مجلة الرسالة/العدد 156/ذات الثوب الأرجواني
مجلة الرسالة/العدد 156/ذات الثوب الأرجواني
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(تنبيه - كل ما هو مكتوب هنا متخيل. وأنا يوافقني ويلائم مزاجي أن أجعل الكتابة على لساني)
- 3 -
سألني صاحبي وهو يجلس: (إلى أين إن شاء الله؟) قلت: (يا صاحبي العجلة من الشيطان. اجلس أولاً، وتناول - ثانياً - شيئاً، ثم سل ما بدا لك بعد ذلك. على أني أستطيع أن أريح فؤادك القلق، فأقول لك أنا ذاهبون إلى القناطر الخيرية؛ فهل ارتاح قلبك يا مولاي؟)
فصاح بي وهو يخرج السيجارة: (القناطر؟. . . ماذا أخطرها ببالك؟. . . وماذا تصنع هناك في هذا الحر؟. . . شيء غريب!)
قلت: (يا أخي إنك تفاجأ بالخبر فتستغربه، أما أنا فقد أطلت التفكير في الأمر، وعرضت لي آراء شتى نفيتها واحدا بعد واحد، حتى استقر رأيي أخيرا على القناطر)
قال: (ولكن الجو حار الآن. . . الساعة العاشرة، وسنشتوي هناك؛ وأين يمكن أن نجد طعاماً أو شراباً؟) قلت: (لعلك تظن أن القناطر صحراء سيناء. . . ومع ذلك لا تخف أن تجوع، فقد أعددت لمعدتك كل ما تحتاج إليه من طعام و. . .)
قال: (ولكني رأيت السيارة ونظرت فيها فلم أجد شيئاً، وأخشى أن تكون - كعادتك - معتمداً على أنها مدينة عظيمة مقصودة من الناس، ثم نذهب فلا نجد شيئاً)
قلت: (بل ستجد كل شئ. والآن دعنا من حديث المعدة واسمع: إذا رأيت مني ما تنكر، أعني ما يخالف المألوف من عاداتي فرجائي إليك أن تذكر قول الشاعر:
إن من ساءه الزمان بشيء ... لحقيق إذن بأن يتسلى
(فهل أنت لبيب تكفيه الإشارة أم لا بد أن. . .؟)
وفي هذه اللحظة أقبلت الفتاة - أم تراني لم أخبر القارئ أن فتاة كانت ستقبل؟؟ على كل حال. . . المهم أنه - أعني القارئ - قد عرف أن فتاة قد أقبلت، ولا شك أنه استنتج من قولي هذا أنها وسيمة - ولا أبالغ فأقول جميلة - وأن الموعد كان مرتباً من قبل. ونظر صديقي إليها ثم إليّ وهز رأسه ووقف استعداداً لاستقبالها وتحيتها. وكان وجهه كالطماطم - أعني أحمر جداً - وليس هذا لونه في العادة، وإن كان صحيح الجسم، معافى البدن، حسن اللون والشارة؛ ولكنه شديد الحياء. فقلت للفتاة: (زوزو. . . هذا صديقي الذي حدثتك عنه؛ وفي وسعك أن تعديه صديقاً لك أيضاً. . هل جاءت ليلى؟؟)
قالت وهي تناوله يدها: (نعم. . . وهي تنتظر في الخارج) قلت: (ولماذا لم تدخل؟. . هل أذهب وأدعوها؟) قالت: (كلا. أن معها الأشياء. . . . والأفضل أن نذهب الآن)
ومضينا إلى القناطر على مهل، وكانت السيارة جديدة، ولا بد أن أقتصد في السرعة حتى تلين وتكتسب آلاتها المرونة الأزمة وإلا فسدت وخربت بسرعة وقصر عمرها. وكانت زوزو وليلى تنظران إلى السيارات الأخرى التي تخطف إلى جانبنا وتتركنا وراءها فتتحسران. وكانت زوزو لا تفتأ تقول لي: (ألا يمكن أن ندرك هذه السيارة؟) وتشير إلى واحدة من السيارات الكثيرة التي كانت تمرق كالسهم، فأقول: (بالطبع نستطيع، ولكن الثمن باهظ. ثم إن العجلة من الشيطان؛ وقد كنت قبل مجيئك ألقي درساً إلى هذا الصديق في وجوب التريث وتحاشي العجلة. والظاهر أنك لست خيراً منه ولا أقل حاجة إلى مثل هذه الدروس التي أعطيها للناس مجاناً)
فتصيح بي: (دروس إيه وعجلة إيه؟؟. كلام فارغ!! كيف تترك هذه السيارات تسبقنا، مع أن سيارتك جديدة وجميلة؟) فأقول: (أشكرك - بالنيابة عن السيارة. ولو كان لها لسان لأسمعتك المطرب المعجب من آيات شكرها وتقديرها لهذا الثناء الجميل، ولكنها كما تعلمين خرساء بكماء لا تحسن إلا أن تجري)
فتقاطعني معترضة: (تجري؟؟ تقول تجري؟؟ إنها تزحف!! ألا ترى كيف سبقنا كل الناس؟. . هل تريد أن نصل إلى القناطر غداً؟)
فأتوكل على الله وأجازف بمستقبل السيارة وأعذر في سري الشبان الذين يكونون مع الفتيات فينطلقون كالقنابل فتتحطم سياراتهم، وقد يلقون هم حتوفهم؛ فأن وجود فتاة مع السائق يغريه بإهمال ما يشير به العقل والحكمة. وقد أركبت فتيات كثيرات فلم أر منهن واحدة ترتاح إلى البطء، وأحسب السبب أن السرعة مظهر من مظاهر القوة وأن السبق غلبة، والمرأة تعجب بالرجل القوي السابق، ولا تعجب بالرجل الضعيف الواني، وهي لا تدخل في حسابها أن هذه سيارة وأن المعول عليها لا على الرجل، وأن الذنب يكون ذنبها إذا قصرت وكانت بطيئة أو ضعيفة. وإنما كل ما تفكر فيه وتعنى به أن معها رجلاً، وأن رجلها هذا ينبغي أن يكون الأقوى والأبرز والأسرع والأبرع، إلى آخر ذلك. وهو عندها مسئول عن السيارة التي لم يصنعها. ولعل منطقها أنه اشترى سيارة، فلماذا لم يشتر سيارة قوية سريعة؟؟ وقد يكون قليل المال ولكن هذا لا ينهض عذراً له، إذ لماذا يكون قليل المال؟؟ وقد تكون السرعة بغيضة إليه، ولكن الأمر يرجع إلى تقديرها هي لا إلى تقديره، ولا إلى ما يؤثر وما يكره. وإذا كان لا بد أن يتوخى ما يشير به مزاجه، فلماذا يستصحب امرأة؟؟
من أجل هذا اضطررت أن أسرع على خلاف ما يقضي به الواجب والحزم وإلا ساء رأي صاحبتي فيّ، ومن الذي يسره أن يسوء رأي المرأة فيه؟؟ ولا سيما امرأة تكون معه ويكون همه في هذه اللحظة على الأقل أن يرضيها. . وأدركنا بضع سيارات سبقناها ففرحت واشرق وجهها وانبسطت أسارير محياها وكثر ضحكها - بل ضحكهما - بعد التقطيب والوجوم والاعتراض وصارت كلما مرقنا بجانب سيارة تصفق وتصيح (هيه!!) على سبيل الإعجاب بالسيارة التي هي فيها - أي الإعجاب بنفسها، فان إعجاب المرأة بشيء يكون لها مظهر لإعجابها بنفسها هي - والشماتة بالمسبوق والتعيير له والتحدي أيضاً؛ والمرأة إذا أعجبت برجل جعلت وكدها أن تتحدى الرجال به على صور شتى بعضها أخفي من بعض. وما أكثر ما يكون استمرار إعجابها به رهناً باستمرار فوزه على الأقران وغلبته لهم فيما تورطه فيه.
وبلغنا القناطر بعد نصف ساعة؛ وكانت هذه أول مرة تراها فيها فأقبلت علي تسألني عن كل ما تأخذه العين هناك وجعلت أنا أحيلها على صديقي لا تفزع للسير ومآزقه في هذا الزحام الشديد حتى صرنا عند أول البساتين، وكانت الإحالة على صديقي تغضبها لتوهمها أن ذلك مبعثه الملل أو الأعراض، ولا ملل ولا إعراض منى وإنما هي مشاغل الطريق؛ غير أن المرأة قل أن تقدر ذلك لأن خواطرها كلها دائرة حول نفسها وشخصها، وهي تفسر كل شيء بأنه صادر عن حب أو كره، وعن رغبة أو زهد، وعن إقبال أو انصراف وإعراض، وعن ارتياح أو ملل وسآمة.
وقال لي صاحبي ونحن ندخل البساتين والفتاتان أمامنا: (والآن قل لي ماذا ساءك من زمانك ويوشك أن يخرج بك عن طورك؟)
قلت: (يا أخي إني شاكر لك - وأنت تعلم صدقي - هذه العناية بالاطمئنان على، ولكنى لو أفضيت إليك بهذا السر لما بقيت له لذة تخفف آلمه. انتظر حتى يفتر كل شيء - الألم واللذة جميعاً - فلا يعدو الكلام حينئذ أن يكون حديثاً عن شيء مضى ولا يكاد يعنيني)
فهز رأسه ومضى عنى إلى الفتاتين.
وظللت طوال النهار أضحك وألعب وأثب وأجري وآكل وأشرب وأرسلت نفسي على سجيتها - وإن كان ينقضي أن أعرف أن الخفة من سجاياي - وخلعت ثوب الاحتشام ورحت أكلم من لا أعرف وادعوا إلى طعامنا كل من يمر بنا - رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً - وأبدأ بالحديث من لم أر وجهه إلا في ذلك اليوم، وأخطف الكرة ممن يتقاذفونها، وأجر رجلَ هذا، وأشد أذنَ ذاك، وأفعل ما يفعل الأطفال عادة إذا شجعتهم فأنسوا منك الارتياح إلى عبثهم، حتى ضج صاحبي وضاق صدره ولم يعد يطيق هذا الخلق العظيم الذي حف بنا واندمج فينا وشاركني وشاركته في اللعب والضحك والجري. فركبنا زورقاً صغيراً؛ لكن هذا لم ينجه ولم يمنع أن أمضى فيما وطنت النفس عليه في ذلك اليوم، فقد كان هناك زوارق أخرى فصرت أدنو بالقارب منها حتى أحاذيها، ثم أروح أعابث من فيها، فنفذ صبر صديقي وأمر النوتي أن ينأى بنا عن الخلق جميعاً فاستلقيت على ظهري وأغمضت عيني تظاهرت بالنوم.
ولكنى لم أنم، وإنما كنت أحدث نفسي وأسألها عن جدوى هذا الذي صنعت؟ أتراه أنساني شيئاً أو أذهلني عما بي؟؟ ولم يسعني إلا أن أعترف بأن كل ما صنعت كان عبثاً. فقد كانت ذات الثوب الأرجواني ماثلة أبداً أمام ناظري لا تبرحه ولا تفتر صورتها التي تلازمني، وكنت أراها في كل من أرى ما تأخذه العين، فأنا حين أنظر إلى واحدة من هاتين الفتاتين لا أراها وإنما أرى ذات الثوب الأرجواني، ويفتنني منظر فأقول لمن معي: (انظروا. . . ما أبدع هذا) ويكون الذي يفتنني منه ذات الثوب الأرجواني التي تبدو لي في إطار من هذا المنظر. ولما ركبنا الزورق كان يخيل إلى أنها سابحة في الماء كعرائس البحر، وما سمعت ضحكة ناعمة إلا قلت لنفسي لعل ضحكتها أرق وأسحر.
وأعجب من هذا أنى كنت أجدني وأنا أضاحك الناس وأحدثهم وألاعبهم وأسابقهم أفكر فيها وأسأل نفسي عنها - وكان حسبي ما أنا فيه مما يستغرق جهد النفس - وأقول - في سري وبيني وبين نفسي - هل أنت تحبها؟؟ أواثقٌ أنت أن هذا هو الحب. . فتجيبني النفس أن نعم لاشك في ذلك، فأكر عليها معترضاً على هذا التأكيد وأقول: ولكنك لا تعرفها. . لا تعرف حتى اسمها. . وما رأيتها إلا عن بعد فماذا تحب منها. . لا تستطيع أن تدعي أنك واجد فيها غير صورة جسمية هي التي تتراءى لك من هذا البعد. ولعلها لو دنت قليلاً لطالعك منها ما لا ترتاح إليه، فالأرجح أنك تحب منها صورة ألفتها أنت من الألوان التي استعرتها منها. ولا شك أنك زدت هذه الألوان قوة وأضفت إليها من خيالك. ولو أنك كنت مصورا وحاولت أن ترسم لها صورة من ذاكرتك لما استطعت أن تثبت شيئاً من ملامحها، ولجاء الرسم لمخلوق من مخلوقات خيالك أنت، وإن كان لا يخلو من شبه بذات الثوب الأرجواني. فحتى الصورة المادية - أو الجسمية - التي تبدو لك ليست ثابتة ولا مقررة في نفسك، لأن الصور لا تثبت خطوطها وألوانها على مثل هذا البعد. ومن السهل أن تُعَفي علها وتمحوها صور أخرى تكون أثبت لأنها تكون أقرب فأقدر على التأثير وأنفذ بسبب القرب إلى أعماق النفس والاستقرار فيها. ولو أن صورة ذات الثوب الأرجواني كانت عميقة الأثر في نفسك ومنقوشة بألوانها وخطوطها المميزة لها على صدرك، أكنت تظن أن في وسعك أن تتسلى كما تتسلى الآن بهذه الفتاة أو تلك ممن تعرف؟؟ أكان يمكن أن ترتاح إلى وجود غيرها وإن كنت تزعم أنك تتسلى؟؟ لا يا صاحبي!. . وحسبك أن تسأل نفسك بأي شيء تذكرها. . ماذا في نفسك منها غير صورتها في النافذة كما تستطيع أن تراها على بعد ثلاثين مترا!؟ لو كنت كلمتها رأيت ابتسامتها ونظرة عينيها ومنطق وجهها وتعبير محياها، وكنت تكون إذ ترق وتحنو، وحين يسرها شئ، وعندما تبدو عليها اللهفة أو الجزع أو الاضطراب، والزهد في شيء والرغبة في آخر، وحينما تتدلل أو تسخو، وإذ تضحك أو تتجهم!! لو كنت رأيت شيئًا من ذلك لامكن أن تقول انك عرفتها وأحببتها، ولكان لحبك لها غذاءٌ ومددٌ من ذكريات هذه الحالات المختلفة. . أما الآن فبماذا يتغذى حبك؟؟ على أي شيء يعيش؟؟ بأي شيء تذكرها إذا غابت عنك. . . بصورة هي أشد غموضاً من الرسم الفوتوغرافي وأخفى منه تعبيرا؟؟ وهي مثلك. . . أتزعم أنها توليك عناية واهتماما، وأنها تفكر فيك، وأنها لا تفتأ تنظر إليك؟ فما يدريك أن هذا ليس من باب التطلع ومن قبيل الاستغراب أو إطاعة لرغبة نشأت في الوقوف على حالات غريبة تبدو من شخص يستحق عناية على كل حال لسبب من الأسباب التي تدعو إلى العناية؟؟ هه؟؟ وهبها - جدلا - أحبتك كما تظن أنك تحبها فان شأنها كشأنك!. . ولعلكما لو تلاقيتما لكره كل منكما صاحبه، أو نفر منه، على الأقل، أو إذا شئت، لفتر ما يجد من الحب، إذ كان لا أساس له إلا الصور الغامضة التي ينقصها البيان والتأثير الذاتي المباشر. . ويظهر أنها مثلك واسعة الخيال. . وشبابها هو عذرها إذا جمح خيالها. . فإنها غريرة ساذجة لا تعرف الدنيا. وأكبر الظن أنها لم تجرب الحب فهي لهذا شديدة الحنين إليه. ولكن أنت؟. أنت؟. أنت المجرب الذي عرف المرأة ودرس وخبر كل ما يسع الرجل أن يخبر. . كيف يمكن أن تخدع نفسك وتغلط على هذا النحو في فهم شعورك؟ إن هذا منك مضحك!
وقد اعترضت على نفسي وأبيت أن أسايرها إلى حيث تريد فأني أعرفها خبيثة شديدة المغالطة، وقلت لها: (كيف تزعمين يا نفسي أن لا شيء عندي من الذكريات أغذي بها حبها؟ ألم تسمعني صوتها في ضحكة فضية؟ (واها لهذا الرنين) أليست تبدو - أكثر الوقت - في الثوب الأرجواني الذي تعرف أني أحبه؟ أتسألين يا نفس كيف عرفتْ أنى أحب هذا الثوب؟. قبحك الله!. وما شأنك أنت؟. أعرف أنها تعرف والسلام! وأنا على يقين من أنها تعرف. وبيني وبينها لغة لا تحتاج إلى الكلام ولا إلى النظر. . . لغة أفهمها وتفهمها وإن كان كلانا معرضاً عن صاحبه، لأنها ذكية - مثلي ولا فخر - فهي تدرك أنى حين أكف عن النظر إليها، يلتفت قلبي إليها، وإن كانت عيني قد تحولت عنها لسبب غير إرادة النفس وهوى الفؤاد. . ولا يخفى عليها أني حين أنظر إلى ترام عابر أو سيارة تخطف في الطريق أو زمرة مارة، فأني إنما افعل ذلك لأني أخاف عليها من الناس أن يلهجوا بنا. وليبقى حبي وحبها كنزاً لا يعرف سرَّه غيرُنا. . ولا يشاركنا فيه - بالعلم - ثالثٌ. ولست أكلمها - هذا صحيح - ولا أنا أشير إليها، لأني أعرف أنها تعرف أن الإشارة تحصيل حاصل. وما ثلاثون مترا ًبيننا؟؟ إن قلبها كتاب مفتوح؛ وهل تستطيع الزهرة الأرجة أن تكتم الشذى؟؟. نعم إنها حريصة كيسة، ولكنى مع ذلك أعرف حين أراها مقطبة عابسة أن قلبها يضحك وإن كانت نظرتها صارمة الجد. . ولقد بدت منها إشارات تعمدت ألا أفهمها - لا لأني لم أفهم بل لأني خفت أن تكون قد صدرت عنها عفواً وعلى غير عمد، فأكون قد تسرعت وأسأت التأويل. ولا أقول ما هذه الإشارات فأني حريص على الاستئثار بها والانفراد دون خلق الله بمعرفتها. وما أكثر ما أذكر من حالاتها حين تكون وحدها وحين يكون معها غيرها. . وهل أنسى أنها حين تغضب عليّ لبلادتي وبطئ فهمي تذهب فتلبس ثوباً غير الأرجوانى؟؟ هل أنسى كيف تلف على شعرها شريطاً وتترك خصلة الوطفاء مرسلة على جانبي محياها الصابح يبعث بها النسيم فتهز رأسها لتردها وتصلح منها وتسويها؟؟. هل أنسى كيف تجلس وفي يدها الكتاب - على ركبتها - وظهرها إلي وهي مع ذلك تراني وتعرف أنى أنظر إليها ومعجب بها ومتلهف على نظرة منها؟؟ هل أنسى كيف تكايدني وتهيجني وتثير نفسي لتمتحن حبي وترى ماذا يكون من اثر ذلك في نفسي؟؟ وما أعذب مكايدتها وأحلاها!!. وما أجهلها بي إذا كانت تظن أن شيئاً من ذلك يثيرني ويغضبني! فان في وسعي - دائماً - أن أضع نفسي في مكان الغير، وأن أتصور ما يُعْقَلُ أن يصدر عنه وأن اقدر البواعث على ما يبدر منه فاعذره في الأغلب. . والحق أقول إني أراها مقصرة في مكايدتي لا مسرفة. ولا أنكر أنه يعز علي أن تغيب عن عيني، ولكني أنا مضطر أن أغيب عنها وأنقطع عن النظر إليها، وعزائي أنى لا أنعم بأكثر من مرآها وأنها لم تهبني أكثر من منظرها من بعيد، وأنها لم تولني ما أتحسر على فقده إذا فقدته؛ وما دام هذا هكذا فأني أستطيع أن أراها بعين الخيال كما أراها بعيني التي في رأسي. ولو أني كنت مكانها لعرفت كيف أكايدها، فلتحمد الله الذي خلقني رجلاً ولم يخلقني امرأة.
ولو شئت لعذبتها ولكنى أثر الترفق - بطبعي - وإن كنت لخبرتي بالطبيعة البشرية من أعرق الناس بوسائل التعذيب. وأنا أسأل نفسي دائماً (لماذا أعذبها وأنا أحبها؟، وبماذا تستحق التعذيب وهي لو وسعها أن ترضيني لأرضتني؟ لاشك فلي ذلك، وصحيح أنه يسعها أكثر مما تبدي ولكني لا أحب أن أعجل باللوم. . ومن يدري؟. لقد علمتني حياتي أن اليأس سخافة، وأن العجلة من الشيطان، كما أقول لصديقي، وأن طول البال ينيل الأمل، كما يقول المثل العامي، وأن الغضب حماقة، وأن العتاب عبث، وهو في النهاية يفتر الحب، وأنا أحب هذه الأرجوانية الثوب وأحب أن يطول حبها لي، لأني أعرف من نفسي أن حبي لا يفتر وإن كان في وسعي - بفضل رياضتي لنفسي - أن أستر ناره بالرماد. كلا لن أكايدها وسأصبر عليها وأُملي لها وأمهلها لأرى ما يكون منها ولأختبر مبلغ حبها فأني على الرغم من الحب أوثر أن أقدّر لرجلي قبل الخطو موضعها. فإذا رأيت منها ما يطمئن خرجت عن هذا التحفظ الثقيل عليها وعليَّ أيضاً وإلا فأني قادر على خنق هذا الحب ولو كلفني تقليع أحشائي من جذورها.
في هذا كنت أفكر، وبهذا كنت أناجى نفسي، وأنا ألاعب هذه الفتاة وتلك وأضاحكهما وأسابقهما وأُسخط صديقي على بترك الاحتشام الذي ألفه منى حتى صار يستغرب منى الابتسام، وليس أعجب من اشتغال النفس بأمرين في وقت واحد. ولكنى لا أكتب مقالاً في علم النفس وإنما أسوق حكاية وأصف حالة فيحسن أن أقتصر على ذلك.
وقد عدت من القناطر بغير ما كنت أرجو أن أفوز به. نعم لهوتُ وضحكت وبدوت لمن لا يعرفني كأسعد ما يكون إنسان. ومن ذا الذي يمكن أن يسمع ضحكتي ويرى وثبي وقفزي ويرتاب في أنى سعيد موفق؟؟ ولكن صديقي كان يعلم أن في صدري شيئاً أكتمه، وأن ما انطوى عليه ليس مما يهون حمله، وإلا لما التمست التلهي ونشدت التعزي، غير أنه كان على هذا يجهل - ومن أين يعرف؟ - أن في جوفي ناراً مضطرمة من القلق والشك والحيرة والاضطراب وقد خرجت من الحوار الذي دار بيني وبين نفسي بالشك وباعتقاد أنى جاهل ما في ضمير الفؤاد - أو على الأقل أن الأمر فيه نظر كبير فالحق أن معرفة النفس أشق المعارف وأعسرها مطلباً. .
إبراهيم عبد القادر المازني