مجلة الرسالة/العدد 16/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
مجلة الرسالة/العدد 16/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وكان الجيش الإسلامي في حال تدعو إلى القلق والتوجس، فان الشقاق كان يضطرم بين قبائل البربر التي يتألف منها معظم الجيش، وكانت تتوق إلى الانسحاب ناجية بغنائمها الكبيرة. وكان المسلمون في الواقع قد استصفوا ثروات فرنسا الجنوبية أثناء سيرهم المظفر ونهبوا جميع كنائسها وأديارها الغنية، وأثقلوا بما لا يقدر ولا يحصى من الذخائر والغنائم والسبي فكانت هذه الأثقال النفيسة تحدث الخلل في صفوفهم وتثير بينهم ضروب الخلاف. وقدر عبد الرحمن خطر هذه الغنائم على نظام الجيش وأهبته وخشي مما تثيره في نفوس الجند من الحرص والانشغال وحاول عبثاً أن يحملهم على ترك شيء منها؛ ولكنه لم يشدد في ذلك خيفة التمرد. وكان المسلمون من جهة أخرى قد أنهكتهم غزوات أشهر متواصلة مذ دخلوا فرنسا، ونقص عددهم بسبب تخلف حاميات عديدة منهم في كثير من القواعد والمدن المفتوحة. ولكن عبد الرحمن تأهب لقتال العدو وخوض المعركة الحاسمة بعزم وثقة. وبدأ القتال في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر منأكتوبر سنة 732م (أواخر شعبان سنة 114 هـ) فنشبت بين الجيشين معارك جزئية مدى سبعة أيام أو ثمانية احتفظ فيها كل بمراكزه. وفي اليوم التاسع نشبت بينهما معركة عامة فاقتتلا بشدة وتعادل حتى دخول الليل. واستأنفا القتال في اليوم التالي، وأبدا كلاهما منتهى الشجاعة والجلد حتى بدا الإعياء على الإفرنج ولاح النصر في جانب المسلمين. ولكن حدث عندئذ أن افتتح الفرنج ثغرة إلى معسكر الغنائم الإسلامى، وخشى عليه من السقوط في أيديهم، أو حدث كما تقول الرواية أن ارتفعت صيحة مجهول في المراكز الإسلامية بأن معسكرالغنائم يكاد يقع في يد العدو. فارتدت قوة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم، وتواثب كثير من الجند للدفاع عن غنائمه. فدب الخلل إلى صفوف المسلمين، وعبثا حاول عبد الرحمن أن يعيد النظام وان يهدئ روع الجند، وبينما يتنقل أمام الصفوف يقودها ويجمع شتاتها، إذ أصابه من جانب الأعداء سهم أودى بحياته، وسقط قتيلا من فوق جواده، وعم الذعر والاضطراب في الجيش الإسلامي، واشتدت وطأة الفرنج على المسلمين وكثر القتل في صفوفهم، ولكنهم صمدوا للعدو حتى جن الليل، وافترق الجيشان دون فصل. وكان ذلك في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 732 م (أوائل رمضان سنة114 هـ)
وهنا اضطرم الجدل والنزاع بين قادة الجيش الإسلامي، واختلف الرأي وهاجت الخواطر وسرى التوجس والفزع. ورأى الزعماء أن كل أمل في النصر قد غاض فقرروا الانسحاب على الأثر. وفي الحال غادر المسلمون مراكزهم وارتدوا في جوف الليل، وتحت جنح الظلام جنوبا، صوب قواعدهم في سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنما للعدو. وفي فجر الغد لاحظ كارل وحليفه أودو سكون المعسكرات العربية فتقدما منها بحذر وإحجام فألفياها خاوية خاليةالا من بعض الجرحى الذين لم يستطيعوا مرافقة الجيش المنسحب، فذبحوا على الأثر. وخشى كارل الخديعة والكمين فاكتفا بانسحاب العدو ولم يجرؤ على مطاردته وآثر العود بجيشه إلى الشمال. هذه هي أدق صورة لحوادث تلك الموقعة الشهيرة طبقا لمختلف الروايات. والآن نورد ما تقوله الرواية الإفرنجية الكنسية ثم الرواية الإسلامية. أما الرواية الإفرنجية الكنسية فيشوبها كثير من المبالغة والتحامل والتعصب، وهي تصف مصائب فرنسا والنصرانية من جراء غزوة العرب في صور مثيرة محزنة، وتفصل حوادث هذه الغزوة فتقول إحداها: (لما رأى الدوق أودو أن الأمير شارل (كارل) قد هزمه وأذله وأنه لا يستطيع الانتقام إذا لم يتلق النجدة من إحدى النواحي، تحالف مع عرب إسبانيا ودعاهم إلى غوثه ضد الأمير شارل وضد النصرانية. وعندئذ خرج العرب وملكهم عبد الرحمن من أسبانيا مع جميع نسائهم وأولادهم وعددهم وأقواتهم في جموع لا تحصى ولا تقدر، وحملوا كل ما استطاعوا من الأسلحة والذخائر كأنما عولوا على البقاء في أرض فرنسا. ثم اخترقوا مقاطعة جيروند واقتحموا مدينة بوردو وقتلوا الناس في الكنائس وخربوا كل البسائط وساروا حتى بواتيو. . .)
وتقول أخرى: (ولما رأى عبد الرحمن أن السهول قد غصت بجموعه اقتحم الجبال ووطئ السهول بسيطها ووعرها، وتوغل مثخنا في بلاد الفرنج ومحق بسيفه كل شيء، حتى أن أودو حينما تقدم لقتاله على نهر الجارون وفرّ منهزماً أمامه لم يكن يعرف عدد القتلى سوى الله وحده. ثم طارد عبد الرحمن الكونت أودو، وحينما حاول أن ينهب كنيسة تور المقدسة ويحرقها التقى بكارل أمير إفرنج أوستراسيا وهو رجل حرب منذ فتوته، وكان أودو قد بادر بأخطاره وهنالك قضى الفريقان أسبوعا في التأهب واصطفا أخيرا للقتال ثم وقفت أمم الشمال كسور منيع ومنطقة من الثلج لا تخترق وأثخنت في العرب بحد السيف). (ولما أن استطاع أهل أوستراسيا (الفرنج) بقوة أطرافهم الضخمة، وبأيديهم الحديدية التي ترسل من الصدر تواً ضرباتها القوية أن يجهزوا على جموع كبيرة من العدو، التقوا أخيرا بالملك (عبد الرحمن) وقضوا على حياته. ثم دخل الليل ففصل الجيشان والفرنج يلوحون بسيوفهم عالية احتقارا للعدو. فلما استيقظوا في فجر الغد ورأوا خيام العرب الكثيرة كلها مصفوفة أمامهم تأهبوا للقتال معتقدين أن جموع العدو جاثمة فيها ولكنهم حينما أرسلوا طلائعهم ألّفوا جموع المسلمين قد فرت صامتة تحت جنح الليل مولية شطر بلادها. على أنهم خشوا أن يكون هذا الفرار خديعة يعقبها كمين من جهات أخرى فأحاطوا بالمعسكر حذرين دهشين. ولكن الغزاة قد فروا. وبعد أن اقتسم الفرنج الغنائم والأسرى فيما بينهم بنظام عادوا مغتبطين إلى ديارهم). وأما الرواية الإسلامية فهي ضنينة في هذا الموطن كل الضن كما أسلفنا ويمر معظم المؤرخين المسلمين على تلك الحوادث بالصمت أو الإشارة الموجزة كما سنرى، غير أن المؤرخ الإسباني كوندي يقدم إلينا خلاصة من أقوال الرواية الأندلسية المسلمة عن غزو فرنسا وعن موقعة تور ننقلها مترجمة فيما يلي: -