مجلة الرسالة/العدد 157/في النقد أيضا
مجلة الرسالة/العدد 157/في النقد أيضا
ً
عزيزي الدكتور هيكل بك:
كان للفصل الذي كتبته منذ أسابيع في (النقد المزيف) أثران مختلفان: اثر رضيته أنت فسميته نجاحا صحفيا، لأنه أثار حواراً طريفاً بين صديقين من كبار الكتاب في مصر فدعواك بما شققا منه إلى المشاركة فيه؛ واثر سخطته أنا فسميته مصاباً أدبيا، لأنه ألب عليَّ كثيراً من طوائش الأفهام في مصر وفي غير مصر؛ ففريق ظن أنني عنيته بهذا المقال، كأنه لمح في نفسه آثار تلك العيوب فاتهم ثم حكم ثم غضب لأنني قلت الواقع وقال الحق، ثم حاول بهذا الغضب أن يستفزني إلى المسافهة؛ وفريق زعم أنني غمطت مدارك الشباب فاستعجزتهم عن النقد، واستحمقتهم في تكلف ما لا يحسنون بحكم السن والدرس والطبيعة؛ ثم جعلوا رأيك في ذلك نقيض رأيي، ومضوا يتعززون به ويدافعون وليس منا هجوم، ويرافعون وليس بيننا قضية
الواقع أنني هاجمت نوعا من النقد فشا على بعض الأقلام الرخوة، يصور الحق بلون الباطل ليضحك، ويبرز الجميل في مظهر القبيح ليسيء؛ وهو ينبعث إما من مكامن الحقد فيرمي إلى التجريح، وأما من مواطن الغرور فيرمي إلى الهدم. وذلك الضرب من الهوى العابث يترفع عنه الشاب والشيخ، بدليل أن أحدهما إذا ملكته الحفيظة لجيله رمى به الآخر. على أنني حين قلت أن النقد المنطقي ملكة فنية أصيلة، وتربية أدبية طويلة، وثقافة علمية شاملة؛ وان الناقد بهذا الاعتبار يشارك المشترع في صدق التمييز، والفيلسوف في دقة الملاحظة، والقاضي في قوة الحكم، كان في نفسي - واعترف بذلك - أن الشيوخ في الغالب هم أصحاب هذا الفن وأرباب هذه الملكة. وأقول (في الغالب) لأني قرأت منذ سنين للأستاذين: (غريب) و (المصري) وهما من كتاب الشباب فصولا في النقد كانت موضع الإعجاب في (البلاغ). ولكنك تقول إن النقد ظاهرة من ظواهر الشبيبة تحدث دائماً في شرَّة العمر، حتى إذا انكسرت (مال الكاتب مع سجيته، واختار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه)، كما وقع لك؛ ثم تخرج من ذلك إلى أن العلة في ركود النقد هي أن الشباب لا يقرأ، وإذا قرأ لا يمحص، وإذا محصلا يثور فينقد. وفي هذه الفكرة وحدها ينحصر الخلاف بيني وبينك.
أنا أفهم أنك تنصرف عن النقد إلى معالجة السيرة النبوية بهذا التحليل المنطقي البارع، لأنه أجدى على الناس، وأعود على الأدب، وأجدر بالكاتب المرسل؛ ولكنني لا أفهم أن يكون انصرافك عن النقد نتيجة محتومة لانصراف الشباب عنك؛ لأن ذلك يناقض طبيعة النقد في ذاته، ولا يوائم فيما أظن قولك: (إن نقد الأثر الأدبي يدل على علو الكعب في العلم أو في الثقافة أو في التهذيب)
يخيل إليَّ أن منشأ هذا الخلاف أنك سميت التمرد نقداً، والنقد تحليل تاريخ وتعليل أدب؛ فان من أقوى خصائص الشباب ذلك الطموح الذي يولد القلق، والقلق الذي يخلق التمرد، والتمرد الذي يحدث الثورة. في هذا معنى الحياة ومعنى التطور ومعنى التكمل ومعنى التحرر، ولكن ليس فيه على الكثير الغالب معنى التمييز الذي يقتضي طول الخبرة، والتفضيل الذي يوجب شمول العلم، والحكم الذي يطلب نزاهة العقل.
إنك لا تستطيع أن تُخلص الشباب من سطوة الهوى وفتنة الغرور وغلبة العاطفة؛ وأولئك هن آفات النظر الفاحص والرأي المستقر؛ فالشاب يخضع في أحكامه لتأثير الساعة من قراءة أو صداقة أو استفزاز أو اشمئزاز أو إيحاء أو مرض؛ وهو في تسبيب هذه الأحكام يتعارض مع المعروف ويتناقض مع الواقع.
هذا كاتب شاب أعجلته ضرورات العيش عن استكمال العدة للكتابة، فهو يكتب بقوة المحاكاة، لا يحور إلى فن ولا يجري على مذهب؛ وهو بالطبع يفتقد الكلام المعرب والأسلوب المحكم والأدب الموروث، على حين يحفظ عن ظهر الغيب قواعد اللغة الأجنبية، ولا يجيز لنفسه أن يخطئ في صيغها المتعددة ولا في إملائها المعقد. وهذا أديب شاب ينتقدك أنت ويرميك بالرجعية وتمليق العامة، لأنك كتبت عن (محمد) بعد أن كتبت عن (روسو) و (شلي). وهذا مؤلف شاب له كتاب في نقد (حافظ) لم أقرأه بعد، كتب إلي يتهمني بأنني قصدته بمقالي لأنني كتبته على أثر ظهور كتابه. ويقول إنه يستطيع أن ينقد ما كتبته في الرواية المسرحية بأنه منقول عن الفرنسية. ودليله بالطبع أن هذا الموضوع لا مرجع له في أدب العرب، إذن فمن أين جاء؟ من اللغة الفرنسية التي أعلمها! ولو كنت أعلم الإنجليزية مثلاً لكان النقل عنها ولا شك، ما دام النقد في عرفه حكما من غير تعليل ودعوى من دون دليل. ولا أدري لم لم يقل إن كتابي في تاريخ الأدب العربي منقول عن العربية كذلك لأن مراجعه منها! فهل يرى الدكتور في مثل هذا النقد أنه كما قال (تناول لمواد الحياة العقلية والأدبية وهضمها وتمحيصها وتمثّل الصالح منها ونفي الزائف عنها؟) أم الحق أن ركود الأدب وفوضى النقد لا يرجعان إلى الشّيب ولا إلى الشباب، وإنما يرجعان إلى تهريج الصحف وكسل الكتاب؟
احمد حسن الزيات