مجلة الرسالة/العدد 160/مأساة من سوفوكليس
مجلة الرسالة/العدد 160/مأساة من سوفوكليس
3 - أنتيجونى
للأستاذ دريني خشبة
- 6 -
(تدخل إسمنيه فيخاطبها الملك)
- (ها! هلا! أيتها الحية الرقطاء التي ما تبرح تتحوى هي وأختها تحت عرشي! ماذا عندك من سموم تنفثينها؟ خبري! ألست ذات ضلع في هذه المأساة؟ أم أنك ستحلفين بأغلظ الأيمان أنك لا تعرفين منها قلاً ولا كثراً؟)
- (إن كانت هي قد حدثت عني بشئ، فأنا شريكتها في كل شئ، ولن أقول شيئاً أتحلل به من نصيبي في القصاص!
فتقول أنتيجونى: (حاشا! تأبى العدالة أن يحمل البريء وزر الجاني! أنا وحدي اضطلعت بكل شئ، ولقد رفضت أن أشركك في أي شئ!)
- (ولكني لن أدعك في تلك الملمة وحدك!)
- (الحنان من طرف اللسان لا يعنيني يا أختاه! الآلهة وحدها تعلم من فعل الفعلة)
- (أوه! أنت تأبين علي أن أقاسمك شرف الموت معك من أجل شقيقي!)
- (لا ينبغي أن تموتي معي من أجل شيء لم تجنيه! حسب أخي أن تموت أخت له واحدة في سبيله!)
- (وماذا أسيغ من مباهج الحياة بعدك يا أختاه!)
- (سلي كريون يجبك! إنه كفيل لك بكل هذه المباهج!)
- (وماذا يسرك من إيلامي ووخزي هكذا؟!)
- (قلبي مفعم بالألم، ومن أجل ذلك فشفتاي تضحكان عليك!)
- (وهل لك حاجة أستطيع أن أؤديها لك الآن يا أختاه؟)
- (أجل! حاجتي إليك أن تنجي بحياتك!)
- (وا أسفاه! أهكذا يحال بيني وبين مشاركتك هذا الجد؟) - (ولمه؟ قد اخترت الحياة، أما أنا فقد فضلت الموت!)
- (لقد نصحت لك!)
- (أجل! لقد نصحت لي! وقد يحمد لك تيهك في هذا العالم الفاني، أما أنا، فستحمد لي الآلهة تفانيّ وحكمتي في العالم الباقي!)
- (ولكنا سيان في هذه الزلة
- (لا تنزعجي يا عزيزتي! ستعيشين طويلاً! أما أنا، فقد قدمت حياتي قرباناً للموتى منذ زمن طويل. وإذ يبلغ حوارهما هذا الحد، يقول الملك: (إحدى الفتاتين قد فقدت صوابها كله، أما الأخرى. . . فلا صواب في رأسها البتة!!
فتقول إسمنيه: (مولاي! في مثل هذه المحنة لا يملك أحد صوابه!)
فيقول الملك: (على كل حال لقد فقدت صوابك بمحاولتك مشاركة هذه المجرمة في إجرامها!
- (وما قيمة الحياة لدي إذا فقدت أختي يا مولاي؟
- (لا تقولي أختي! إنها لا شئ! لا شيء منذ الآن!
- (ماذا!! أتقتل خطيبة ولدك؟ أتقتل أنتيجونى؟)
- (النساء كثير يا إسمنيه!)
- (والحب!! الحب الذي ألف بين قلبيهما يا مولاي؟)
- (ومن يبتغي رفيق إفك وعرس خبث لولده؟)
وما كاد الملك يقولها حتى تنتفض أنتيجونى انتفاضة هائلة وتقول:
- (هايمون! حبيبي هايمون! كم ذا يسيء أبوك إليك!)
فيقول الملك: (بل أنت وزيجتك النكراء شجو علي، وظلام في حياتي!
ويتساءل رئيس المنشدين: (وهل تفصل بينهما يا مولاي؟ أتحول بينها وبين ولدك؟)
فيقول الملك: (أنه الموت وحده سيحول بينهما!)
- (إذن. . . انقشعت سحب الريب! ستقتل الفتاة!)
- (ما في ذلك شك! أيها الجنود! هلموا بها إلى السجن! ستذوب شجاعتها حين يقترب الموت من عينيها العنيدتين! (يقودها الجنود إلى الداخل وتذهب إسمنيه في أثرها)
- 7 -
ويأخذ المنشدون في نشيد طويل حلو مليء بالعبرة مبلل بالدموع، ويذكرون محنة بيت قدموس منشئ طيبة وجد أوديب، ثم يرتلون صلاة شعرية لزيوس ما يوشكون يفرغون منها حتى يقبل هايمون المسكين العاشق - خطيب أنتيجونى - فيخاطب رئيس الخورس الملك قائلاً:
- (هايمون أيها الملك! ولدك الأوحد، وآخر عُسلوج في دوحتك! هاهو ذا مقبلاً وقد حطمه الهم، وهدمته المصيبة الفادحة. . . أوه! أنه يبكي! يا للآلهة! أيذرف الدمع من أجل حبيبته. . . الضحية؟ أم هو قد جاء يلتمس منها نظرة للوداع؟!)
(يدخل هايمون)
- (من يستطيع أن يحدس؟ سنعلم كل شيء فانتظر. (مخاطباً ولده) أحق يا بني أنك جئت إلى هنا مدفوعاً بثورة من الهم مما آل إليه أمر خطيبتك؟ أكبر ظني أن حبك أباك سيرجح عندك كل حب، وطاعتك إياه ستبرر لديك تصرفاته مهما تكن!)
ويصبر قليلاً كمن جف لسانه من الظمأ والغشية، ويقول: (أنا ابنك يا أبتاه! سأخضع لكل ما ترى من رأي، ولن أوثر على محبتك أجمل حسبان الخلد)
- (بورك فيك يا ولدي لقد كان هذا أكبر رجائي في رجاحة عقلك وعظم قلبك! إنه ليس أحب إلى الآباء من ذرية صالحة طيّعة يخزون بها الأعداء، ويسرون بها الأصدقاء؛ وإني لأثق أن هايمون اللبيب لن يفقد صوابه من أجل امرأة! اسحقها يا بني كما تسحق ألد أعدائك، وأبعث بروحها الشريرة تبحث لها عن زوج شرير في ظلال هيدز!! لقد ثارت وحدها على الملك وعلى مجلس طيبة، وقد صممنا على إعدامها من أجل ذلك، ولن ننكص على أعقابنا فيما أبرمنا! إننا هنا لا يُملى علينا ونحن أصحاب الأمر والنهي، وقد ركزت المدينة الخالدة سلطانها المبين في شخصنا فيجب أن نطاع إطلاقاً ولو كانت أوامرنا ضرباً من الشطط. . . إنه لا يهدم عظمة الشعوب كقيام الرعية ضد ملوكها ولا يهزم الجيش العرمرم ذا الأيد كعصيان جنوده قواده! وسيرى الجميع أنني هنا لأحمي القانون، وأنني لست هنا لأذل أو أتقهقر أمام امرأة!) ويقترب رئيس الخورس من الملك فيقول: (الحق قلت، والحق دائماً تقول!)
ويتقدم هايمون إلى أبيه الملك، ويشهق شهقة هادئة ويقول:
- (مولاي! السداد بذرة صالحة تغرسها الآلهة في نفوس الصالحين! ألا كبرت كلمة أن أقول إنك أخطأت يا أبي! ولكني كابنك الأمين أرى لزاماً على أن أتقصى أقوال الناس وأفعالهم، بل وآراءهم أيضاً في ملكي الذي هو والدي؛ وأكبر ظني أن سلطان الملك يلجم أفواه الناس فما يحيرون؛ بيد أنني سمعت همساً أن الطيبيين على بكرة أبيهم يذرفون الدمع مدراراً من أجل الفتاة التي أمرت بإعدامها، وإنهم يرون في قضية القتيل رأيها ويؤيدونها كل التأييد. على أنها ماذا صنعت هذه الفتاة؟! لقد دفنت أخاها الذي غودر مضرجا بدمه، معفراً بثرى الجلبة، وأشفقت أن تدعه لكلاب الفلاة وبواشق الطير تنوشه وتغتذي به. . . . ألا وآلهة الأولمب إنها بالمكافأة أخلق، وبالعطف والإعجاب أحرى! بذلك تتلحلج ألسن القوم يا أبتاه، وهم يرددونه في كل مكان، فمن لك بمن يبلغك أقاويلهم غير ابنك الذي يحرص على سمعتك ونقائك كما تجهد أنت أن تبني له مستقبله وشهرته!! أبداً لا تسمع للذين يفتنونك عن نفسك حين يقولون لك أنك لا تعمل إلا الصواب ولا تنطق عن الهوى. فمثل ذلك لا يكون بشراً، في حين يخطئ البشر ويصيبون! ألا وأن من يدعي أنه أحكم الناس وأطيبهم كلمة يكتشف لك إذا خبرته عن خواء، وعن فؤاد هواء! أبي! ليس في الاصاخة للحق ما يُخجل، ولا في الرجوع عن الخطل ما يخزي! ألا وإن أضعف الكلأ ليقف لسيل العرم لأنه يلين له، في حين يجرف سيل العرم أذهب الدوح في السماء لأنه يأبى أن يلين لشيء! ألا وأن الملامح الذي لا يرخي العنان لهوج الرياح يكسر قلاعه ويفقد في اللجة آماله، فأي عار في أن تلين يا أعز الآباء؟! أنني ما أدعي الحكمة، ولا أقول بعلم كل شيء، ولكنك غذوتني، ونشأتني على الرأي السديد والتبصر، فأنا أعظك أن تكون ممن لا يرى إلا رأيه، أو يتبع هواه فيردى!)
ويلمح رئيس الخورس وجوماً بين الأب وابنه فيتدخل قائلاً:
- (مولاي! لا ضير أن تصغي لما في نصيحته من حق وأنت يا هايمون ينبغي أن تنتفع بتجاريب مولاك!)
فيقول الملك: (ها. . . هاها. . . بعد هذه السنين وذلك الشيب يرشدنا هذا الصبي الطرير!!)
فيقول هايمون: (بما هو حق فحسب؟ ولا حساب للسنين في ضرورة تنزل بك قاهرة!)
- (وأي ضرورة في أن تلوذ بأذيال الثائرين؟)
- (أبداً لم ألذ بأذيال مجرم أفاق يا أبي!)
- (ولمه؟ أليست قد نهضت عليها الأدلة ودمغتها البراهين)
- (حاشا! إن طيبة كلها تنكر ذلك؟!)
- (وهل طيبة تحكمني أم أنا الذي أحكم طيبة؟)
- (في الحق أنها هي. . . لولا أن تسفِّه نعومة سني وتنسبني للنزق!
- (أي أن آخرين يشركونني في أمري؟!)
- (أن رجلاً بمفرده لا يقوم مقام مدينة بأسرها يا أبي!)
- (أو ليس كل مدينة في قبضة ملكها؟)
- (هذا إذا كان الملك يحكم كثباناً في صحراء!
ويكون الملك قد عيل صبره فيقول:
- (إذن. . . أنت حامي المرأة أيها البطل الصغير؟)
- أنت هو المرأة!. . . وأنت وحدك الذي تعنيني!!)
- (وقح!! تأبى إلا أن تناقش أباك. . . سفسطة!!)
- (بل أجهد أن أردك عن التمادي في خطئك!)
- (وأي خطأ في أن أؤيد سلطاني وأحفظ وقاري؟)
- (وأي وقار في تحقير الآلهة؟)
- (أيها الشرير! يا من تأخذ بزمامك امرأة؟)
- (أجل. . . ولكنها لن تقودني إلى مفسدة!)
- (ولذا بذلت لها دفاعك!)
- (بل بذلته لك ولي. . . وبذلته من أجل الآلهة في الدار الآخرة!)
- (إنها لن تعيش حتى تكون زوجتك في هذه الدار الأولى!)
- (أعرف. . . وأعرف أيضاً من تكون سبب خرابه وانهياره بموتها!؟) - (هه! أنت تهدد وتتوعد أيها العاق (يا قليل الأدب!))
- (ليس يتوعد ولا يهدد من يقول قولة الحق. . . والحق الصراح!)
- (هه. . . هاها. . . ستدفع ثمن هذه القحة! أيها الناصح الغبي!)
- (لو لم تكن ملكي وأبي، لزعمتك مذهوباً به!!)
- (أنت! أيها المفتون! يا من تصيبك امرأة! أصمت! لا ترد علي!)
- (ليكون كل الكلام لك!)
- (محال! هذا محال! لابد أن تجرع كأس المنون بين يدي عشيقها! لابد أن تردى أمام ناظريه وملء عينيه! إلي بها. . .)
- (بل هذا هو المحال! لا تحلم يا أبتاه بتجريعها كأس الموت من يديك أمام ناظري. . . بل لا تحلم بأن تراني آخر الدهر بعد الآن!)
(وينطلق هايمون)
- 8 -
ويقول رئيس المنشدين: (مولاي! لقد أخذ الغضب منه كل مأخذ، والشباب المغضب يركب رأسه إذا أهين كبرياؤه، وقد يأتي من الفعال ما لا تحمد عقباه!
- (ليفعل ما بدا له! ليركب رأسه في طريق من الشوك انه لن ينقذ الفتاتين مما قسم لهما)
- (الفتاتان! وهل تُقتلان كلتاهما؟)
- (معك حق! بل الطائشة وحدها. . . تلك التي فعلت الفعلة!)
- (وبأية طريقة توقع عليها عقوبة الإعدام؟)
- (في القبو!! القبو المظلم تحت هذا القصر. ستنفرد فيه وسيفرش لها مهاد من الشوك يخز روحها وبدنها حتى تموت ولتعبد ولتبعد هنالك آلهتها. . . آلهة الفناء. . . حتى تقضي فيها قضاءها. . .)
(ويخرج كريون)
(لها بقية)
دريني خشبة