مجلة الرسالة/العدد 16/الزينة عند قدماء المصريين
مجلة الرسالة/العدد 16/الزينة عند قدماء المصريين
أناقة الرجال، الزي والحلاقة والحلي، زبرجة النساء، الثياب،
الأصباغ، العطور
للأستاذ حسن صبحي
(تلبس ثيابا من الكتان الناعم
وتركب الخيل وتحمل لهاالسوط الذهبي في يدك
لك سرج جديد شغلته أيدي الشوام
وتجري أمامك العبيد يصدعون بما يؤمرون
يدهن جسمك كبير معطريك بطيب الكيمي
وفمك مليء بالنبيذ والخمير. . . . . . الخ)
(من قصيدة تحية المعلم. . من الشعر المصري القديم
يالها من أناقة وفخامة! ثياب من كتان ناعم! وسوط الركوب موشى بالذهب! وسرججديد من صنع أهل الشام! وعبيد سياس يجرون أمام السيد المعلم يفسحون له الطريق ويصدعون لما يأمرهم به! وعطور وطيب يدهن به جسمه! وأية أناقة تعدل هذه الأناقة! وأين هاتيك الأناقة الرائعة، والفخامة في الثياب وفي المركبوفي الخصاصية مما نحن عليه الآن , ومما نظنه منتهى ما وصلت إليه مدنية القرن العشرين بعد الميلاد!
لسنا نحن نصف أزياء المصريين فنتهم بالتحيز لأجدادنا , بل هم المصريون أنفسهم يتحدثون عن أزيائهم في هذا الشعر القديم، ولا يتركون لمتشكك فرصة ما في أن يظن بهم غير ما يصفون، فيخلفون في قبورهم الثياب الكتانية البيضاء الناعمة، والحلي الذهبية المطعمة بالجواهر والأحجار، ويخلفون القفازات. والصنادل الجلدية الفاخرة، ويخلفون السروج المزركشة، بالذهب والفضة، والسياط المنقوشة الموشاة بالذهب والفضة وكرائم الأحجار، وآنية مرمرية وأخرى رخامية تحوي عطوراً فيها السوائل وفيها الصلب وفيها ما بينهما من معاجين ومقشطات، ويخلفون غير هذا وذاك صورا على الجدرانتمثلهم في هذه الثياب الرقيقة، وهاتيك الحلي الثمينة، وتلك الأناقة الرشيقة، وتمثلهم وهم يدهنون، وه يعطرون، وهم يتزينون!. . . أفنستطيع بعد هذا أن ننكر على القوم ما كان لهم من (تواليت)!؟ وتواليت دي لوكس أيضا؟!
أناقة الرجال:
نظر المصريون إلى الرجل من نواحي الرجولة التي تبعده كل البعد عن المرأة ونواحي الأنوثة فيها؛ فالرجل يجب أن تبدو منه عضلاته دليلاً على القوة والبأس، ألم يخلق للعمل والحرب؟ إذن: فليترك صدره ليبرز ما عليه من الفورسبس (عضلات الصدر) أمام الأعين، دليلاً على قوة الرجل أو هزاله، وليخلي عن ذراعيه من الثياب ليظهر ما فيها: بايسبس وترايسبس (عضلات الذراعين فوق الرسغ والكتف) فيميز الناس فيه القدرة والعجز، ولتحلى تلك الصدور البارزة القوية بالعقود والمدليات وتلك الأذرع والمعاصم بأساور من ذهب أو ما يشبه الذهب، كي تستلفت العين إلى ما فيها من شدة وبأس وكمال في النمو، هي ما يقترن بلفظ (الجمال) في الرجل، وما يميز جمال الرجل عن جمال المرأة. هذا الجمال في النمو وفي الشكل توجده الطبيعة في الأصل، ولكنها تكل للرجل تعهده والعناية به، فهو لابد مستمر في القيام على إظهاره في أجمل صورة له، وهل يتم له هذا الإظهار إلا لمداومة النظافة والرياضة والعناية؟ والنظافة لم تكن بعيدة المنال على المصريين فقد كان النيل دائماً الأب الرحيم، يغتسلون فيه، وفي ترعه، وفي مياهه يجرونها في قنوات إلى بيوتهم، ونقرأ في قصصهم عن أحواض الاستحمام التي كانت تبنى في القصور، كما نقرأ عن ضرورة الاغتسال قبل الصلاة، لضرورتها لرفع الحدث الأكبر، أي أنها جعلت ركناً من أركان دينهم كما ينص الإسلام على ضرورة الوضوء والاغتسال قبلالصلاة وبعد الحدثين. وإذا عرفت أن المصري القديم لم يكن يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يعمل إلا بعد أن يؤدي صلاته لألهه، وعرفت أن الدين كان في دم المصري القديم إلى حد أن أفقر الناس كان يبني دار دنياه من طين، بينما يبتنى لنفسه في حياته قبراً من أغلى الأحجار التي يستطيع شراءها، ويسمى هذا القبر: (البيت الأبدي) بينما يدعو مسكنه الدنيوي (بيت الاختبار)؛ إذا عرفت هذا كله أدركت مبلغ تدخل الدين في كل شيء، ومكان النظافة الشخصية من نفس كل مصري تبعاً لعقيدته.
الحلاقة والنظافة عند المصري القديم ليست الاغتسال بالماء فقط، إذ نرى من صورهم الكثيرة جداً، أنهم كانوا يقصون شعور رؤوسهم، ويقصرونها لتميز رؤوسهم عن رؤوس النساء، ثم كانوا حليقي الوجوه، لا لحى ولاشوارب، ولم يكونوا يكتفون بقصها أوقطعها، ولكنهم كانوا يحلقونها بالأمواس لتكون وجوههم نظيفة خالية المسام، تميزهم عن غيرهم من الشعوب التي كانت ترخي ذقونها وشواربها كشعب فلسطين وشعب ليبيا وغير هؤلاء ممن ظهرت صورهم على الآثار بلحى وشوارب سوداء طويلة. وقد يعجب القارئ إذ يعلم أن المصريين عرفوا أمواس الحلاقة منذ خمسة آلاف عام، لكنها حقيقة خلفوا آثارها لنا، إذ يحوي المتحف المصري طائفة كبيرة من هذه الأمواس مصنوعة صناعة متقنة من شظايا الجرانيت والاردواز والبازلت الصلبة التي تتحمل الترقيق والتشحيذ، وتقاوم استمرار استعمالها في الحلاقة. وإذ نمر بالاغتسال وبالحلاقة بعد الزي، وهي أوليات التواليت، فإننا نصل إلى أقصى مراتب التواليت، وهي ما سميته من قبل (تواليت دي لوكس).
التواليت العالي
لم يكن للرجل العادي نصيب في التواليت العالي، الذي لم يكن يعرفه غير أفراد الطبقة الممتازة. من الملوك والكهنة والوزراء والكتاب والأعيان. هؤلاء كانوا يستمدون من ثروتهم وسلطانهم ما يستطيعون أن يقتنوا به العطور والأدهان يطلون بها أجسامهم كي تطيب رائحتها وينعم جلدها وتبرق بشرتها، فيبدو كل ما فيها من جمال الرجولة وأناقتها. وكانوا يلبسون في أيديهم القفازات، لا يتقون بها البرد، وصدورهم وظهورهم عارية، ولكن ليقبضوا بها على الأقواس ويشدونها حين يطلقون منها السهام، ويكملون بها زينتهم وأناقتهم. ثم يضعون في أقدامهم صنادل أنيقة من الجلد الموشى بالخيوط الذهبية، مبالغة في الأناقة والرفاهية. هذه صورة حقيقية للرجل المصري من الطبقة الممتازة: رجل كامل النمو في جميع أجزاء جسمه، لا يستر منه غير عورته، بسروال قصير من الوسط إلى الركبتين مصنوع من الكتان الأبيض المثني (بليسيه)، يلبس فوق صدره عقوداً وخرزا وفي معصميه أساور من ذهب، حليق الوجه منسق شعر الرأس قصيره، لا يضع على رأسه شيئاً، يلبس قفازا من الجلد وصندلاً من الجلد ويمسك بيده سوطا من الجلد موشى بالذهب يسوق به فرسا يمتطيه وتحوطه مظاهر الفخامة والأناقة والرجولة! هل منكم من يعطيني صورة أكمل لأناقة الرجولة من هذه الصورة بعد مضي خمسة آلاف عام على هذه الأناقة وعلى هذا التواليت؟!
زبرجة النساء
لم تكن المرأة المصرية القديمة محجبة، ولم تكن للرجل مجرد متعة، إذ كانت تشاطره العمل في الملك، وفي الكهانة، وفي الحقل، وتقوم في نصيبها في البيت أيضاً. تربى أطفالها، وتجهز بيتها، وتطهي طعام أسرتها، وتحيك ثياب زوجها وصغارها ونفسها. وكل هذا يضعنا وضعاً صحيحاأمام حالة المرأة المصرية كي نفهم على أي أساس كانت تقوم المرأة بعمل تواليتها في مصر. كانت المصرية (ربة بيت) فثوبها يجب أن يكون طويلاً يستر ذراعيها وصدرها وكعبها، لكنهكان أنيقا ليجاري أناقة رجلها، فهو إذن ثوب يجمع بين الحشمة والأناقة، يستر أنوثتها المغرية، ويبرز أنوثتها الطبيعية غير المثيرة. ثوب طويل ضيق ذو ثنيات (بليسيه) يكون في معظم الأحوال أبيض ناصعا تتجلى فيه نظافتها وأناقتها، يسدل عليه في بعض الأحيان ثوب شبكي من خيوط ذهبية أو فضية، ويتدلى فوق هذا الثوب شعرها الأسود الفحمي الطويل، مصفوفا منسقا في ضفائر ملتوية، هي آية في الأعجاز والأناقة إذا قيست بتنسيق الشعر في العصر الحاضر.
ولم يكن السمن من سمات الجمال المصري، فقد حرص المصريون القدماء على تصوير نسائهن في نحافة ورشاقة كأمثلة ونماذج للجمال النسوي، وامتدحوا نحافة السيقان في أشعارهم وغزلهم، إذ يقولالملك خوفو لكبير أمنائه حين أراد النزهة في قارب: (هيا احضر عشرين فتاة نحيفات السيقان والأذرع، ناهدات الصدور، لم يخلق مثلهن من قبل) من قصة الملك خوفو والسحرة: قصص البردي.
العطور
لم يكن نصيب هذا الجسم المستور الجمال، من العناية والتواليت لأقل من نصيب جسم الرجل، فاتنا نقرأ في النصوص: إن المرأة كانت تطلي جسمها بالعطور والأدهان لتصقله وتجعله براقا ناعما تحت ثيابها، ونرى في الصور فوق شعر المرأة قطعة من الدهن العطري الأبيض، ينحل دهنها فوق الشعر شيئا فشيئاً كي يحفظ له طراوته ولمعانه، وفي وصف المرأة في نصوص المصريين كثير يدل على طيب أريج ثيابها وجسمها.
الأصباغ
لم يكن بياض البشرة في مصر القديمة يعتبر جمالا، ذلك أن شمس مصر اللافحة تخرج ذلك اللون الخمري البديع، الذي يجعل من بشرة المصريات خلابة وظرفا لاتصل إليه البشرات الأوروبية البيضاء الناصعة، إذن فقد كانت النسوة المبيضات اللون تسعى إلى الوصول للمثل الأعلى في جمال البشرة، فيعمدن إلى الحناء وهي من النبات المصري الأصيل فيصبغن بها أجسامهن ووجوههن لتصبح لهن تلك البشرة النحاسية الخمرية الظريفة. وهذا ما يطابق تمام المطابقة الغرض الذي استعملت فيه (البودرة) الأوربية. أليس منشأ البودرة هو الحصول على بياض يقترب من بياض المثل الأعلى للجمال الأوربي؟
والأحمر؟ فيم تحتاجه المرأة الخمرية اللون؟ المحمرة البشرة بطبيعتها؟ ثم أي جمال تشاهده الآن في تلك الشفاه الحمراء في لون (الطماطم) بين خدود خمرية وشعر أسود في لون الفحم؟ أنها تبعث في العين تنافراً قل أن يرضي أحدا. لهذا لم يعرفه المصريون في زينتهم مع معرفتهم للونه ومسحوقه في تلوين الجدران البيضاء، وفي التصوير على الفخار، وفي الكتابة على البردي. لكنهم عرفوا (الكحل) ووضعوه في عيونهم، وجعلوا منه ألوانا متباينة بين الأسود الفحمي والأخضر القاتم، والأزرق الداكن، والعسلي الغميق، وكلها لتطابق ألوان الشعر والعيون والأهداب، وتتمشى مع تناسق ألوان هذه الأجزاء من الجسم. وإليك صورة جميلة للمرأة المصرية القديمة:
امرأة رشيقة في ثوب رقيق ناعم من الكتان ذي ثنيات طويلة يستر كل جسمها ويدل على مواضع الجمال الطبيعي فيه، ذات وجه خمري يبدو فوق هذا الثوب الأنيق بجماله الطبيعي، خفيفة حمرة الشفاه، بيضاء الأسنان، سوداء العينين مكحولتهما بكحل يطابق لونه لون حبة عينها، ومرسلة الشعر الأسود في ضفائر على كتفيها، ينتشر أريجه وطيبه وعطوره، وتضع في قدميها صندلا رقيقا يزيدها رشاقة وأناقة. .
هذه هي مثل الأناقة المصرية، والتواليت المصري منذ خمسة آلاف عام!. . . .