مجلة الرسالة/العدد 16/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 16/العلوم
نشوء الكائنات الحية على وجه البسيطة
للأستاذ السر آرثر طمسن
خلال الأدوار الأولى لتاريخ الأرض لم يكن في مقدور أي مخلوق حي نتصوره أن يعيش وسط تلك الظروف، فقد كانت الحرارة مرتفعة جدا، وكان الهواء والماء معدومين في وجه البسيطة، إذن فلابد من ظهور المخلوقات الحية منذ عصور سحيقة في القدم لا نستطيع معرفة تاريخها؛ أما كيفية ظهور الحياة للمرة الأولى فلا يعلم أحد ذلك بالضبط، وكل ما هنالك احتمالات متباينة نأتى على ذكر أهمها:
منذ القديم كان الاعتقاد السائد ان الحياة نشأت من طينة الأرض بطريقة خارجة من نطاق البحث العلمي، على أن هذا الرأي يفسد علينا فهم المسألة لتسرعه في الحكم عن نشوء الحياة بهذا الشكل، فإذا كنا لا نعتبر هذا الرأي علميا فذلك لأن العلم لا يعطي قرارا جازما ولا يبت في أمور لها من الشك نصيب كبير. وذهب فريق من العلماء وعلى رأسهم الأستاذان (هلمهلتز و (اللورد كلفن إلى ان المخلوقات الحية البسيطة لم تنشأ من صميم الأرض بل جاءت إليها من الخارج محمولة بقطع الشهب المتساقطة أو بواسطة الغبار الكوني، على أن تلك الكائنات ظلت في حالة السبات لعدم ملاءمة الظروف لها حينذاك، وبهذه المناسبة يجب أن نتذكر ان بذور النباتات تستطيع أن تقاوم البرودة والجفاف زمنا طويلا، كما أن (البكتريا) تستطيع احتمال درجات مرتفعة من الحرارة دون أن تفقد حيويتها. وكما يرى الأستاذ انه طالما لا يحدث انحلال جزيئي ففي إمكان الأفعال الحيوية ان تتوقف عن العمل مؤقتا ريثما تعود الظروف الملائمة. إذن فنظرية اللورد كلفن تنسب أصل الكائنات الحية إلى غير الأرض.
وذهبت فئة أخرى من العلماء تقول بان المخلوقات الحية البسيطة نشأت على سطح الأرض من مواد غير حية أى من مركبات كربونية نصف سائلة بتأثير بعض الخمائر. وتعزز هذهالنظرية بما وصلت إليه أبحاث علماء الكيمياء التركيبية الذين نجحوا في تركيب بعض المواد العضويةكحامض الاوكساليك والنيل، وحامض الساليسليك والكافئين، سكر القصب بطرق صناعية بحتة. على أننا لا نعلم بالضبط من يقوم مقام العالم الكيميائي في مختبر الطبيعة!، ومهما كان الأمر ففي المسألة غموض وتعقيد كبيران لا نتخلص منهما الا بنتيجة واحدة وهي أن العلم لا يستطيع إلى الوقت الحاضر أن يقول كلمته فيها.
أول جسم عضوي على الأرض
إن أول ما يتبادر إلى ذهننا التساؤل عنه هو كيفية نشوء المخلوقات الحية الأولى على الأرض أو بالأحرى عن الحياة التي كانت تغطي وجه البسيطة في ابتداء طور تكونها. ولأدراك ذلك علينا أن نستعين بابسط المخلوقات الحية في الوقت
الحاضر كبعض أنواع البكتريا أو العضويات الأحادية الخلية وخاصة المسماة منها بالأحياء الأولى التي لايمكن تعيين انتسابها إلى المملكة الحيوانية أو النباتية. لاشك أن الجزم في مثل هذه الأمور يعد تطرفا لا يجيزه العلم: إنما يميل العلماء إلى التسليم بالنظرية القائلة، أن المخلوقات الاولى كانت كريات مجهرية من مادة البروتوبلازم الحية، لا تختلف عن أبسط أنواع البكتريا في الوقت الحاضر الا بكونها تستطيع المعيشة في الهواء والماء والأملاح الذائبة على السواء. ويظن أن العضويات البحرية الأحادية الخلية نشأت من هذا الأصل وكانت قادرة على صنع الكلوروفيل أو ما يشبهه وربما كانت هذه الوحدات الصغيرة الحية محاطة بغلاف سليلوزي. غير أن طاقتها الكامنة عظمت فتمخضت عن ذينبات أو شعيرات صغيرة مكنتها من تسيير نفسها في الماء للتفتيش عن الغذاء. ولا يزال من أمثال هذه العضويات كثير في الوقت الحاضر أغلبها يعيش في الماء والبعض منها (وهي نباتات بسيطة أحادية الخلية) تصبغ سوق الأشجار وحتى الصخور الرطبة باللون الأخضر وتدعى الخزيات ويرى الأستاذ ان البحار التي كانت تغطي وجه البسيطة في مستهل تاريخها كانت مأهولة بهذه المخلوقات المذنبة الخضراء التي وضعت الحجر الأساسي لعالم النبات. ويظن أن الأحياء الاولى ولدت سلسلة أخرى من المخلوقات المفترسة البسيطة لم يكن في وسعها أن تكوّن المادة العضوية (الغذاء) من الهواء والماء والأملاح فكانت تعيش على افتراس ما يجاورها من العضويات. إن هذه الوحدات كانت عديمة الغلاف السيليلوزي بحيث يسهل للمادة الحية أو البروتوبلاسم القيام بالعمليات الحيوية المتنوعة على نحو ما نراه الآن في الأميبا أو في كريات الدم البيضاء وغيرها. من هذه العضويات المفترسة نشأت المملكة الحيوانية بأسرها. نستنتج مما سبق أن الحيوانات الاولى والنباتات الاولى نشأت من الأحياء الابتدائية البسيطة ثم أخذ كل منها يسير في اتجاه خاص.
بداية نشوء النباتات البرية:
من المحتمل جداً أن المياه كانت تغطي وجه الأرض في أدوارها الأولى، وأن ذلك البحر المترامي الأطراف كان مأهولا بالنباتات الابتدائية من ذوات الشعيرات على أن انكماش القشرة الأرضية أحدث مرتفعات ومنخفضات في قاع البحار، واقتربت على أثر ذلك الطبقات الصلبة في بعض الأماكن نحو سطح الماء، فسمحت للنباتات العائمة أن تستقر هناك على مقربة من النور. هذا ما يصوره لنا الأستاذ (شرش) عن مبدأ النباتات وهي خطوة ذات شأن عظيم في سير التطور. ويظن أن أول نجاح صادفته الحيوانات كان بين هذه النباتات القديمة. وقد أخذت اليابسة بالظهور عندما ارتفع قاع البحر في الأماكن الضحلة تدريجيا. إن تلك النباتات الثابتة كانت أسلاف حشائش البحر التي تعيش على الشواطئ البحرية الآن.
الحيوانات الأولى
إن الحيوانات التي هي تحت مستوى (الحيوانات والاسفنجيات تدعى بالحيوانات الابتدائية أو البروتوزوا ومعنى هذه الكلمة الحرفي (الحيوان الأول) وكل ما نستطيع أن نقوله عن هذه الحيوانات أن أبسطها قد ينيرنا عن بساطة تركيب الحيوانات الأصلية الاولى. والواقع أن أغلب الحيوانات الابتدائية المعروفة في الوقت الحاضر هي على درجة من التعقيد لا نستطيع معه أن ندعوها (أولية) بالمعنى الصحيح، ومع أن أغلبها مجهرية الا أن كلا منها حيوان تام قائم بذاته يقوم بنفس العمليات الحيوية التي نقوم بها نحن، وتختلف عن الحيوانات العليا في عدم تكونها من الوحدات التي نسميها (خلايا) فهي إذن خلية واحدة مستقلة عديمة الأنسجة وعديمة الأعضاء (بحسب المفهوم العلمي لهذين الاصطلاحين) على أننا في كثير منها نعثر على تعقيد كبير في البنية الداخلية أكثر مما نقع عليه في الخلايا الاعتيادية التي تبنى منها أنسجة جميع الحيوانات الراقية، وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقول أن المخلوقات الابتدائية هي مخلوقات حية تامة لم تكتسب التكوين الجسمي بعد.
بدء تكون الجسم
قال العالم الطبيعي (لويس إن أكبر فراغ وجد في العالم العضوي كان مابين الحيوانات الأحادية الخلية والمتعددة الخلايا وبعبارة أخرى ما بين الحيوانات الابتدائية وما وراء الابتدائية ولكن لم يبق ثمة فراغ بين الفرعين بتطور الاسفنجيات وأمعائية الجوف والديدان البسيطة وظهورها بأجسام للمرة الأولى. فكيف نعلل تكون الجسم وهو في خطوات التطور الكبرى؟. ليس في استطاعتنا أن نعلم كيف حدث ذلك على وجه اليقين إنما يمكننا أن نبسط هذا الرأي المستمد من دراسة عميقة وبحث دقيق، عندما ينقسم الحيوان الابتدائي إلى شطرين أو اكثر (وهي طريقة التكاثر التي يتبعها) تنتشر الانسال وتعيش مستقلة بعضها عن بعض؛ ولكن بعض الابتدائيات لا تنفصل أنسالها بل تبقى مرتبطة مع بعضها فالفولفوكس وهو حيوان كروي أخضر اللون جميل يوجد في بعض الأفنية، ما هو الا مستعمرة لألف أو عشرة آلاف خلية ومن مجموع هذه الخلايا نبدأ بتمييز الجسم. على أن خلايا الفولفوكس هي من نوع واحد بينما نجد في خلايا الحيوانات التي تلي الابتدائية تخصص في العمل مما يدل على رقيها في توزيع الأعمال. فالجسم يبدأ بالتكون من تجمع قسم من المادة الحية حول كل نواة، ويرتقي تكوينه كلما حصل توزيع في العمل وتميزت الخلايا الجرثومية (أو التناسلية) فيه عن الخلايا الجسدية.
اكتسابات عظيمة
إن تناظر الجسم العام في حيوانات كشقائق البحر وقنديل البحر يكون شعاعيا أي لا يوجد له جهة يمنى أو يسرى ويمكن تنصيف الجسم بأكثر من سطح واحد. وهذا النوع من التناظر ملائم جدا لحياة الارتكاز أو الانحراف مع التيار. على أن حياة الديدان كانت تتطلب الحركة فاستدق طرفاها وصار لها جهة أمامية وجهة خلفية وأصبحت أغلب الحيوانات من الديدان إلى الإنسان ذات تناظر جانبي تتميز في جسمها جهات أربع ولا يمكن تنصيفها الا بسطح واحد. لاشك إن هذا النوع الآخر من التناظر يلائم حياة أكثر نشاطا من الحياة التي تستلزم التناظر الشعاعي، لذلك كان في وسع هذه الحيوانات الجانبية التناظر أن تفتش عن طعامها وتتجنب الأعداء وتتربص لاقتناص الزوج أو الزوجة. وقد رافق هذا التناظر تخصص القسم الأمامي من الحيوان للتحسس بالمؤثرات الخارجية، وهكذا تميز الرأس عن الجسم وكانت تلك خطوة أولى في تكوين الدماغ. ثم ارتقى الحيوان في مدارج التطور خطوات واسعة فكان له رأس نام فيه أعضاء للحس وتكون في جوفه سطوح داخلية واسعة كالجدار الهضمي ومناطق الامتصاص في قناة الطعام، ثم نمت فيه عضلات تتقلص وتنبسط فيه بسهولة، وأخيرا تأسس فيه نظام الدوران الذي جعل الدم وسيطا لنقل الأوكسجين والمواد الغذائية إلى كافة أنحاء البدن وحمل الإفرازات الضارة بالجسم لتفرز خارجا.
الهرمونات
وارتقت الحيوانات العظمية درجة أخرى بتكون غدد الإفراز الداخلي كالغدة الدرقية، والغدة الأدرينالية وغيرهما، وفائدة هذه الغدد تحضير مواد كيمياوية يوزعها الدم على جميع أقسام البدن، ولها أثر كبير في تنظيم العمليات الحيوية. وتعرف المواد الكيماوية التي تفرزها هذه الغدد باسم (هرمونات) التي تزيد في فعالية الأعضاء والأنسجة. إن بعض هذه الهرمونات تنظم النمو وتغير ضغط الدم وتركيبه بسرعة، والبعض الآخر يستدعي بعض أقسام البدن إلى النمو الفعال كغدد الحليب في الأم التي تتنبه بفعل بعض الهرمونات.
الموصل. تلخيص: بشير الياس اللوس