انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 155/من مسرات الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 155/من مسرات الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 06 - 1936



للأستاذ عبد الرحمن شكري

قال ابن خفاجة الأندلسي الشاعر:

وشأن مثلي أن يُرَى خالياً ... بنفسه يبحث عن نفسه

وكنت كلما قرأت هذا البيت أعجب كيف لم ينظم قائله شعراً كثيراً في بحث ميول النفس وأحاسيسها وتعليلها وتحليلها، وقد ذكر في بيته هذا أن من شأنه أن يخلو بنفسه يبحث عن نفسه. ومن كان هذا شأنه فَحَص النفس الإنسانية على اختلاف تربتها، وهذا عمل العمر وأكثر من العمر؛ وهو أيضاً لذة متجددة، وإن أدى البحث إلى ما يؤدي إليه بحث قاع الجب أو قاع البحر وما فيه من در ولؤلؤ ومرجان وغابات بحرية وأعشاب وأحياء تقتتل ويفنى بعضها في بعض ووحوش بحرية غريبة مجهولة، وجيف ورمم، وكنوز ثمينة في بقايا السفن الغائرة؛ فهكذا قاع النفس أيضاً لدى من يسبر غورها ويغوص في أعماقها. وسطح النفس أيضاً مثل سطح البحر، لج وخرير، وشمس تتلألأ أشعتها، ونسيم عليل، ومنظر بهيج هادئ، أو عواصف وأعاصير، ومرأى رائع جليل. وإذا كانت بعض مظاهر النفس تبعث الرهبة، فان بعض بواطنها أدعى إلى الرهبة، ولكن من الرهبة ما يستصحب المسرة، كالرهبة التي يحسها المرء وهو يستطلع الأمر الغريب الرائع المخوف المجهول؛ ومن أجل ما تستصحب من المسرة نشأ حب الاستطلاع لما يستدعي المخاطرة من مستطلعه

ولعل ابن خفاجة في بحثه النفس كان ينظر إليها نظرة المستريح في ظل الشجرة يفكر فيما حوله وكأنه لا يفكر، فان في مثل حالة هذا المستريح تفكيراً كلا تفكير، وبحثاً كلا بحث، فهو تفكير يقنع فيه المرفه نفسه بالنظر إلى المرئيات وألوانها وأجزائها من غير أن يعني نفسه بالبحث عن سرها خشية أن تضيع لذة الراحة والدعة؛ فشأنه شأن المسحور لا حراك له، وفكره أيضاً لا حراك له، ويخيل إليه في مثل هذه الحال كأن الدهر قد أوقف دورته واستراح، وكأنما يخشى أن يفك عنه الحراك سحر التأمل ولذته المطلقة التي لا تتقيد بتقصي الأسرار والمسببات، ولا هي مثل لذة المخاطر الذي يرى في مشقة استطلاع الغريب المخوف مسرة كما أوض على أن من الميسور أن ندرك ابن خفاجة في حالة أخرى من حالات بحث النفس، وهى الحالة التي يغوص المفكر على العويص الغائر من أسرارها، ويحس لذة في غوصه تملأ جوانب نفسه حتى تشغله عن لذة التعبير عما يراه في بحثه تعبيراً فنياً، فأني لا أحسب ابن خفاجة رأى أن تتبع حركات النفس وخطراتها وأحاسيسها في شعره غير لائق بشعره إذ أي شئ ألصق بالقريض من النفس وأحوالها وميولها وخطراتها، فالشعر هو لغة النفس وموسيقاها، ومقر كنوزها وحكمتها وأسرارها

ولكن للبحث في النفس مسرات مختلفة، قد تفترق وقد يتصل بعضها وينال في وقت واحد، فمسرة فيما يجلبه التعبير الفني عن أحاسيس النفس من ارتياح الفنان الصانع في صنعه، ومسرة أخرى فيما تجلبه مشاهدة أطوار النفس والتأمل في أحوالها من الارتياح كارتياح مشاهد القصة التمثيلية في تتبع روعة فن القصة كما يبرزه الممثل

وهذا الارتياح غير ارتياح المسحور المأخوذ بما يره من المنظر الطبيعي أو الصورة الفنية النادرة، وارتياح المسحور هذا هو أيضاً مسرة أخرى في التأمل في النفس البشرية

ولكل مسرة من هذه المسرات الثلاث قيمة في الحياة، وكل منها تعين المرء على تحمل متاعب الحياة وآلامها، بل إنها لتعين اليائس بما فيها من لذة فن البحث والتقصي على تحمل ما يحس من يأس من النفس البشرية إذا لم يستطع غير اليأس منها. وكل إنسان له نصيب من هذه المسرات الثلاث، فكل فنان، وكل إنسان يعبر عما يراه في أعماق النفس تعبيراً فنياً، إما في ثنايا ما يسلي به نفسه في خلوته من الأغاني والأناشيد، وإما فيما يفوه به من الأمثال العامية أو غير العامية، وإما في آهاته وأناته وأمانيه، وإما في ثنايا قصصه ونكاته وفكاهاته، وفي مجالسه ومباذله، وفيما يقول في سخطه وحزنه وسروره، أو في نثره وشعره إن كان ناثراً أو شاعراً، أو في أدوات الفنون الأخرى من نحت أو تصوير أو موسيقى

وكما أن كل إنسان ينال نصيباً من لذة الفنان المعبر عن النفس تعبيراً فنياً، فكل إنسان ينال أيضاً نصيباً من مسرة المشاهد لقصة الحياة والنفس التي تمثل أمامه، وكل نفس تحاول أن تحول كل ما يمر بها من الحوادث إلى قصة وفن وإن لم يفطن أكثر الناس إلى هذه المحاولة في أنفسهم. وكلما اضطر الإنسان إلى الخروج عن نشوة المتأمل المشاهد لفن قصة الحياة والنزول إلى ميدان الألم الممض والأحزان، أدى واجبه من ألم الحياة وأحزانها مما لا مفر منه، ورجع بأسرع ما يستطيع إلى موقف المعبر عن الحياة والنفس، أو إلى موقف المشاهد لقصتها، حتى إنه ليحول أو يحاول أن يحول آلامه وأحزانه إلى قصة وفن وأن لم يشعر بتلك المحاولة من نفسه، لأنها في كثير من الأحوال محاولة طبيعية لا تعتمد فيها ولا تصنع، وإن كانت أحياناً تستلزم عملاً ظاهراً يلفت المرء إلى مجراها من نفسه كما يكون شأنها عند الفنانين

وإذا لم يستطع المرء أن يسرع في التنقل من موقف المؤدي واجبه المفروض من آلام الحياة وأحزانها إلى مواقفه الأخرى التي ذكرت حاول أن يجمع بين الأمرين في وقت واحد بأن يقف من آلامه التي يعانيها موقف الممثل من آلام الشخص الذي يمثله في القصة، فيجمع وقتئذ في نفسه نفسين، كما يجمع الممثل بين نفسه ونفس من يمثل، سواء أكان هامليت أو الملك لير أو عطيل الخ

وترى المرء وهو في هذه الحال وفي دموع حزنه معنى آخر مع ما فيها من الحزن والأم

وإذا لم تستطع النفس أن تقف موقف الممثل من آلامها وشجونها التجأت إلى موقف المسحور المأخوذ بصور الحياة ومناظر النفس سواء أكانت بهجة أو غير بهجة، وُقل إنها تسحر بها في بعض الحالات كما تسحر بمناظر الجلال والروعة من مناظر الطبيعة الهائلة. وهذا أيضاً تحول من النفس والتجاء طبيعي لا تعمد فيه فهو قلما يحس، وكلما كان نصيب المرء أوفر من ملكات التحول والالتجاء، أو قل التهرب والنجاة من حوادث الحياة، كانت سيطرته على آلام الحياة أعظم، لأن هذا التحول إنما هو وسيلة من وسائل مكافحة آلام الحياة لا يحتاج المرء إليها إلا بعد الوسائل الأخرى

ومن المشاهد أن النفوس عند وقوفها موقف الممثل من آلامها وحوادث أيامها تختلف في منحاها، فنفوس يكون موقفها أشبه بموقف ممثل الجد، ونفوس موقفها أشبه بموقف ممثل الهزل، والأولى قلما يفطن الناس إلى موقفها التمثيلي، والثانية قد يفطن الناس إلى موقفها التمثيلي لبعد ما بين حقيقة حالها وهزلها. ولعل فطنة الناس إلى موقفها التمثيلي تكون في الحالتين بمقدار قلة إتقانها لدورها أكثر مما يكون لميل موقفها إلى الجد أو الهزل؛ والمرء في هذا الموقف النفساني التمثيلي هو باحث متفهم لدوره دارس له كنا يتفهم الممثل دوره و يدرسه حتى ولو كان ممن يجيدون التمثيل بالسليقة من غير طول عناء في التفهم والدرس؛ ومسرته إذن متصلة بمسرات البحث في النفس والحياة

ولعل قائلاً يقول إن بحث النفس بحث معاد مملول يجلب السأم، وإن النفس كالتاريخ الذي يعيد نفسه؛ لكن النفس إذا أعادت تاريخاً من تواريخها لم تعده بالنص، وقد يأتي التاريخ مع الأسباب والمسببات القديمة بحوادث جديدة تستدعى التأمل وربط المسببات بالأسباب، وهذا ليس بالأمر الهين ولا هو بالأمر المعاد المملول، ثم إن تحت ما هو معاد مملول من أطوار النفس وأسبابها أسباباً أخرى لا يصل إليها التقصي، وأعماقاً يعجز الغائص عن سبر غورها وفيها مجال واسع لحب الاستطلاع الغريب حتى يأتي الموت فيسدل ستاره على لعب الحياة القدس إلا إذا مل المرء البحث من اليأس والعجز عن بلوغ غور النفس لا من العرفان

والإنسان في رحلة الحياة كالمسافر الجواب للأقطار؛ وترى بين ذوي الأسفار من يتعجب من كل أمر، ومن يضحك من كل شيء؛ ومنهم من يتأفف من كل أمر، ومن يسخر من كل شيء؛ ومنهم من يتحمل أشد مشقة من شغفه باستطلاع الغريب أثناء أسفاره. والناس أيضاً في رحلة الحياة الدنيا يختلفون في أهوائهم؛ ومنهم من يتحمل أيضاً أشد مشقة وأمض ألم من شغفه باستطلاع الغريب مما تأتي به الأيام والليالي أو ما يراه في بحث النفوس البشرية. ومن ذوى الأسفار في أقطار الأرض من يحكم على قوم بحالة واحدة رآها في احدهم، شأنه شأن الإنسان في رحلة الحياة الدنيا يحكم على النفوس بحالة واحدة يحولها إلى قاعدة ونظرية عامة. وذوو الأسفار في الأقطار كالإنسان في رحلة الحياة قد يتعجب ويستغرب الطبيعي المألوف من عادات الناس أو أحوال نفوسهم وأخلاقهم لأن الإنسان ذو خيال يتوقع به أن يرى الناس على ما يود من أخلاقهم وعاداتهم وعلى ما يسره ويرضيه وينفعه منها، فإذا اطلع على المألوف مما لا يود منها فاجأه مفاجأة غير المألوف، وهذا من أثر أنانيته التي تغالط نفسه مغالطات مختلفة، فمرة تغالطه حتى يتوقع من أخلاق الناس الحسن النافع له، ومرة تغالطه حتى يتوقع السيئ الذي يتباهى بالخلو منه، وقد لا يكون ذلك الحسن ولا ذلك السيئ من خصال أو عادات الذين ينعتهم، ولكنه يرجو النفع لنفسه في الحالين إما بتوقع الحسن منهم كي يستفيد، وإما بتوقع السيئ كي يعلو بمنزلة نفسه عنهم، فليس كل بحث في النفس مصيباً، فالناس في بحث النفوس كالعميان في القصة وقد تلمسوا الفيل من نواح وأطراف مختلفة، فقال أحدهم وقد لمس ساقه إن الفيل كالدعامة المستديرة؛ وقال آخر وقد لمس سنه إنه كالعصا الغليظة؛ وقال ثالث وقد لمس أذنه إنه كالمروحة؛ وأدى بهم الغيظ والغضب لما حسبوه حقاً إلى التقاتل كما يتقاتل الناس غضباً لما يحسبونه حقاً في الحياة. ولعل لذة المفاجأة المتجددة والتي تنفي الملل عن الإنسان تعوضه من ألم الحسرة، على أن الحياة والنفوس لا تأتى له بكل ما يرتضى ويشاء

عبد الرحمن شكري