماضية على الصخر الأصم فخرقته، وعلى البعيد النائي فقربته، حتى تم مد القناة العظيمة من الفيجة إلى دمشق لتسقي اهلها، وتسيل في هذا الحي الذي قام ليكون زينة دمشق وعروسها. . .
ورن في أذنيه صوت الخطيب وهو يقول للوالي:
(. . . . . . إن دمشق التي أحببتها وسقيتها وعمرتها، لن تنسى فضلك أبداً: ولن تحيد عن حبك وإكبارك، وسيظل منقوشاً على أفئدة أبنائها إلى آخر الدهر هذان الاسمان العظيمان اسما مصلحي دمشق: مدحت باشا. وناظم باشا)
ثم انقطع (الفلم) وتبدد الحلم، وأحس الشيخ بيد قوية تقبض على كتفه، فعاد إلى نفسه ورفع رأسه فإذا الجندي القائم على باب القصر، يصيح به:
ماذا تصنع هنا أيها المتشرد؟
ثم يكسعه ويضربه أم كيسان، فيقوم الشيخ ورأسه إلى الأرض من غير أن ينطق بكلمة. . .
عاد الشيخ أدراجه يطوف الحي، ويدخل من شارع إلى شارع، فلا يعرفه أحد ولا يفتح له باب، حتى إذا نال منه الجوع، وبرح به التعب، رأى زقاقاً ضيقاً فولجه، حتى إذا انتهى إلى بيت حقير من بيوت المهاجرين الأولين، وقف ينظر إليه، وتبرق عيناه كأن مرآه يذكره بشيء، ثم مد إلى حلقة الباب يداً مرتجفة فقرعه قرعة ضعيفة، ولبث ينتظر؛ فلما لم يرد أحد عاد وقرعه وشدد القرع، وسكت فلم يسمع إلا صدى أصوات الغناء والطرب تهبط عليه من أعالي الجدران، تهزأ بالفقراء، وتسخر من الحياة، فعاد يخبط خبطاً قوياً وينادي:
- كريتلي زاده. . . كريتلي زاده محمد أفندي. . .
فتحركت عجوز من أقصى الدار، وصاحت:
- من هذا الذي يسأل عن محمد أفندي؟ وخرجت تدب على عصاها حتى بلغت الباب فنظرت في الظلام وصاحت صيحة الفزع:
- من هذا الذي يسأل عن الرجل الذي مات منذ خمس عشرة سنة
فلما سمع الشيخ ما تقول وجم ولم ينطق
- فأقبلت نحو الضوء، حتى إذا اقتربت من الرجل رجعت تصيح بصوت مرعب:
- من أنت؟ قل لي من أنت أيها الرجل؟ ماذا تريد؟
- قال: أنا يا حاجة صفية، أنا؟
- من أنت؟ تعال، تعال إلى النور حتى أراك، فلما رأته واستبانته، صاحت:
- آه
- قال: هل عرفتني؟
- قالت: آه كيف لا أعرفك يا سيدي، ولكن. . . كلا كلا. أنا واهمة، هذا مستحيل. قل لي حالاً من أنت؟
- أنا ناظم. . . ذاك الذي كان يدعى يوماً ما ناظم باشا، ذاك الذي كان والي الشام. . . ألا تذكرين يا صفية كيف كنت تلعبين في رحبة القصر وأنت صبية صغيرة؟ وكيف كنت تتسلقين الأشجار وتطاردين الغزال الذي كان في الحديقة؟ هل تذكرين؟. . . حتى إذا مللت وتعبت عدت مع أبيك محمد أفندي إلى الدار
- آه يا مولاي آه! إذن أنت هو! لم أكن مخطئة. قل لي يا سيدي أين أنت؟ وما جاء بك؟ لا لا ادخل أولاً! أهلاً وسهلاً، ليس عندي شيء أقدمه لك، ليس عندي شيء
وانطلقت تبكي. . .
- إني عجوز فقيرة ليس لها إلا الله، لم يعد يسأل عنا أحد بعدك. إنني سأموت فقيرة تحت أثقال ذهب الجيران، وأختنق جائعة برائحة اللحم. إن هذه القصور ستبتلع كوخي الذي لم يبق غيره. . .
وألحت في البكاء. . .
إنني لا أستطيع أن أضع لك شيئاً، آه ليتني مت قبل أن أراك يا مولاي على هذه الحال
فمسح الباشا دموعه، وقال لها:
- ولكني لا أحتاج شيئاً. أنا في نعمة، وإنما جئت أزورك. والآن وداعاً. . .
فلما ابتعد فتش جيوبه، وقلبها كلها، فلم يجد إلا فرنكين كان يدخرهما لعشائه فدفعهما إليها، ومشى قبل أن تسمع ما يقول:
عاد يطوف في الحي يخرج من شارع إلى شارع منفرداً منكراً، ولقد فارق دمشق وهو ربها وسيدها، وصاحب الأمر والنهي فيها، ولكن هذه الأعوام التي كرت سريعة محملة بالأحداث الجسام قد بدلت كل شيء
لقد انفجر بركان الحرب، فهد هذا الفلك العظيم، فلك الخلافة الإسلامية، فتناثرت نجومه وكواكبه، وانطفأت شمسه وأظلمت نيراته، وعبست مكة للقسطنطينية وبسمت للندن، وصافحت الحلفاء، وقابحت الخلفاء، وولد استقلال سورية في القصر المنيف على بردى، ومات طفل في الصحراء القاحلة من ميسلون، وكان الانتداب وكانت ليلاته الحالكات
وذهب جيل من الناس كان يعرف الباشا حق المعرفة، وجاء جيل جديد ينكره أشد الإنكار
فنفض الباشا يده من كل شيء، وانحدر إلى الشارع الأعظم على سفح الجبل، فجلس على حجر قبالة القصر الذي بناه، وكان صاحبه ومولاه، فطرد الليلة عنه كما تطرد الكلاب. وأسلم رأسه إلى كفيه، وراح يفكر في غير شيء. . .
فما نبهه من ذهوله إلا ولد يقفز بقبقابه على بلاط الشارع، فاستوقفه يسأله:
- ما اسم هذا الشارع يا ولد؟
فارتاع الولد وفر، حتى إذا ظن انه قد فاته، صاح به:
- ألا تقرأ اللوحة يا أعمى؟ هذا شارع ناظم باشا
فابتسم الباشا ابتسامة صفراء وعاد إلى صمته، وهبت الرياح فلم تلبث أن أنشأت سحاباً حجب القمر، فشمل الشارع ظلام رهيب
ومر رجل فألقى على الباشا نظرة واحدة، ثم سار في طريقه ينحدر في طريق البساتين، حتى إذا ابتعد عن العمران رفع عقيرته يتغنى بصوت شجي محزن:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة ... كذلك عضتنا السنون الغوابر
وناظم باشا يصغي إليه، وقد هاج في نفسه عواطف هائلة كادت تنسف كيانه نسفاً، حتى ابتعد الصوت ونأى، ثم ابتلعه السكون
فقام ناظم باشا يجر رجله ليغادر دمشق التي نسيت إحسان المحسن كما تنسى (دائما) إساءة المسيئ، ليذهب فيموت حيث لا يعلم به إلا الله
واشتدت الرياح وصفرت صفيراً مرعباً، وهطل البرد مجنوناً ثائراً، بينما كان يسدل الستار الأخير على هذه المأساة. . .
علي الطنطاوي