مجلة الرسالة/العدد 157/تطور العقلية الإسبانية في تقدير تراث الأندلس
مجلة الرسالة/العدد 157/تطور العقلية الإسبانية في تقدير تراث الأندلس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أوائل سنة 1929، احتفلت جامعة غرناطة بذكرى الخلافة الأندلسية لمناسبة مضي ألف عام على قيامها فكان أول حادث رسمي من نوعه ينم عن تطور عميق في تقدير إسبانيا النصرانية لتراث الأندلس المسلمة
وتاريخ الإسلام في الأندلس مرحلة باهرة في تاريخ إسبانيا القومي، بل أعظم مراحله وأسطعها، فقد لبث العرب في إسبانيا زهاء ثمانية قرون أنشئوا فيها أعظم حضارة عرفت في العصور الوسطى، وكانت وحدها مدى هذه العصور مورد النور والعرفان لأمم الشمال؛ وأخرج المسلمون من إسبانيا بعد أحقاب من الكفاح المتواصل، فتركوا في إسبانيا طابعهم الخالد؛ وما زالت آثارهم الباقية تشهد بعظمة عصرهم وحضارتهم، وما زالت الحياة الاجتماعية الإسبانية تنم في كثير من نواحيها عن تأثير العرب ورسومهم وتقاليدهم.
ولكن إسبانيا النصرانية لم تقنع بسحق الأندلس المسلمة، واستعادة آخر بقعة للإسلام في إسبانيا، بل رأت غداة ظفرها أن تطارد الإسلام بكل ما وسعت، وأن تمحو كل رسومه وآثاره من صفحة حياتها، وأن تدفن ذلك الماضي المجيد إلى الأبد، وأن تعتبره محنة قومية نزلت بها، وأن تمحوه من صحف تاريخها القومي؛ وتأثر التفكير الإسباني بأهواء السياسة المتعصبة، فأشبع بهذه الروح المجحفة؛ ولبث الأدب الإسباني عصورا يشيع بلعناته المتواصلة عصر الإسلام وتراثه، وكل ذكرياته؛ ولم ينج التاريخ من هذه النزعة المغرضة، فطغى التعصب على المرحلة الإسلامية من تاريخ إسبانيا القومي؛ وكتب المؤرخون الأسبان تاريخ العرب في إسبانيا بروح عميق من التحامل، وجعلوا جل اعتمادهم على الروايات النصرانية القديمة التي تفيض بمختلف الأكاذيب والتهم، ولم يفكروا في مراجعة المصادر الإسلامية والانتفاع بها؛ ذلك أن إسبانيا النصرانية أصدرت منذ غداة ظفرها حكمها على المغلوب، ولم ترد بعد ذلك أن تسمع صوتاً للأندلس الذاهبة، أو أن تراجع ذلك التراث الذي تعتبره رجساً، وترى فيه عنوان عصور مشئومة، مليئة بالمحن القومية.
وبهذه الروح كتب أكابر المؤرخون الأسبان تاريخ إسبانيا، فكتب ماريانا في عصر شارلكان تاريخ إسبانيا العام، وخصص منه مجلدين كبيرين لتاريخ الأندلس، ولكنه ك متحيزاً متحاملاً يغدق المطاعن والتهم على العرب وعصور الإسلام؛ وحذا حذوه من جاء بعده من المؤرخين؛ وطبعت مؤلفاتهم جميعاً بهذا الطابع المغرض؛ وكانت السياسة الإسبانية تحرص دائماً على حجب آثار العصر الإسلامي، وتخفيها عن كل باحث ومتطلع، كأنما كانت تخشى أن تؤثر روح التفكير الإسلامي في تفكير إسبانيا النصرانية، وهي لم تدخر وسعاً في مطاردة هذا الروح وقتله؛ ولبثت الآثار الإسلامية عصوراً مقبورة في أقبية الأسكوريال المظلمة، وكانت حتى أواخر القرن السابع عشر تبلغ زهاء عشرة آلاف مجلد جمع معظمها أيام سقوط غرناطة، وضمت إليها بعد ذلك نحو ثلاثة آلاف مجلد كانت للسلطان زيدان السعدي ملك مراكش؛ وكانت مشحونة في مركب مغربي لتنقل إلى بعض ثغور المغرب خوفاً على ضياعها أثناء الفتنة، فأسرتها بعض المراكب الإسبانية وحملت شحنتها إلى إسبانيا؛ وفي أواخر القرن السابع عشر أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس محنة أليمة، إذ شبت النار في الأسكوريال والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين. عندئذ استفاقت الحكومة الإسبانية من سباتها؛ وحررت ذهنها بعض الشيء من ذلك التعصب العميق الذي صرفها عصوراً طويلة عن العناية بهذا التراث، واستدعت من رومة حبرا شرقياً وعلامة لغوياً كبيراً هو ميشيل الغزيري اللبناني الذي يعرف في الغرب باسم (كازيري) وعهدت إليه بدرس الآثار العربية ووضع فهرس جامع لها؛ فلبث الغزيري أعواماً طويلة يدرس وينقب في تلك المخطوطات حتى أتم المهمة، وأخرج في سنة 1760 باللاتينية فهرسة الجامع بعنوان (المكتبة العربية الإسبانية في الأسكوريال) - وصدر كازيري معجمه بمقدمة طويلة شرح فيها قيمة المخطوطات العربية وأهميتها، ونقل في فهرسه نبذاً كثيرة من بعض الآثار الهامة؛ فأثار ظهور هذا الفهرس الجامع لأول مرة اهتماماً كبيراً في دوائر البحث والتفكير، ولفت نظر المؤرخين الأسبان إلى تلك الناحية الهامة من تاريخ إسبانيا القومي، وإلى تلك المراجع النفيسة التي تلقي أعظم ضوء على تاريخ الأندلس وأحوال المجتمع الإسلامي؛ وعني طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر مثل أندريس وماسدي ببحث المصادر العربية والانتفاع بها، والاقتباس منها؛ وأخرج أندريس كتابه عن (أصول الأدب) وأخرج ماسدي مؤلفه الجامع عن تاريخ إسبانيا والحضارة الإسبانية وفيه نبذ شائقة عن المجتمع الإسلامي ونواحي التفكير الإسلامية مستمدة من المراجع العربية؛ وهكذا بدأ تطور الروح الإسبانية في تقدير التراث الإسلامي، وظهر صوت الأندلس المسلمة لأول مرة في التواريخ العامة والخاصة.
على أن هذا التطور المحمود من التحامل والتعصب إلى جانب الروية والإنصاف لم يقف عند هذا الحد، ففي أوائل القرن التاسع عشر عمد المؤرخ يوسف كوندي أمين مكتبة أكاديمية مدريد إلى دراسة المراجع العربية في الأسكوريال دراسة مستفيضة ورأى أن يكتب تاريخ أسبانيا المسلمة بصورة جديدة هي الصورة التي تقدمها إلينا المراجع العربية، أو بعبارة أخرى رأى أن يكتب تاريخ الأندلس كما يعرضه تراثها العربي، وكانت نتيجة هذه الدراسة كتابه الشهير (تاريخ دولة العرب في أسبانيا) الذي صدر الجزء الأول منه سنة 1810؛ وتوفى كوندي في نفس العام، فنشر الجزءان الباقيان من مخطوطاته في العام التالي؛ وليس مؤلف كوندي قوياً من الناحية النقدية، لأن مؤلفه ينقل مختلف الروايات العربية دون تمحيص، ولأنه يقع في كثير من الأخطاء التاريخية التي ترجع في الغالب إلى عدم الدقة في النقل؛ ومع ذلك فانه يمتاز بالصراحة الجمة حتى أن كوندي يذهب في كثير من المواطن إلى إصدار أشد الأحكام على أمته ومواطنيه خصوصاً في الحوادث التي اقترنت بسقوط غرناطة، واضطهاد الأسبان للعرب ومطاردتهم وإرغامهم على التنصير، ثم إخراجهم بعد ذلك من أوطان آبائهم وأجدادهم في غمر من الفظائع والدماء؛ وأهمية مؤلف كوندي في أنه يعرض للغرب لأول مرة أقوال الرواية العربية مستمدة من مصادرها الأصيلة، ومنها تعرف وجهة النظر الأندلسية في كثير من الحوادث والشؤون.
وكان صدور مؤلف كوندي حادثاً فريداً في كتابة التاريخ الأسباني، وكان أول مؤلف من نوعه يسجل كلمة الأندلس في المرحلة التي قطعتها من تاريخ إسبانيا القومي. ويسجل في نفس الوقت بدء عهد جديد من حرية البحث والتقدير؛ ومن الغريب أن كتاب كوندي صدر في نفس الوقت الذي صدر فيه أثر تاريخي آخر كان لصدوره أعظم وقع في إسبانيا وفي أوربا، وهو كتاب الدون انتوينو لورنتي عن تاريخ محاكم التحقيق (التفتيش) الأسبانية، وعن نظمها وإجراءاتها الدموية، وفيه يورد مؤلفه طائفة عظيمة من الوثائق الرسمية التي تكشف عن فظائع هذه المحاكم الشائنة، وخصوصاً في مطاردتها للعرب والعرب المتنصرين، ويورد في نفس الوقت طائفة كبيرة من القضايا والمحاكمات الخاصة بالعرب المتنصرين مستمدة من وثائقها الأصلية؛ وكان كتاب لورنتي فتحاً جديداً في هذه الناحية من تاريخ العرب المتنصرين. وكان لصدوره وقع عظيم في أوربا، خصوصاً وأن مؤلفه من أكابر رجال الدين والكنيسة، وقد لبث أعواماً طويلة سكرتيراً عاماً لديوان التحقيق (التفتيش) واستطاع أن يستخرج وثائقه من محفوظات الديوان الرسمية ذاتها
وفي أواسط القرن التاسع عشر عنى العلامة المستشرق الأسباني دون باسكوال دي جاينجوس بدراسة المصادر العربية في تاريخ الأندلس، وقام بترجمة القسم الأول من كتاب (نفح الطيب) للمقري إلى الإنكليزية مع بعض التصرف وسماه (تاريخ الدول الإسلامية في إسبانيا) وظهرت هذه الترجمة في لندن سنة 1840 في مجلدين كبيرين مقرونة بملاحظات ومقارنات نقدية قيمة؛ ولم تمض أعوام قلائل على ذلك حتى صدرت في ليدن ترجمة فرنسية لهذا القسم الأول من كتاب المقري بقلم المستشرقين دوزي ودوجا تحت عنوان (مختارات في تاريخ وآداب العرب في إسبانيا) ' ' ' (سنة 1855 - 1861)
وهكذا وقفت إسبانيا، ووقف الغرب، بعد عصور طويلة من النسيان والتحامل على وجهة النظر الإسلامية في التاريخ الأندلسي، وسقط ذلك الحجاب الكثيف الذي ضربته السياسة الأسبانية مدى ثلاثة قرون على تراث الأندلس وآدابها، وتطورت فكرة التاريخ الأسباني ومادته، وأدرك المؤرخون المحدثون أهمية المرحلة الإسلامية في تاريخ إسبانيا القومي، وعدلوا كثيراً من الآراء والأحكام المجحفة التي أصدرها المؤرخون القدماء نزولاً على مؤثرات الجهل والتعصب القومي والديني والسياسي.
ونرى في أواخر القرن التاسع عشر جماعة من أعلام المستشرقين الأسبان يبذلون جهداً عظيما في نشر مجموعة كبيرة من المصادر الأندلسية الجليلة التي تحتويها أروقة الأسكوريال، باسم المكتبة الأندلسية، وهي مجموعة نفيسة في عشرة مجلدات، تحتوي على عدة كتب لابن بشكوال، وابن الآبار، والضبي، وابن الفرضي، وأبو بكر الاشبيلي، وتعليقات وفهارس مفيدة. وقد ظهرت المجموعة بين سنتي 1885 و 1894 في مدريد وسرقسطة، وكان الجهد الذي بذل في إخراجها تحية جديدة من إسبانيا الجديدة لتراث العرب والإسلام في الأندلس.
وأخيراً توجت تلك الجهود الحرة الموفقة لبحث الصلات والعلائق القومية بروح الإنصاف والنزاهة، بقيام جامعة غرناطة بالاحتفال بالذكرى الألفية للخلافة الأندلسية وعصرها الباهر، وهي خطوة كان لها أعظم وقع في إسبانيا وفي العالم الإسلامي.
وهكذا يتبوأ تاريخ الأندلس وتراث الإسلام في إسبانيا مكانته الحقة في التاريخ القومي، وفي الآداب التاريخية الغربية، بعد عصور طويلة من التعصب والتحامل والنسيان.
محمد عبد الله عنان