انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 159/(إلى صاحب السعادة المحافظ)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 159/(إلى صاحب السعادة المحافظ)

مجلة الرسالة - العدد 159
(إلى صاحب السعادة المحافظ)
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 07 - 1936


أمين أفندي الحاوي (كاتب عمومي) له في هذه الصناعة القدم الأولى والمكان المنفرد. حفظ في صدر أيامه كتابي: (إنشاء العطار، للمحبين والتجار)، و (أبدع الأساليب، في العرائض والمكاتيب)، وهما كتابان يجمعان أعاجيب شتى مما يخطر للبكم من أهل الهوى، ويعرض للجهال من ذوي الحاجة. ثم دخل الجندية في (قرعة الخديوي عباس)، وهي القرعة التذكارية التي طلب فيها لداته (للجهادية)؛ فكان يكتب لرفاقه الجنود رسائل الشوق والعشق والسلام كل رسالة بنصف قرش. فلما خرج من الجيش العامل إلى (الرديف) سلك نفسه في نظام (البوليس) تسع سنين كوامل، ازداد فيها علما بطرائق النظام وطوائف الحكام وأحوال المجتمع؛ وكان من الممكن أن يتقلب في نعيم الشرطة مدة اطول، ولولا إن خيرها الدفاق في يده من الشوارع والحوانيت قد فاض على جسمه فتراكب لحمه، وتدلى بطنه، واستغار فيه الشحم حتى كاد ينقطع قيامه، فلم يكن بد من الحكم عليه بهذه الحجة القائمة على طِماح عينه، وطول يده، وقعود همته؛ فخرج إلى حياة (التحرير)، وهي منذ شب حديث عبقريته ومطمح امانيه، واتخذ له مكتبا تحت السماء أمام (سراي المحافظة)، وألقى حيله الموهوبة والمكسوبة في غمرة الحياة وزحمة العيش، فعادت له بالشهرة الرابحة في دنيا القضايا والشكايا والسمسرة. فكانت العريضة أو الرسالة أو (الكمبيالة) التي يحررها الحاوي، أملاً لحرفائه في ضمان الفوز، ومثلا لزملائه في فن الكتابة. ثم تدخل في زوايا البيوت، وتغلغل في طوائر السرائر، وتبسط على موائد الانس، وتفنن في أساليب الوساطة، فكان دليل (الخاطب)، ونديم الشارب، وسلوة المحزون، وسمسار المشتري، ووكيل المدعي، وسفير الخصوم، ورسول الأحبة. تراه اكثر النهار على مقعده الخشبي الضيق في جلباب فضفاض من الكستور المخطط، ومعطف رقيق من النسيج المهلهل، ورغائب الناس تنثال عليه انثيال النحل العاسلة على الخلية الضخمة: هذا صاحب مظلمة يريد عرض حال، وذاك طالب مصلحة يتلمس طريق المسعى، وتلك زوجة هاجر أو حبيبة فاجر تطلب المعونة من قلمه أو لسانه، وهذا رافع دعوى يرغب توكيل عام، وذلك زميل عجلان يطلب كلمة لغوية أو جملة نحوية يزين بها رسالته الغالية الثمن (لزبونته) الرفيعة القدر، وأمين الأريب في يده قلم، وفوق أذنه قلم، وعلى شفته بسمات تتعاقب مختلفات في السعة واللون والدلالة، يتلقى كل طالب برغبته، وكل سائل بجوابه. وهو بعد ذلك لكثرة ما يغشى بيوت الن عارف بأحاديث الأسر، عالم بأحداث المجامع، خبير بألوان المطاعم، فعنده قصة كل زوجين، وخبر كل صديقين، وخصيصة كل صفحة من صحاف المائدة، فالقرع شفاء من كل داء، والرز نصيب الأرض من حقول السماء؛ وفي الكبد خروق لا تسدها إلا الملوخية، وفي الجسم عروق لا ينبضها إلا الكنافة

من عادة أمين أفندي أن يزورنا كما يزور غيرنا حينا بعد حين، فيمتعنا ساعة بأخباره وأسراره ونوادره، ثم ينصرف وتحت إبطه رزمة مما تكدس عندنا من المجلات المقروءة. دخل علينا أمس جاداً على غير عادته، وقوراً على خلاف طبعه؛ ولم يكد يلقي التحية حتى ألقى إلي في شيء من الزهو صحيفة مسطرة من ورق (العرائض) وفي رأسها بقلم الثلث: (إلى صاحب السعادة المحافظ)، وفي ذيلها بقلم الرقعة: (ابن الحاوي)، وقال:

كتاب مفتوح إلى سعادة المحافظ عن طريق الرسالة. أتنشره أم تطويه؟

فقلت له: وماذا تريد من سعادة المحافظ يا أمين أفندي؟

فقال: قرأت في الصحف انه ألغى (مصايف الأطفال)، فهزني الخبر، وملكتني شهوة الكلام، فكتبت إليه هذا الكتاب أريد منه أن يضيف نقطة من بحر كرمه إلى (مصايف)، فتصبح بفضله (مضايف)! والكتاب بين يديك فاقرأ

قرأت الكتاب في غمر من أحاسيس شتى تتلون تباعا بالإعجاب والإنكار، والحزن والضحك، والانفعال والتبلد؛ ثم قلت له: أنى اقبل كتابك موضوعا وارفضه شكلا، لأنك عرفت كيف تفكر، ولم تعرف كيف تعبر؛ ولغة الدواوين وأسلوب (العرائض) لا يدخلان من أبواب الرسالة؟

فقال وقد طغى في وجهه الدم، ونزا في رأسه الغضب، وانتشر على شفتيه شاربه الأزرق: كيف! لقد حفظت الكفراوي، ولزمت الشيخ عليش، وصحبت الشيخ رشيد، وجادلت الأستاذ وجدي، وقضيت في (التحرير) أربعين عاماً! أفتجابهني بعد ذلك بأنني لا اعرف كيف اكتب؟! فقلت له: هون عليك! سأكتب لك هذا الكتاب بلغة المجلات فإن أعجبك أمضيته. ثم شرعت اكتب: (صاحب السعادة محافظ القاهرة:

(يتقدم إليك بهذه الكلمة والد فقير كابد من نصب العيش وعنت البؤس وتربية الأولاد ما جعله مثلا صحيحا لآلام طبقته. انك ألغيت (مصايف الأطفال) فألغيت حقا كسبه الفقير من الغني، وأخذته العامة من الخاصة. كان هذا الحق لنقصه وقصوره كنظرة أهل النار إلى أهل الجنة يضاعف ألم الحرمان ويجسم شقاء البؤس، ولكنه على أية حال كان ترضية لكرامة الشعب

ولقد كان في نفسي أن اطلب إلى وزارة الأمة أن تجعل المصايف مضايف تؤوي شرداء الطفولة وطرداء الفاقة، فتنقلها بذلك من الخصوص إلى العموم، وتحولها من تملق الكمال إلى معالجة الضرورة. فأفاريز الشوارع وأفواه الطرق وزوايا الأبنية مغطاة في الليل القارس القاسي بجسوم اليتامى والهمل من أطفال القاهرة، تترعرع في أحضانهم القذرة أغراس الرذيلة، وتتكاثر على روائحهم الكريهة جراثيم المنكر، والملاجئ وحدها علاج هذه الحال الأليمة. فإذا كان هذا الإلغاء لسد هذا الخلل وإصلاح هذا الفساد، فما عدوت الصواب ولا أخطأت الحزم؛ وأما إن كان لقلة المال أو ضعف الرغبة فقد قضيت على فكرة جميلة واعتديت على حق مقدس. . .). . .

وكان أمين قد سكت عنه الغضب، فنظر فيما اكتب ثم قال منفعلا: ما هذا؟ أين (الديباجة)؟ وأين ما يجب لمثل هذا العظيم من عبارات التفخيم؟ أرجو ألا تكمل! سآخذ كتابي وأسلمه إلى الباشا يداً بيد! فقلت له: أرحتني أراحك الله! وسلمته الكتاب يداً بيد، ثم صافحته يداً بيد. وخرج الحاوي وأنا ارجح أنى كسبت عدوا جديداً من جراء النشر في الرسالة

أحمد حسن الزيات