مجلة الرسالة/العدد 157/مقاييس الشعر
مجلة الرسالة/العدد 157/مقاييس الشعر
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ذكر ابن سلام أنه شهد خَلَفاً وقد قيل له من أشعر الناس؟ فقال: ما ينتهي هذا إلى واحد يجتمع عليه، كما لا يجتمع على أشجع الناس، وأخطب الناس، وأجمل الناس
وإذا أردنا أن نبحث عن السبب في تشعب الخلاف في ذلك إلى هذا الحد لم نجده يرجع إلا إلى أن علماء الأدب لم يهتدوا في ذلك إلى مقياس عام للشعر يمكن به وضع كل شاعر في مرتبته التي يستحقها بموجب هذا المقياس العام، ويرجع إليه علماء الأدب فتتفق عليه كلمتهم في ترتيب طبقات الشعراء، أو يقرب الخلاف بينهم في هذا ولا يتشعب ذلك التشعب. وإن عدم اهتدائهم إلى ذلك المقياس العام للشعر ليجعل خلافهم في ترتيب طبقات الشعراء على استفحاله بينهم مما يجدر بالباحث عدم الاعتداد به، لأنه يكاد يكون خلافاً لفظياً لا حقيقياً، إذ لكل فريق وجهة نظر فيمن يقدمونه من الشعراء خلاف وجهة نظر الآخرين كما يقدم أهل البصرة امرأ القيس لسبقه إلى ابتداع أشياء استحسنها العرب واتبعه الشعراء، من استيقاف الصحب وبكاء الأطلال، وتشبيه النساء بالضباء وغير ذلك. وكما يقدم أهل الحجاز زهيراً والنابغة، لأن أهل زهيراً كان أحكم الشعراء شعراً، وأبعدهم من السخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، وأنه كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، وأنه مع بلوغه ما بلغ في المدح لم يمدح أحداً بغير ما هو فيه. ولأن النابغة كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، وكأن شعره منثور لا تكلف فيه. وكما يقدم أهل الكوفة الأعشى لأنه كان أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في الشعر فنوناً، وأكثرهم طويلة جيدة
وقد قسم علماء الأدب الشعراء تقسيماً يمكن أن يعد من المقاييس العامة للشعر، ولكنه لا يفيدنا في ترتيب طبقات الشعراء الفائدة المطلوبة، فقالوا إن الشعراء أربعة أقسام: شاعر فحل وهو الذي يجيد الشعر ولا يروي لغيره؛ وشاعر خِنْذِيذٌ وهو الذي يجيد الشعر ويروي الجيد من شعر غيره، فهو شاعر وعالم بالشعر. وقد يقال الفحل لما يشمل هذين القسمين فيكون أعم من الخنذيذ؛ وشاعر وسط وهو الذي لا يبلغ رتبة الفحول ولا ينحط شعره إلى الرديء؛ وشُعْرُورٌ أو شويعر وهو الرديء وقد وضعنا للشعر مقياساً عاماً يتفاضل فيه الشعر باعتبار نبل أغراضه وشرف مقاصده، قبل أن يتفاضل بجماله وألفاظه ومعانيه. ولقد وازنا بهذا المقياس بين امرئ القيس وعدي بن زيد في كتابنا (زعامة الشعر الجاهلي)، وبين أبي العتاهية وبشار وأبي نؤاس فيما كتبناه في مجلة (الرسالة) الغراء عن أبي العتاهية، فخرجنا من هذا بتفضيل عدي بن زيد على امرئ القيس، وتفضيل أبي العتاهية على بشار وأبي نؤاس، وهو أمر لا يمكن أن يخالفنا فيه أحد يوافقنا على صحة هذا المقياس الذي وضعناه للموازنة بين الشعراء؛ وإنها لميزة كبيرة له يظهر فضلها إذا نظرنا فيما روى في ذلك عن خَلَفٍ فيما سبق
ولكن جمهرة أدبائنا لا يوافقون على هذا المقياس الجديد، وينكرونه علينا أشد الإنكار. وهم معذورون في هذا الإنكار أشد العذر، لأن دراسة الأدب قد سارت من نشأتها إلى الآن على خلاف رأينا في هذا المقياس، حتى إن الأصمعي رحمه الله وسامحه كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا في باب الشر، فإذا دخل في الخير لان. وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار وغير ذلك
وقد ذكر قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر) رأيا في ذلك أخف من رأي الأصمعي، فهو يرى أن الذي يلزم الشاعر فقط أنه إذا شعر في أي معنى كان من الرفعة والضَّعَة، والرَّفَث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والذم وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة التي يمليها على الشاعر وجدانه، ويوحي إليه شيطانه، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة
وقد حملني ذلك النفور من رأيي في قياس الشعر بأغراضه ومقاصده قبل ألفاظه ومعانيه على تقييد كل ما أجده يؤيده في مطالعاتي، فوصلت في ذلك إلى طائفة صالحة من أقوال الحكماء والشعراء، ولم أقصد من مقالي هذا إلا تقييدها على صفحات مجلة (الرسالة الغراء)
قال الأحوص:
وما الشعر إلا حكمةٌ من مؤلِّفٍ ... لمنطق حقِّ أو لمنطق باطل
وقال فكتور هوجو: الشاعر مصلح عظيم، ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى الحرية والحمال والحب
وقال حسان بن ثابت:
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقالُ إذا أنشدتَهُ صَدَقا
وإنما الشعر لُبُّ المرء يعرضه=على البرِّية إن كيْساً وان حُمقَا
وقال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن الحكم: إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعرّ شريفة، والهجاء فتهجن كريماً، أو تثير لئيما. وإياك والمدح فهو كسب الأنذال، ولكن افخر بمآثر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك، وإن لم تجد من المدح بداً فكن كالملك المرادي حين مدح فجمع في المدح بين نفسه وبين الممدوح فقال:
أحللتُ رَحْلي في بني ثُعَل ... إن الكريم للكريم مَحَلّْ (؟)
وقال النابغة الشيباني:
وإني حاكمٌ في الشعرُ حكماً ... إذا ذُكرَ القوافي والنَّشِيدُ
فخير الشعر أكرمه رجالاً ... وَشَرَّ الشعر ما نطق العبيد
وقال أيضاً:
من الشعراء أكفاءٌ فحولٌ ... وفَرَّ أُثون أن نطقوا أساءُوا
فهل شعر أن شِعْرُ غِناً وحكمٌ ... وشعرٌ لا نصيح به سواءُ
وقال أبو نؤاس:
الشعر ديوانُ العربْ ... أبداً وعنوانُ الأدبْ
لم أعْدُ فيه مفاخري ... ومديح آبائي النُّجُبْ
ومقطَّعاتٍ رُبَّما ... حلَّيت منهنَّ الكتب
لا في المديح ولا الهجا ... ء ولا المجونِ ولا اللعبْ
ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغني أنك لا تحسن الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه خراب الأخبية، قال: وما يمنعك من ذلك؟ قال إن لنا عزاً يمنعنا من أن نُظلم، وحلما يمنعنا من أن نظلم. قال لكلماتك أحسن من شعرك. فما العز الذي يمنعك من أن تظلم؟ قال الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال لقد أصبحت حكيما، قال وما يمنعني من ذلك وأنا نجي أمير المؤمنين؟
وقال أبو العلاء المعري:
مُلَّ المُقَامُ فكم أعاشر أمةً ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها
فِرَقاً شعرتُ بأنها لا تقتني ... أدباً وأن شرارها شعراؤها
وقال الفارابي: إن أكثر شعر العرب في النهيم والكريه، وذاك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان، ويؤدبوا من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فأنه ليس تحث العرب في أشعارها على شيء من الفضائل سوى هاتين الفضيلتين، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر، لأن أكثر شعرهم من شعر المطابقة الذي يصفون به الجمادات كثيراً والحيوان والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة والكف عن الرذيلة، وما يفيد أدباً من الآداب، أو معرفة من المعارف
وقال محمود سامي البارودي:
الشعر زَيْنُ المرء ما لم يكن ... وسيلة للمدح والذَّامِ
قد طالما عَزَّ به معشرٌ ... وَرُبَّما أزْرَى بأقوام
فاجعله فيما شئت من حكمة ... أو عظة أو حسب نام
وَاهْتِفْ به من قبل تسريحه ... فالسهم منسوب إلى الرامي
ولا شك أن من ينظر في هذه الأقوال والأشعار لهؤلاء الحكماء والشعراء يجدها تتفق تمام الاتفاق مع ذلك القياس الذي وضعناه للشعر ليصلح به أمره، ويحسن في الناس أثره
عبد المتعال الصعيدي