مجلة الرسالة/العدد 156/القصص
مجلة الرسالة/العدد 156/القصَص
قصة مصرية
الأعمى. . .
بقلم محمود البدوي
تمر ترعة الكامل بقرية (س) وهي قرية صغيرة من قرى الصعيد، فتشطرها شطرين غير متساويين، فقد جارت على الجانب الأيسر بقدر ما أضفت على الأيمن، فاتسع هذا واستفاض حتى أصبحت منازله وبساتينه ونخيله وأعنابه لا يحدها البصر ولا تحصرها العين، واستدق ذاك واستطال حتى قامت منازله الصغيرة على شط الترعة ذليلة منكسرة واجمة، تشكو إلى الله ظلم الطبيعة بعد أن شكت جور الإنسان الذي خلفها سوداء قذرة تمرح فيها الحشرات من كل لون وجنس.
وإذا استقبلت القرية وأنت قادم على جسرها الطويل، بصرت أول ما تبصر بمنزل صغير من هذه المنازل بنى بالطوب الأسود، وخط جواره بستان، ليس فيه سوى نخلتين! مالت إحداهما على الترعة، حتى غرقت فروعها في الماء، وسمقت الأخرى في الجو، حتى ناطحت بسعفها السماء، ولا تدر النخلتان ثمراً الآن، ولا يرجى منهما شيء في المستقبل، فقد جف عودهما وذهب شبابهما. وتقيم في هذا المنزل منذ أكثر من تسعة أعوام أرملة في الخمسين، وهي امرأة دمثة الطبع - على خلاف العجائز من مثيلاتها - ناحلة الجسم معروقة العظم واهية البناء، تستريح في بيتها معظم العام، حتى يهل رمضان، فإذا هل، خرجت في الهزيع الأول من كل ليلة حاملة على ذراعها صفيحة قديمة تطوف بها على منازل القرويين، وهي تنقر نقراً خفيفاً، وتغنى بأغنية قديمة، قل من يدرك معناها ومبناها من سكان القرية! على أنهم كانوا يهبون من مضاجعهم عندما يصافح سمعهم إيقاعها وغناؤها ويبسطون موائد السحور، وان كان الليل لم ينتصف بعد!! وهذا العمل الضئيل لا يجلب لها في الغالب رزق شهرين أو ثلاثة، فكيف تقتات باقي العام؟ وكيف تعيش؟ هذا هو السؤال! على أن الذين انحدروا من الريف، يعرفون تمام المعرفة أن هناك الملايين من أمثالها يضعون دائماً أيديهم على بطونهم ليحفظوا بذلك التوازن الاجتماعي لتخمة الأغنياء.
مثل هذه الأيم السواد الأعظم من الفلاحين الذين لا يعرفون وخير لهم أن لا يعرفوا، أنهم أتعس المخلوقات البشرية في الدنيا جمعاء. إنهم مخلوقات ذليلة تاعسة، لصقوا بالأرض حتى أكلتهم الأرض، وأفنوا عصارة حياتهم فيها حتى استنفذت قوتهم واستفرغت جهدهم. ولو رأيتهم وهم عائدون من الحقول مع مغرب الشمس، والصفرة الباهتة تعلو وجوههم، والغبار القذر يملأ أعينهم ويسد أنوفهم، لعلمت أنهم أتعس الناس في الناس، وأشق الطبقات العاملة على الإطلاق. إنهم مخلوقات مريضة فقدت بهجة الحياة ونعيمها واستسلمت صاغرة للمرض والفناء.
ويسكن مع هذا الأيم أعمى في الثلاثين من عمره، وهو شاب أسمر فارع ضليع الجسم مفتول العضل وثيق التركيب، وهو المؤذن لمسجد القرية منذ أن شب عن الطوق وانخرط في عداد الرجال. على أن الذي جمع بين هذه الأيم العجوز وهذا الأعمى الشاب، لم يكن قرابة ولا نسبا، وأن كان القرويون يسمون العجوز (أم سيد) وسيد هو الأعمى؛ وكانت المرأة تمتعض وتهتاج لهذه التسمية في أول الأمر، وهي التي لا (سيد) لها، ثم ما لبثت أن استراحت لها على مرور الزمن فقر هائجها وسكن، حتى تعمدت ألا تدفع هذا القول بما يكذبه، وهي المتيقنة بأن الجدل في أمثال هذه الأمور غير مجد في الواقع.
فمن الذي يقف في وجه التيار الجارف؟ ومن الذي يمكنه ن يمنع ألسنة الناس الطويلة جداً إلى حلوقها؟ لا أحد على التحقيق.
على أن المنزل لم يكن للعجوز والشاب في الحقيقة، وإنما هو لرجل ملاح يعمل في النيل ويقضي فيه العام كله. ولا يهبط القرية إلا زمن التحاريق، فإذا جاء، بات في سفينته، فقد ألف الرجل النيل، ونسى منزله على توالي السنين.
وكان المسجد الذي يؤذن فيه الأعمى في طرف القرية الشمالي، ولكي يبلغه لا بد له أن يجتاز الترعة وعليها جسر ضيق، يجوزه المبصر وهو راجف حذر، فكيف بالأعمى، ثم يدور بعد ذلك في دروب وينعطف في منعطفات، ويجتز بساتين من النخيل يكثر فيها الحسك والشوك، وعلى الرغم من هذا كله، فان الرجل كان يبلغ المسجد وكأنه المبصر الحديد البصر، فلا يضل ولا يتباطأ في سيره؛ ولا يعتمد على الحائط، ولا يستند إلى الجدار، وشد ما تعجب لذلك وتدهش! على أنك متى ما سمعت القرويين وهم يقولون إن الرجل يبصر بقلبه ذهب عنك العجب كله.
وإذا طلع الفجر على القرية، وهي غارقة في سبات عميق، وكل شيء فيها ساكن هاجع، فلا نأمة ولا حركة، اللهم إلا سامقات النخيل وهي تترنح مع النسيم الواني، وسيقان الزرع وهي تتمايل مع الريح الرخاء، طلع الأعمى إلى سطح المسجد، وانطلق يؤذن في صوت حلو النبرات عذب الرنين، ينفذ إلى كل قلب، ويهفو إلى كل أذن، ومن الذي يسمعه وهو يقول: (حي على الصلاة!) فيتأخر بعد ذلك عن الصلاة؟ لقد كان صوته ليناً شجياً يرن في سكون الليل جميل اللحن عذب الرنين، فيهب له القرويون من مضاجعهم، ويخفون إلى المسجد خاشعين صامتين.
وكان الرجل محبوباً من أهل القرية جميعاً إلا النساء والأطفال. أما النساء فيكرهنه لأنه يزجرهن عن بئر المسجد، ويمنعهن من ملء الجرار منها بقسوة وغلظة، حتى ينقلب صوته الحنون عند محادثتهن إلى صوت أجش خشن مرعب أحياناً! والقرية لا تستغني عن ماء البئر خصوصاً زمن الفيضان عندما يصبح الماء عكراً نصفه طين. وكم تغفلنه مراراً، وهو الأعمى وهن النجل العيون! على أن سمعه المرهف دائماً كان يغيظهن أشد الغيظ!! فإذا أدلت إحداهن الدلو في البئر وحركت (الجبيذ) (البكرة)، وهو خشبي يحتاج للسقي بالزيت ليحبس صوته في جوفه، صر هذا، فيمد الأعمى قامته ويقول بصوت جاف:
(مين؟)
فيتركن الدلو والجرار ويرحن يصلصلن بالحلي، ويطرن على وجوههن هاربات، وقد تقع إحداهن على وجهها، فتخوض فيها الأخرى من فرط الرعب، ويقمن وجلات مذعورات ضاحكات أيضاً، على أن هذا لم ييئسهن من البئر اليأس كله، فهن يعلمن أنه يتروح بعد العشاء، فإذا بصرن به خارجاً من المسجد انطلقن إلى البئر وهن راجفات أيضاً. فشد ما كانت تخيفهن عصاه الغليظة وإن كانت لم تصافح إحداهن حتى الآن.
ومن هنا نشأت العداوة بينه وبينهن واشتدت مع الزمن أما الأطفال فكانوا كلما بصروا به على الجسر، وهو في طريقه إلى منزله، تقوده عصاه، وصدره إلى الأمام، وسمعه مرهف، ورأسه مستو، وقامته منتصبة، وخطواته ثابتة متزنة جروا وراءه يسبونه، وقد يحصبونه بالحصى أو يرمونه بالحجارة، وهو صامت باسم لا يلتفت إليهم ولا يكلم أحدا منهم، حتى يقرب من بيته، وهنا يطلع عليهم كلب للجيران أسود ضخم يربض دائما على الجسر، فينطلق وراءهم حتى يشردهم في الدروب. وشد ما غاظ هذا الكلب الأطفال حتى تسمعهم يهمسون خوفا من أن يسمعهم الكلب (لولا هذا الكلب. . ابن الكلب. . لكان الأعمى. . .) وإن كانوا يقررون بينهم وبين أنفسهم أنه قلما كانت تصيب الرجل حصاة واحدة من كل ما يرمونه من حصى وحجر.
ولم يكن لهذه العداوة سبب ظاهر في الحقيقة، اللهم إلا الطبع الشرير الذي ينزع بالأطفال إلى السوء، ويجلب لهم أذى الضعفاء من الناس.
تأخر الأعمى مرة في المسجد حتى زحف الليل، وتكاثف الظلام واشتد، فسمع وهو راقد في ركن من أركان المسجد صوت الدلو في البئر، فاستوى على قدميه، ومشى على أطراف أصابعه كاتما أنفاسه، وصدره يضطرب، وجسمه كله يهتز، حتى جاز صحن المسجد، وتيامن إلى البئر، وقلبه واجف. وكان قد خفت صوت الدلو، ووضح صوت (الجبيذ) فقال لنفسه، لا بد أن امرأة تجذب الدلو الآن وهي مشتغلة به فلا تسمع خطوات قادم. . . ووقف برهة ثم صاح بصوت خشن: (مين؟)
فاستدارت المرأة وحملقت في الظلام. أواه. . . إنه سيد الأعمى على مدى ذراعين منها، ورمت الدلو وأذهلها الموقف المرعب عن إبداء حركة ما، فوقفت فاغرة فاها، ثم أسعفتها غريزة الهروب بعد ثوان، فولت هاربة، فسمع وقع أقدامها فجرى ورائها، وسمعه إلى خطاها، وجرت حتى جاوزت المسجد، وبودها لو تصيح بأعلى صوتها، ولكن من أين لها القوة على ذلك؟ وكيف يطاوعها الصوت؟ وعثرت قدمها بحجر في الطريق فكبت على وجهها مذعورة، وأنت عند ذلك أنة قوية، فجرى على الصوت وأهوى بيده العمياء ولمس كتفها، وكان قد بلغ منه الجهد فوقف يلهث ويده ممسكة بكتفها، ثم أنزل يده حتى قبض بعنف على رسغها، وقامت المرأة متراجعة، تود لو تفلت منه بكل ما تستطيع من قوة، ولكنه ضغط على يدها بشدة، وتحسس بيده الأخرى وجهها وقال في صوت متزن:
(جميلة. . .؟)
(. . . . . .)
ووقفت المرأة صامتة تهتز وترتجف (لم لا تناديني لأملأ لك الجرة؟)
وقد رق صوته جداً، فدهشت من تطور حاله وصمتت
(لماذا؟)
فشجعها صوته اللين وأجابت
(إنك لا تسمح لأحد بالدنو من البئر. . . فكيف أناديك؟)
(ليس لواحدة أو اثنتين. . . وإنما عندما تجئن بالعشرات فتقطعن الحبل، وتمزقن الدلو، وتهشمن خشب الجبيذ. . . في البلد أكثر من أربع آبار قريبة، فلماذا تجئن إلى هنا دائماً. . .؟)
(لأن هذه أعذبها ماء. . .)
(هذا الماء العذب كثيراً ما ينزح. . .)
(النيل في فيضانه والماء كثير. . .)
(أجل. . . أ. . . أ. . . ولكن. . . أملأت الجرة؟)
(نصفها. .)
(سأكملها لك)
وانقلب إلى البئر، فمشت وراءه مطمئنة، وأدلى الدلو وهو يحس بعض الاضطراب، فأخذ يدير الجبيذ بسرعة ليملأ لها الجرة ويصرفها عنه، ويبعدها عن وحدته وسكونه.
وقال وهو يفرغ الدلو بصوت خافت لين المخارج:
(إذا جئت مرة أخرى. . . ناديني لأملأها لك)
(كتر خيرك)
وساعدها على حمل الجرة، وانطلقت بها إلى بيتها، ووقف ينصت إلى هزيم الريح القوية في الحقل البعيد.
وأخذت جميلة بعد هذه الليلة تتردد على البئر دون خوف أو وجل، كانت تجئ في كل يوم مرة، عند مطلع الفجر أو بعد أذان العشاء، لأن زوجها لا يسمح لها بالسير في طريق القرية إلا بعد أن ينام الناس، وتنقطع الرجل. . فهي فتاة في رونق صباها رائعة الحسن غضة العود وزوجها يخشى عليها العين! ولا يحب لها ملاقاة شبان القرية الذين يقفون على رأس الطريق في ساعات معينة من النهار! وكانت تقابل سيد الأعمى في غالب الأوقات التي ترد فيها البئر، وكثيراً ما اترع لها الجرة، وأعانها على حملها، أو ملأ لها الحوض الصغير الذي على يمين البئر لتغسل وجهها ورجلها فبل الذهاب إلى بيتها، وكانت تطوى كميها إلى مرفقيها، وتحسر شالها عن شعرها، وترفع ثوبها إلى ساقيها وهي منحنية على الحوض تغتسل. كانت تفعل ذلك، دون خجل أو حياء لأن سيداً أعمى.
واستراح سيد الأعمى مرور الأيام لمحضَرها حتى أصبح يشعر في الأيام التي تتخلف فيها بالانقباض والوحشة. كان يحس، من أعماق نفسه، أن شيئاً ينقصه، شيئاً يستريح معه، وينشرح له صدره، وتنتشي حواسه، وتهدأ ثائرة أعصابه.
وكانت جميلة تدفعها غريزتها أول الأمر إلى الخوف منه واتقاء شره كرجل، بصر النظر عن كونه أعمى، ولكنها ما لبثت - بعد الانفراد معه مرة ومرات - أن استراحت واطمأنت ووثقت من عفته وخلقه، حتى كانت تخرج معه إلى حد المداعبة، كأن تخفي عكازته، أو تخلع الدلو، أو تقطع الحبل، أو ترشه بالماء، وكان يضحك لهذا حتى يرقص قلبه، ويلوح لها بعصاه مهددا. ً على أن هذا التآلف الذي أصبح بين سيد وجميلة، لم يشجع غيرها من النساء على القرب من البئر، لأنهن كن لا يعلمن بتغير حاله، وإن علمن لا يصدقن، ولم يكن هو يزجرهن عن البئر، ويمنعهن من ملء الجرار منها، لأنه كان يخاف على الماء فقط، بل لأن شيئاً خفياً في أعماق نفسه، كان يدفعه إلى النفور منهن وإبعادهن عن جوه. . . دافع باطني عجيب كان يخرجه عن هدوئه وسكونه، عندما يسمعهن يتحدثن على الماء أعذب حديث وأرقه، كان يرجف له ويضطرب، وهو الرجل وهن النساء. . .
شعور باطني غريب كان يحمله على فعل ذلك ولم يستطع تحليله ولا تعليله، وهو الجاهل الذي لم يذهب إلى المدرسة ولم يدرس علم النفس. لقد قضى الرجل حياته بعيداً عن جو المرأة فأخرجها عن دائرة تفكيره، بعد أن خرجت عن دائرة وجوده، ولم يعد يفكر فيها مطلقاً. . . لم يعد يفكر فيها، ولا يحن إلى لقياها، ولا يستريح لرفقتها.
وكان يتضايق حتى من وجود أم سيد معه في منزل واحد. . . وإن كان ينام بعيداً عنها، ولا يلاقيها إلا نادراً - غالباً في الأوقات التي كان يرجع فيها إلى البيت مبكراً ليتعشى - فكان يتذمر ويضطرب لمحضرها، وإن كان يعدها أُماً. كان يرتجف لوجودها معه، ويحس بروحها تثور، لأنه ما كان يحب أن يتصورها جالسة أمامه ترقبه وهو يمضغ الطعام، ويقطع الخبز بأسنانه، وكان لا يعود لهدوئه وسكونه إلا بعد أن يتنفس الصعداء في قاعته.
ولما اعترضت جميلة طريقه أول مرة، كان يحمل معه عصاه ليضربها؛ ولكنه لما سمع صوتها عن قرب، ووقف عند رأسها، وأمسك بيده رسغها، وصافحته أنفاسها، تراجع، وأيقن أنه أمام مخلوق لا يستحق الضرب!
وأخذ بعد ذلك يترقب حضورها، ويتأخر في المسجد عامداً ليعينها على حمل الجرة، ويملأ أذنيه من صوتها.
(لها بقية)
محمود البدوي