انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 155/يا شباب العرب!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 155/يا شباب العرب!

​يا شباب العرب!​ المؤلف مصطفى صادق الرافعي
يا شباب العرب!
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 06 - 1936


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

يقولون إن في شباب العرب شيخوخةَ الهِمَم والعزائم؛ فالشبانُ يمتدُّون في حياة الأمم وهم ينكمشون

وإن اللهوَ قد خفَّ بهم حتى ثقلت عليهم حياةُ الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت لهم كالمستحيلات

وإن الهزلَ قد هونَّ عليهم كلَّ صعبةٍ فاختصروها؛ فإذا هزءوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة. . .

وإن الشاب منهم يكون رجلاً تاماً، ورجولةُ جسمه تحتجُّ على طفولة أعماله

ويقولون إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبداً تَبِعَة أمر عظيم

ويزعمون أن هذا الشبابَ قد تمت الأُلفةُ بينه وبين أغلاطه، فحياته حياة هذه الأغلاط فيه

وأَنه أَبرعُ مقلِّد للغرب في الرذائل خاصة؛ وبهذا جعله الغربُ كالحيوان محصوراً في طعامه وشرابه ولذاته

ويزعمون أن الزجاجةَ من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عملَ جندي أجنبي فاتح. . .

ويتواصَونْ بأن أوَل السياسة في استعباد أمم الشرق، أن يترك لهم الاستقلالُ التام في حرية الرذيلة. . .

ويقولون إنه لابد في الشرق من آلتين للتخريب: قوة أوربا، ورذائل أوربا

يا شبابَ العرب! مَن غيركم يكذّب ما يقولون ويزعمون على هذا الشرق المسكين؟

من غير الشباب يضع القوةَ بازاء هذا الضعف الذي وصفوه لتكون جواباً عليه؟

من غيركم يجعل النفوس قوانين صارمة، تكون المادةُ الأولى فيها: قَدَرْنا لأننا أردنا؟

ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يُقتل فيها الهزل قتل فيها الواجب!

والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما يكون فيكم أنتم بحثُها التحليلي، تكْذِبُ أو تَصْدق.

الشبابُ هو القوة؛ فالشمسُ لا تملأُ النهارَ في آخره كما تملؤه في أوله

وفي الشباب نوعٌ من الحياة تظهر كلمةُ الموت عنده كأنها أُختُ كلمة النوم

وللشباب طبيعةٌ أولُ إدراكها الثقةُ بالبقاء، فأول صفاتها الإصرار على العزم

وفي الشباب تصنع كل شجرة من أشجار الحياة أثمارها؛ وبعد ذلك لا تصنع الأشجارُ كلها إلا خشبا. . .

يا شباب العرب: اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا

أَنقذوا فضائلنا من رذائل هذه المدنية الأوربيةُ تنقذوا استقلالنا بعد ذلك، وتنقذوه بذلك.

إن هذا الشرق حين يدعو أليه الغرب (يدعو لَمَن ضَرُّه أقربُ من نفعه لَبْئسَ الموْلى ولبئس العَشير)

لبئس المولى إذا جاء بقوته وقوانينه، ولبئس العَشيرُ إذا جاء برذائله وأطماعه.

أيها الشرقي! إن الدينار الأجنبي فيه رصاصةٌ مخبوءة، وحقوقُنا مقتولةٌ بهذه الدنانير.

أيها الشرقي! لا يقول لك الأجنبي إلا ما قال الشيطان: (وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي)

يا شباب العرب! لم يكن العسيرُ يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها.

أتريدون معرفة السر؟ السرُّ أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملاً من أعمال الخالق

غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر، ومعنى الخوف، والمعنى الأرضي

وعلَّمهم الدينُ كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمتَه وكبرياءَه

واخترعهم الأيمانُ اختراعاً نفسيّاً علامتُه المسجَّلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يَذِل

حين يكون الفقر قلةَ المال، يفتقر أكثر الناس، وتنخذل القوة الإنسانية، وتهلك المواهب

ولكن حين يكون فقرَ العمل الطيب، يستطيع كل إنسان أن يغتنى، وتنبعث القوة، وتعمل كل موهبة

وحين يكون الخوف من نقص هذه الحياة وآلامها، تفسّر كلمة الخوف مائة رذيلة غير الخوف ولكن حين يكون من نقص الحياة الآخرة وعذابها، تصبح الكلمةُ قانونَ الفضائل أجمع

هكذا اخترع الدين إنسانَه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسُه

يا شباب العرب! كانت حكمةُ العرب التي يعملون عليها: أُطلُب الموت تُوهب لك الحياة

والنفس إذا لم تخش الموت كانت غريزةُ الكفاح أولَ غرائزها تَعْمَل

وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصراً إذ لا تكون الفكرةُ معها إلا فكرةً مقاتلة

غريزة الكفاح يا شباب هي التي جعلت الأسدَ لا يُسَمَّن كما تسمَّن الشاة للذبح

وإذا انكسرت يوماً فالحجر الصَّلْدُ إذا تَرَضرَضتْ منه قطعة كانت دليلاً يكشف للعين أن جميعه حجر صلد

يا شباب العرب! إن كلمة (حقّي) لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائُلها حياتَه فيها

فالقوةَ القوةَ يا شباب! القوة التي تقتل أول ما تقتل فكرةَ الترف والتخنث

القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة (نعم) معنى نعم

القوة الصارمة النفَّاذة التي تضع للأعداء في كلمة (لا) معنى لا

يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزاً، وإما أن تموتوا.

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي