مجلة الرسالة/العدد 158/شعراء الموسم في الميزان
مجلة الرسالة/العدد 158/شعراء الموسم في الميزان
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 1 -
ما أظن أننا كنا نجد فرصة، مثل موسم الشعر، نقف فيها إلى الشعراء لنرى ما عندهم، فقد أنشد كل شاعر قصيدة هي خير ما عنده، أو من خير ما عنده. ولو أن الحفل كان لمناسبة من المناسبات التي يقال فيها الشعر في غرض واحد، لما كان يصح أن تكون مقياساً لتفاوت الشعراء وتفاضلهم، فقد لا يجيد شاعر في الرثاء مثلا ويجيد في غيره، وفي الوقت نفسه يكون إلى جانبه شاعر على عكسه في ذلك. أما موسم الشعر فقد قال فيه كل شاعر فيما يحسنه، وما تواتيه قريحته في تناوله، فالموسم إذن ميزان تميل كفته بالراجح في الشعر لا ينقص من قدره شيء
ولقد كان الناس يقولون بانقضاء الشعر بعد شوقي وحافظ، وكان الشعراء يدافعون هذا القول بوثبات غير مقنعة كل الإقناع، ولكن موسم الشعر حمل إلى الناس دليلاً على أن في الجيل الحاضر جيلاً من الشعراء لا بأس به في مجموعه، وإن كان منهم من برز وبرع
ولكن الفرصة كادت أن تفلت، وكاد الموسم يقضي بانقضاء الساعتين اللتين شغلهما الشعراء بإلقاء القصائد، مودعاً بكلمات إخبارية من الصحف لا تغني عن النقد شيئاً؛ فلم يقض الموسم من عمره إلا المرحلة الأولى وهي عرض الشعراء قصائدهم، فما كادوا ينتهون من ذلك حتى انفضت السوق ولم ينصب لهم ميزان؛ والحق أنني كنت أوثر أن أكون شاهدا للموسم، مستمتعاً بما يجري فيه على أن أجوب معمعته وأقيم ميزان النقد في سوقه؛ ولكن النقاد حرموني هذه المتعة بإحجامهم عن النقد، ولست أدرى لماذا أحجموا
أما وقد أخذت على نفسي أن أسلك في هذه المهمة سبيل الحق، عالماً بما في هذا السبيل من أشواك، موطد العزم على اجتيازها، فلا يبقى إلا رجاء التوفيق وإلهام الصواب. وأخذا في تلك السبيل سنتبع في تصفح القصائد وتفحصها ترتيب الشعراء أنفسهم في الإلقاء إذ كان ذلك على حسب الحروف الهجائية عاصفة روح
قصيدتان ألقاهما الدكتور إبراهيم ناجي، وقدم لهما بهذه العبارة: (قصة نفس، ذات فصلين: الأول ثورة النفس بينما الزورق يغرق والملاح يستصرخ؛ والثاني استيقاظ الكبرياء بعد هدوء العاصفة)
والواقع أن هذه العناوين: (عاصفة روح. قصة نفس. ثورة نفس. كبرياء) ليست ذات حظ كبير من المدلولات في القصيدتين، نستثني منها (الكبرياء) لأربعة أبيات في آخر القصيدة الثانية التي سماها بهذا الاسم (الكبرياء) تحدث في هذه الأبيات عن الشمم والكبرياء حديثاً يملأ النفس ويفعم القلب، وهي:
أيخيفني العشب الضعيف أنا الذي ... أسلمت للشوك الممض أديمي
وإذا ونى قلبي يدق مكانه ... شممي وتخفق كبرياء همومي
ورجعت أحمل جعبتي متحدياً ... زمني بها وحواسدي وخصومي
ورفعت نحو الله رأساً ما انحنى ... بالذل يوماً في رحاب عظيم
وهذه أبيات جيدة؛ غير أن كبرياء الهموم أمر لا يطاق! وسياق المعنى يقتض كبرياءه هو لا كبرياء همومه؛ أما فيما عدا هذه الأبيات فلا تجد روحاً، لا عاصفة ولا غير عاصفة، ولا تجد في قصيدة (ثورة نفس) وهي الفصل الأول (للاقصة) نفساً، لا ثائرة ولا هادئة؛ وإنما هي ثورة كلمات على أوضاع الكلام، وتمرد عبارات على أداء المعاني. . مهلاً أيها القلم، لقد قالوا إن هذا شعر جديد. . وأغض النظر عن كلمتي جديد وقديم، وأناقش هذا الكلام على أنه شعر لا بد أن يؤثر في النفس، ولا بد أن يصاغ في عبارات سليمة، ولن تغني كلمة جديد عن شيء من ذلك
يقول الشاعر:
أين شط الرجاء ... يا عباب الهموم
ليلتي أنواء ... ونهاري غيوم
أعولي يا جراحْ ... أسمعي الديان
لا يهم الرياح ... زورق غضبان
البلى والثقوبْ ... في صميم الشراع والضنى والشحوب ... وخيال الوداع
إلى هنا تستطيع أن تعرف أن نفساً غارقة في الهموم تسأل عن شط الرجاء، وتشكو من أنواء الليل وغيوم النهار، وتطلب إلى جراحها أن تعول لتسمع الديان، فالرياح لا يهمها زورق بقول عنه الشاعر: غضبان! مع أن الرياح هي الغاضبة عليه، وأما هو فمسكين، رقيق الحال، بال، مثقوب الشراع؛ ويظهر أن الضنى والشحوب وخيال الوداع من آلام تلك النفس، إذ لم يقل لنا ماذا جرى لها، وليس فيما قبلها ماله صلة بها.
إلى هنا تستطيع أن تدرك معنى هذا الكلام، وان كان لم يؤد إليك تأدية شعرية تصل إلى نفسك، أما ما بعد ذلك فكلمات صاخبة في بحر من النظم، وعبارات متمردة ثائرة: فالسكين ترقص، والفجر مذبوح، والدجى مخمور، والردى سكران، والظلام يتولى في عناق الصخور؛ ولا يقولن أحد إنني أبتر الكلام، فهذان البيتان:
كان رؤيا منام ... كأسك المسحور
يا ضفاف السلام ... تحت عرش النور
ما معناهما؟ ضفاف السلام التي تحت عرش النور كأسها المسحور كان رؤيا منام!!
والمتأمل يرى أن في القصيدتين محاولة لتصوير قصة نفس وإبراز فكرتها وهي اعتصام النفس بالكبرياء من عواصف الهموم والآلام، ذلك أن النفس الكبيرة تمر بها الهموم والآلام لا تنال منها شيئاً، وإن استسلمت لتواردها فأنها لا تلبث أن تمتنع منها بالكبرياء والشمم؛ ولكن القصة وفكرتها لم يأخذا حظهما من التصوير والإبراز
أوبة الطيار
وهي قصيدة الأستاذ أحمد رامي، مستواها عادي، ومعانيها عامة وقليلة، ونستطيع أن نقول إنها قصيدة لفظية، فألفاظها سمحة وإن كانت ضنينة بالمعاني. ومن يسمع هذه القصيدة أو يقرؤها يدرك قصور الشاعر عن التحدث في موضوع القصيدة عن خوالج نفسه، أو بإفقار النفس من الخوالج في هذا الصدد
يقول في مطلع القصيدة
في سكون المساء والبحر ساج ... والسحاب العبير في الجو سار
كنت أرنو إلى الغروب وأروي ... ناظري من صبابة الأنوار فإذا بي ألقى دخاناً ولا غي ... م وريحاً وليس من إعصار
فتبينت أستشف جبين ال ... أفق من بين هذه الأستار
فإذا هي جماعة من بنات ال ... ريح تطوي الفضاء عبر البحار
أعجبني البيت الثاني، ومن حسنه التعبير بصبابة الأنوار عما يكون وقت الغروب، وتروية النظر بهذه الصبابة التي هي أجمل من النور كله؛ وبعد ذلك يقول إنه لقي دخاناً غير مصحوب بغيم وريحاً ليست من إعصار، فلما كان الدخان من غير غيم والريح من غير إعصار، فقد جعل يتبين. . الخ، وفي هذا خطأ في ترتيب الفكر فليس الدخان ينشأ من الغيم، والريح لا يلزم أن تكون من إعصار، حتى يتلمس لهما سبباً آخر. على أنه لا يزال في موقفه ومشهده، ويذكر في البيت الأول أن السحاب يسير في الجو، ثم يقول في الثالث: لا غيم. وهل الغيم سوى السحاب؟!. وفي البيت الخامس يشبه سير الطيارات في الفضاء بعبور البحار، وهذا التشبيه ليس إلا عبرا إلى القافية
والتعبير (حداة الرياح) في قوله:
يا حداة الرياح ماذا لقيتم ... من ركوب الأهوال والأخطار
ليس من الصواب في شيء لأنهم لا يسوقون الرياح ولا يغنون لها، وإلا فما معنى حداء الرياح؟
ومن الأبيات الحسان في القصيدة قوله عن الطيار:
وأبو الهول في الفلا كاد يقعى ... ثم يرنو إليه بالأنظار
وإن كان أبو الهول في فلاة واحدة لا في (فلا) متعددة
والملتقى عند قصيدة (صرعى الأغراض) للأستاذ أحمد الزين
عباس حسان خضر