انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 156/حماية الطالحين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 156/حماية الطالحين

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 06 - 1936



بحث علمي اجتماعي

للأستاذ إسماعيل مظهر

في أواسط القرن التاسع عشر أصابت العلم هزة من تلك الهزات العنيفة التي تغير مجرى الفكر، وتقلب آيات العلم بعد أن يخيل إلى الناس أن المعرفة قد قامت على قواعدها الرسيسة، رأساً على عقب. ففي سنة 1859 نشر العلامة شارلز روبرت دروين كتابه (أصل الأنواع) فأقام الحجة البالغة على أن الأنواع تنشأ في الطبيعة بعضها منظور عن بعض على مر عصور متطاولة، وأن نشوء الحياة من فوق الأرض موغل في القدم.

ولقد أقام دروين نظريته على ثلاث قواعد أولية، هي التناحر على البقاء، والانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح. أما التناحر على البقاء فاصطلاح مجازى يؤدى في أوسع مدلولاته معنيين: فأما أنه يدل على العلاقة القائمة بين الأنواع الحية العائشة في بيئة ما، إذا ما اتجهت الأسباب العاملة على بقاء نوع إلى إبادة آخر أو إفنائه، وإما أنه يدل على الجهد الذي يبذله الأحياء في سبيل الحصول على مقومات الحياة، كمقاومة العوامل والمؤثرات المفنية للأفراد أو المبيدة للأنواع. أما الانتخاب الطبيعي فمحصله أنه يبقى من أفراد الأنواع أو السلالات أقدرها على الحياة في بيئة ما وأن تفنى غير القادرة منها على البقاء. ولما كانت القدرة على البقاء وتخليف المِثْل، إنما ترجع إلى صفات حيوية تتأصل في الأحياء، ونشأ بالانتخاب الطبيعي تدريجياً على مر الأزمان سلالات وأنواع جديدة ممتازة بصفات معينة ثابتة. وقصد باصطلاح بقاء الأصلح أن الأحياء تتكاثر بنسبة رياضية. أي بنسبة 16: 8: 4: 2 وهكذا؛ فإذا لم يهلك معظم نتاجها بعوارض طبيعية ضاقت الأرض عن أن تسع الأحياء. ولذا لا يبقى من الأحياء إلا أصلحها أو أقدرها على البقاء ومقاومة العوارض. وما (بقاء الأصلح) في الواقع إلا اصطلاح يراد به إيضاح عمل الانتخاب الطبيعي المقتضى أن الأحياء التي هي أكثر صلاحية للبقاء في بيئة طبيعية تظل حية لتنتج أمثالها، في حين يفنى غير الصالح منها على هذه القواعد الثلاث شرع دروين مذهبه الذي اتجاه العلم الطبيعي برمته في أواسط القرن الماضي. أما الذين اكبوا على دراسة الاجتماعيات فقد تساءلوا: إذا كانت سنة الطبيعية الثابتة تقضى، لخير النوع وبقائه واحتفاظه بمستوى خاص من الحيوية والقدرة على مجالدة الأعاصير والأعداء، بأن يفنى الطالح من نتاجه وألا يبقى إلا الصالح، فان المدنية الحديثة بما تحوط به الطالحين من أسباب الحماية من الهلاك والفناء، إنما تقاوم سنة الطبيعة الثابتة، تلك السنة التي تقضى بأحد أمرين: فأما هلاك يصيب الطالحين ليفوز الصالحون بتخليف النسل فيحتفظ النوع بحيويته وبمثله العليا من حيث القوة والجهد، وإما فساد يصيب طبيعة النوع بلا بقاء على الطالحين الذين يورثونه كل الصفات التي يدركها الاحيائيون بين الأطلح والأصلح.

ولنضرب لذلك مثلاً نقتطعه من حالاتنا الاجتماعية. فلقد استطاع الفلاح المصري أن يقاوم ثلاثة أشياء، تسلط واحد منها على شعب غلت يد الطبيعة عن تزويده بمزايا الانتخاب الطبيعي، كافية للقضاء عليه: فساد الحكومات، والأمراض والحروب، فلقد توالت على هذا الفلاح دورات من استبداد الحكومات منذ عهد الفراعنة إلى الآن، لا يروى تاريخ أية أمة من الأمم لها شبيهاً. وازدياد عدد السكان في مصر إلى عشرين مليوناً في عصر من العصور إلى ثلاثة ملايين في عصر محمد علي، دليل قاطع على عظم ما عانى هذا الشعب من عوامل الإفناء وبرهان على ما فيه من حيوية استمدها من البيئة الطبيعية ومن حالاته المعاشية التي ظلت متروكة لحكم الطبيعة فيه الآلاف من السنين. وليس لي هنا أن أتكلم في الأمراض التي سكنت جسم هذا الفلاح منذ أقدم العصور وأخصها (البلهارسيا) وقد استدل على وجودها بالموميات المحنطة من أقدم العصور: أما الحروب فيكفي أن تعرف أن الجيش المصري حارب في خمس وأربعين وقعة تحت لواء قائدنا العظيم إبراهيم وحده في فترة لا تزيد على ثلاثين عاماً. فما بالك بالعصور التي هدمت فيها الإمبراطورية المصرية ثم بنيت على أكتاف هذا الفلاح منذ ستة آلاف خَلون من الأعوام؟

هذه الظاهرة تحملنا على أن نتساءل ما هو السر الذي جعل هذا الفلاح على ما في أسباب حياته من عوامل الإفناء يصمد لعوادي الدهر والطبيعة فلا ينقرض ولا يبيد، بل تراه اليوم وقد خرج من معارك التناحر على البقاء منصوراً، وعلى ضفاف نيله المقدس سبعة عشر مليوناً يفلحون أرض مصر ويتطلعون إلى أسمى المثل التي أوجدها التصور الديمقراطي الحديث؟

قد يتفق أن يقول بعض الذين لا يقوون على وصل أسلوب التفكير العلمي بأسلوب التفكير الاستقرائي إن ذلك راجع إلى صفات خص بها الشعب المصري دون غيره من شعوب الأرض التي عاصرته. وقد يكون في هذا الكلام بعض الحق، فان للصفات الخلقية التي تتصف بها بعض الشعوب أثر في ذلك. ولكن إذا نظرنا في الآمر من الواجهة الطبيعية الصرف ألفينا أن السبب راجع إلى أن هذا الشعب قد ترك للطبيعة معرضاً لعواملها خاضعاً لقوانينها الحديدية منذ أبعد العصور. وظلت الطبيعة تتولى إنساله بالانتخاب الطبيعي فتفنى غير القادر منها على البقاء، وتبقى في حلبتها الصالحين للبقاء، فاستطاعت بذلك أن تحفظ على هذا الشعب قدراً من الحيوية ظل ثابتاً على مدار العصور. وقد نرى هذا الفلاح اليوم بسحنته السفعاء وجسمه النحاسي، فما تقرأ فيه من آية إِلاّ آية الطبيعة خطت على ملامحه الهادئة؛ أمّا وداعة أخلاقه وصبره واحتماله وحدة نظراته وذكائه الموروث، فتحملك لأول وهلة إذا ما نظرتَ إليه أن تقول: هو ذا ابن من أبناء الطبيعة لم يَدْخلْ في فطرته بعد شيء من تزوير المدينة.

ولاشك عندي في أن تزوير المدينة لابد من أن يدرك فلاحنا بعد عهد قصير. فقد علت الصيحة في هذا العصر بوجوب النظر في ترقية الفلاح اجتماعيا. أما إذا كان الذين يصيحون هذه الصيحة لا يقصدون بها إلاّ أن يخرج الفلاح من تلك البيئة التي نشأ فيها إلى بيئة مزورة ندعوها المدينة، بأن نغل يد الطبيعة عن أن تدرك منه أغراضها الانتخابية، وأن تعمل على حماية أولئك الذين كتبت عليهم الطبيعة آية الفناء بأسباب اصطناعية، فان ذلك سوف يكون أول عهد الفلاح بفقدانه الحيوية التي استمدها من الطبيعة على مدار العصور وعلى تتالي الأحقاب. ولم أدرس بعد كيف نستطيع أن نحمي فلاحنا من مفاسد المدينة التي تقضى بأبعاده عن حكم الطبيعة فيه، وإنما أقول إن كل إصلاح اجتماعي لا يعوض على الفلاح ما سوف يسلب من فعل الطبيعة، إصلاح هو إلى الفساد أقرب شيء.

ولقد بحث هذا المشكل الاجتماعي فحول من معاصري الاجتماعيين، وزكىَّ بحوثهم فئة من كبار الأخصائيين في أوروبا وأمريكا، ولقد بان لهم بأجلى دليل أن الحماية المصطنعة التي حَدّ بها العلم من فعل الطبيعة في الطالحين، أي غير القادرين على البقاء في البيئة الطبيعة، لولا تلك الحماية، سبب من اكبر الأسباب التي ولدت ما يظهر على أكثر شعوب الأرض من مظاهر الهرم والضعف الحيوي، حتى لقد لجأت ألمانيا وغيرها من ولايات أمريكا المتحدة والجزر البريطانية التي تعقر طبقات خاصة من المجرمين والمعتوهين والفاسدين توصلا إلى طريقة عملية يعوضون بها على الأحياء شيئاً مما فقدت بالحماية المصطنعة من فعل الطبيعة والخضوع لسنتها الثابتة.

من هذه البحوث بحث ألقاه لورد (دوصن في الجمعية الطبية بمدينة يورك نشر بعنوان (الطب والتقدم الاجتماعي) تساءل فيه عما إذا كانت النزعة التي تنزع بنا إلى حماية كل الأطفال الذين يولدون من قضاء الطبيعة فيهم، مهما كانوا طالحين غير قادرين على البقاء بغير حماية فعلية، أمراً مناقضاً لما تنشد من ارتقاء السلالات البشرية وخيرها في مستقبل العصور. ففي خلال ستين عاماً انخفضت نسبة الوفيات بين الأطفال من 156 في الألف إلى 60 في الألف، ونزلت في الأطفال الذين هم فوق الخامسة من 68 إلى 18، وزاد عدد السكان في خلال هذه (الفترة 1870 - 1934) خمسين في المائة عما كان قبلا.

على أننا نستطيع أن ندرس الظواهر التي تنشأ عن مثل هذه الحالات، إذا رجعنا إلى أنوع أخرى تعيشنا في الطبيعة. فقد نرى أن الأنواع الأخرى، غير النوع البشرى، وغير الأنواع الداجنة التي يكثرها الإنسان لأغراض له فيها، تحتفظ بنسبة ثابتة في الأعقاب، أي في تخليف النسل، وأنه كلما أخذت نسبتها في الزيادة العددية سلطت عليها الطبيعة عوامل تردها إلى النسبة التي لا تسمح بأكثر منها، فقد لحظ أن ازدياد عدد نوع من الأنواع يصحبه دائما ظهور أمرين: إما زيادة في عدد الأنواع المفترسة، وإما ازدياد في الأمراض. وفي هذه الحالة لا يبقى من أفراد الأنواع إلا أقدرها على البقاء وأصلحها لأعقاب نسل يرث ما فيها من صفات تمكن النوع من الاحتفاظ بذاته، فإذا صدت الطبيعة عن أن تقضي في نوع بحكمها هذا، ترتب على هذا انحطاط يظهر في أعقاب هذا النوع.

والمثل على هذا عديدة، نقتصر على ذكر مثالين منها، فقد حدث أن حاول أهل سويسرا أن يحموا نسل حيوان يكثر في جبالهم يدعى (الشموا) وهو فصيلة من قيمة تجارية، فأسروا عدداً منه في داخل مكان متسع أحيط بكل أنواع الحماية، وبخاصة من الذئاب التي هي أنكى أعداء هذا الحيوان. فكانت النتيجة المحتومة أن ظهر في هذا النسل المأسور صفات انحطاطية بينه، وكثر فيه عدد الأفراد المهزولة الضعيفة، وبدت عليه كل علامات الانحلال الحيوي، حتى أضطر المربون في النهاية أن يدخلوا إلى مكان الأسر عدداً محدوداً من الذئاب المفترسة، فوجدت هذه الذئاب في الأفراد المنحطة فرائس يسهل اقتناصها؛ وبعد قليل استعادت البقية الباقية كل الصفات المثالية التي يمتاز بها النوع في مرابيه الطبيعية أما في زيلاندا الجديدة فقد تكررت هذه الظاهرة بينها، والمعروف أن هذه الجزر من أمثل بقاع الأرض مناخاً وطبيعة لتربية الأنعام خاصة، وذوات الثدي عامة، ذلك بأنها خالية من الحيوانات المفترسة خلواً تاماً. فلما استوطنها الايقوسيون حسن لديهم أن يدخلوا إليها عدداً من الغزال الأحمر الذي يعيش في جبالهم العليا، فكانت لهذا الحيوان أمثل مباءة، فتكاثر واكتنز لحماً، ولكن بان لهم بعد قليل من الزمن أن النوع الذي جلب من أثيوبيا مملوء حيوية، محتفظ بأسمى الصفات التي يتسم بها في مرابيته، قد ظهرت بينه أنواع انحرفت عن صفات النوع المثالية. فكانت أضعف بنية وأقل مقدرة على العدو، وقد شوه منظرها الخارجي بصفات لم يكن لها من وجود في أسلافها، أما الدواء فكان إدخال عدد من الذئاب المفترسة القوية إلى الجزر، كانت عدة الطبيعة في القضاء على الطالحين من نسل هذا الحيوان، فاستردت البقية الصالحة، بعد فناء غيرها، كل الصفات الحيوية التي يتصف بها هذا النوع في مرابيه.

أمام هذه الحقائق أخذ المصلحون يفكرون في تلك الوسائل التي يحاول بها دعاة المدنية والإنسانية أن يصلوا امن طريقها إلى حماية كل الأطفال الذين يولدون، أليس في الإفراط في اللجوء إلى هذه الوسائل معاندة للطبيعة بأن نكثر من نسل أناس يتصفون بالضعف الأدبي والعقلي والطبيعي؛ مثلنا في ذلك مثل أولئك الذين أرادوا أن يغالبوا الطبيعة في تربية الشموا والغزال الأحمر؟

وحجة الذين يميلون إلى الأخذ بالميول الإنسانية في مثل هذه البحوث العلمية، أن نسبة الزيادة في عدد السكان آخذة في التناقص شيئاً بعد شئ، وقد تقف عند حد خاص بعد زمن وجيز؛ فلا سبب للانزعاج والتشاؤم؛ غير أن هؤلاء تغيب عنهم حقيقة رئيسية، هي أن نسبة زيادة عدد السكان إن كانت قد أخذت في النقص، فانه نقص معكوس الآية، ففي منتصف القرن التاسع عشر كان التجار وأصحاب الحرف الفنية من ذوى الأسر العديدة الأفراد، في حين أن كبر أسرات رجال الدين كان مضرب المثل، فإذا وعينا أن متوسط عدد أفراد الأسرة في أمة تريد الاحتفاظ بكيانها لا ينبغي أن يقل عن أربعة أنفس، ذاكرين أن هنالك أسراً قد تظل عقيماً، وأخرى تصاب بالثكل، وعلمنا أن عدد الأسرة في طبقتي الأطباء ورجال الدين لا يزيد عن اثنين، علمنا أن اطراد النقص في عدد السكان إنما هو اطراد عكسي. ذلك بأن هذه النسبة تقيد الطبيعية من ناحيتين: الأولى أعقاب النسل بالنسبة للطبيعة؛ والثانية عدم تزويد الطبيعة بمادة للانتخاب، إذ تغربل الناتج لتبقى على الأصلح هذه هي الحالات التي يقع تحت سلطانها إنسان القرن العشرين، فهل من سبيل إلى اتقائها؟ يقول لورد (دوصن) إن اتقاءها مرهون على شرطين: الأول نشر المعلومات التي تتعلق بضبط النسل: والثاني التعقير الاختياري. أما الشرط الأول، وهو شرط قد تحقق منه شطر عظيم بذيوع الوسائل التي تضبط النسل، فان عليه اعتراضاً ذا خطر عظيم، هو أن الذين يجنحون إلى ضبط النسل إنما هم أولئك الذين تعتبرهم زهرة المجتمع الإنساني من أصحاب العقول الراجحة والمزايا الفذة، في حين أن غيرهم من الطبقات الدنيا والطالحين يتناسلون جهد ما تبلغ استطاعتهم. وفي ذلك مشكل هو بذاته أنكى من حماية غير القادرين على البقاء بالطرق الاصطناعية. فان قلة نسل الأولين وازدياد نسل الآخرين مفسدة سوف تسرع ببعض الجماعات إلى درجة من الانحطاط يخشاها المصلحون، أما التعقير الاختياري فلا يعقل أن يكون دواء ناجعاً. ذلك بأن التعقير تشويه طبيعي لا يرضى به إلا أقلية من الناس لا يعتد بهم إذا قيسوا إلى مجموع الأمة.

ولست أرى أن في هذين الأمرين منجى من الأخطار التي تحيق بالجماعات في هذا الزمان، ولا بد للمفكرين الذين يرغبون في خير الإنسانية، ويودون أن يحتفظ النوع الإنساني بصفاته الرئيسية، أن يقعوا على علاجات أخرى تكون ناجعة في التعويض عن فعل الطبيعة في الانتخاب مع فرض الحماية على المواليد أيا كانوا ومن أي طابع خرجوا إلى هذه الدنيا.

إسماعيل مظهر