انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 154/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 154/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1936



قصة المفاتيح

للقصصي الروسي مكسيم جوركي

(هذه القصة تكشف عن شخصية هذا الكاتب العظيم، وتؤرخ

فترة قاسية من حياته، فضلا على أنها تصور حياة طائفة من

الناس أغفل كثير من أدباء الغرب تصويرها)

كان ثلاثتنا: (زيومكا كارجوزا) و (أنا) و (ميشكا) عمالقة بلحى طويلة وعيون واسعة لها زرقة الماء، نبتسم دائماً بثغور فرحة، ويخيل لمن يرانا أننا نترنح من الخمر أبدا. وكنا نأوي إلى بناء قديم خارج المدينة، يكاد من فرط قدمه أن ينقض، ولا يعرف غير الله لم سمي بمصنع الزجاج، ولعل ذلك لعدم وجود لوح زجاجي سليم به. وكنا نتقبل أي شيء دون أن يكون لنا شيء من الخيار، وكنا نكنس ساحات البيوت وننظف الغبار، وننبش المقابر وأكوام القمامة، ونهدم البيوت القديمة، ونقطع الأسوار. وقد حاولنا مرة أن نبني زريبة للعمالقة، إلا أننا فشلنا في ذلك. وكان زيومكا يسعى دائماً للقيام بواجبه، ويتشكك في معرفتنا ببناء زريبة للعمالقة. ولهذا فقد أحظر بنفسه ظهر يوم وكنا في غفوة كل المسامير وقطعتين من الخشب ومنشارا، وكان ذلك كله لصاحب عمل كنا نعمل عنده، وقد طردنا من أجل تلك الفعلة. ولما كنا لا نملك شيئاً يمكن سلبه منا لم يطالبنا بتعويض عن الأضرار التي لحقته بسببنا؛ وكنا في كفاف من العيش؛ وكنا غير راضين بما قسم لنا - وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالة، وتطور هذا الشعور بفعل الزمن فأصبح كراهية لكل ما يحيط بنا. وجرنا ذلك إلى أعمال تهديدية توقعنا تحت طائلة قانون العقوبات. والواقع إننا عشنا في ألم. غير مبالين بالحياة، مرغمين على البحث عن عمل وليس لنا من مظهر الحياة المادي سوى تجاوب ضعيف.

وكنا قد تقابلنا في ملجأ لمن لا مأوى لهم قبل أربعة عشر يوماً من الحادث الذي سأقصه عليك لأنه شائق في نظري؛ وصرنا بعد يومين أو ثلاثة من تعارفنا أصدقاء نسير معاً إلى كل مكان، ويفضي كل منا لصاحبيه بأمله وأغراضه. ويشاطر بعضنا بعضاً كل شيء؛ وبالاختصار عقدنا اتفاقا لا نص له على أن نكافح سواسية مدافعين ومهاجمين الحياة التي ناصبتنا العداء

وفي النهار كنا نبحث بجد عن عمل، في قطع الأحجار، أو الهدم أو الحفر أو النقل، وعندما تتهيأ لنا فرصة مثل هذه كنا نعمل بجد ونشاط.

ولما كان لكل منا غرض أسمى من وضع مواسير المجاري أو تنظيفها - وهو من اشق الأعمال - فقد سئمنا العمل فيها بعد يومين. ثم أخذ زيومكا يتشكك في ضرورة الحياة.

ستصير هذه مجاري لأي شيء؟ للقاذورات؟ أليس في وسع الإنسان أن يلقي بها أمام داره؟ كلا هذا لا يصح فأنها تثير رائحة كريهة. هكذا! القاذورات تثير رائحة كريهة. أعمال عظيمة من أجل أشياء تافهة! فلو أن أنساناً قذف مثلاً بخيارة مخللة، غير كبيرة الحجم، فماذا تبعث هذه من رائحة؟ إنها تبقى يوماً. . . ثم تختفي. . . - تتعفن! لا، ولكن إذا قذف بجثة آدمي إلى موضع فيه الشمس فإنها تتعفن حقاً.، إلا أن ذلك عمل منكر!)

مثل هذه الأحاديث كانت تفت في عضدنا وتقلل رغبتنا في العمل. وكان ذلك يفيدنا كل الفائدة عندما نعمل بأجرٍ يومي في الأعمال الجزئية. فقد كنا نتقاضى أجرنا دائماً قبل أن نتمم ما عهد إلينا به من عمل. وذهبنا مرة إلى مقاول وطلبنا منه أن نعمل في عمل، إلا أنه طردنا وهددنا أن سوف يضطرنا بمعونة الشرطة إلى إتمام العمل الذي أنقدنا أجرنا عليه من قبل. وكنا نجيبه بأنه لا طاقة لنا على العمل وبطوننا خاوية. وتشبثنا مطالبين بالعمل. وكنا نحصل عليه في أغلب الأحيان.

كان ذلك خطأ منا، ولكن لا نكران في أنه كان مفيدا لنا. ولم يكن في وسعنا أن نصلح شيئاً من نظام الحياة الذي فسد، حتى أصبح القيام بعمل والانتفاع به ضدين.

وكان زيومكا في كل مرة يتولى المفاوضة مع أصحاب العمل، وكان يقوم بها بمهارة ولباقة، وكان يبرهن على صحة مطالبه بهدوء الرجل المهدود القوي الذي يرزح تحت عبء الأعمال التي لا طاقة له بها.

وكان ميشكا يقف صامتا إلى جانبه، ويحمله بعينيه ويبتسم ابتسامة الرضا والسرور، كما لو أنه كان في نيته أن يقول شيئاً ولكن خار عزمه. وكان يندر أن يتحدث، فإذا ما ثمل أخذ في الكلام كمن يلقي خطاباً. ثم ناداه مبتسماً: (أخي!) وكانت شفتاه ترتجفان عجبا، وبقي صوته محتبسا في حلقه، وبدا يسعل ليستر خجله، ثم أمسك رقبته بيده

وقال زيومكا، ولم يطق صبراً: (ما بالك؟)

فقال له: (أخي! إننا نعيش كالكلاب، بل أتعس منها. . ولم ذلك؟ لا أحد يدري! ولكن لا بد من أن الله عز وجل أراد ذلك، فكل شيء يسير بإرادته. أليس كذلك يا أخي؟ نعم هو كذلك. ولذا أقول إن ما نلقاه نحن التعساء هو العدل. أليس ذلك تفكيراً صحيحاً؟ وعلى ذلك أفلا يمكن أن تتحسن حالنا؟ يجب أن نرتضي حظنا صابرين. . . أليس كذلك؟)

ولكن زيومكا أجاب على أسئلة زميله المتعددة المثيرة للخواطر بكلمة مختصرة: (يا قليل العقل!)

فانكمش ميشكا وقد عرف خطأه، وابتسم خجلا وبرقت عيناه المنتفختان من الخمر وسكت. ثم قال فجأة: آه، لو أن لنا (خنزيراً).

وكنا ذات يوم نتسكع في السوق نبتغي عملاً، فاصدمنا بامرأة عجوز ضامرة قصيرة ذات وجه كثير التجاعيد؛ وكان رأسها يهتز فوق عنقها. وعلى أنفها منظار كبير محاط بإطار غليظ من الفضة، يتأرجح يمنة ويسرة فتعمل يد العجوز لتثبيته في موضعه. أخذت تحدق فينا النظر؛ وقد وجهنا إليها أنظارنا طامعين في حديثها.

وسألتنا: أليس لكم عمل؟ أتبحثون عن عمل؟

ولما أجابها زيومكا في احترام بالإيجاب، قالت: (حسناً! عندي حمام قديم أريد هدمه. كما أريد أن تنظف النافورة. . . فكم من الأجر تطلبون؟)

فرد عليها زيومكا في احترام أيضاً قائلاً: (يجب أولاً يا سيدتي المحترمة أن يرى الإنسان حجم الحمام، وكذلك النافورة، فلكل نافورة شكلها الخاص، إذ منها ما هو عميق جداً و. . .)

وطلبت منا العجوز أن نرى النافورة. ولم تمض ساعة حتى كنا نعمل مجدين بالمناشير والمعاول في هدم الحمام. فلما انتهينا من عملية الهدم هذه وتنظيف النافورة تقاضينا مبلغاً قدره خمسة روبلات وهو الأجر الذي اتفقنا عليه. وكان الحمام مقاماً في ركن مهجور من الحديقة، وعلى مقربة منه كوخ خشبي تظلله أغصان شجر الكرز. وقد رأينا ونحن نهدم بناء الحمام العجوز جالسة في ذلك الكوخ عاكفة على قراءة كتاب كبير وضعته على ركبتيها. . . وكانت من وقت لآخر ترمينا بنظراتها الحادة، وكان الكتاب يهتز فوق ركبتيها فيلمع القفل الفضي للكتاب.

ليس بين الأعمال أسهل من التخريب والهدم. وقد استفرغنا جهدنا وسط سحابة من الغبار. وكنا نعطس ونسعل ونمخط ونفرك أعيننا حين قد سقط الحمام وتناثرت أجزاؤه، فقد كان عتيقاً ناخراً كصاحبته.

(هيه يا شباب، فنجيبها: واحد، اثنان، ثلاثة، هوب!) هكذا كان زيومكا يصدر أوامره. وهكذا تساقطت كتل البناء الواحدة تلو الأخرى.

وتساءل ميشكا وهو مطرق الرأس مستنداً إلى الفأس مجففاً عرق جبينه: ما عساه يكون هذا الكتاب؟ أنه لكتاب ضخم! ولن يكون الإنجيل إذ هذا أضخم منه)

وسأله زيومكا مستفسراً: (وماذا يهمك من ذلك؟)

(يهمني؟ كلا! إنني أميل لاستماع من يقرأ الكتب. . . أعني الكتب الدينية. وكان في قريتنا جندي أسمه أفريكان يقرأ كثيراً في الإصحاح، وكذلك وكان وقع ذلك في أذني كالموسيقى - ما أجمل ذلك!)

وسأله زيومكا وهو يشعل لفافة التبغ: والآن؟)

- لاشيء. لقد كان جميلاً، على رغم أن الإنسان لا يفقهه. إنه لكلام جميل. . . وقد لا يسمع الإنسان كلاماً مثله في الشارع. نعم إن الإنسان لا يعرف له معنى، ولكنه يشعره بأن ذلك له صلة بالروح.

وهزئ زيومكا منه قائلاً: هذا ما لا أفهمه، إن الإنسان ليرى فيك من جديد غباء الحذاء القديم.

فأجاب الأخر قائلاً: (إنني واثق من أنك تميل إلى السباب)

(كيف السبيل إلى مخاطبة مثل هذا الحمار؟ إنه لا يفقه شيئاً غير ذلك: هيا، أعمل معولك هنا - أنتبه. . . هوب)

وتقوض بناء الحمام شيئاً فشيئاً وكثرت الأنقاض، وقد أحيطت بغمامة من الغبار كست أوراق الأشجار القريبة

وبدأ ميشكا ثانية: هذا الكتاب محلى بالفضة) ورفع زيومكا رأسه، وصوب نظره إلى الكوخ. وقال في اقتضاب:

- (هو كذلك على الغالب)

- (إنه لا شك الإنجيل)

- (ليكن ذلك. وماذا يهمك من أمره؟)

- (لاشيء!)

- (لا شيء هذه ملء جيوبي. ولكن إذا كنت تريد أن تستمع إلى ما في الإنجيل فاذهب إلى العجوز وقل لها: أقرئي لي يا سيدتي المحترمة شيئاً من الإنجيل، إنه لا سبيل لنا غير ذلك؛ إننا لا نذهب إلى الكنيسة لأن أبداننا قذرة وملابسنا بالية، إلا أن لنا روحاً كبقية الناس. . . هيا أذهب).

- (هل أذهب حقاً؟)

- (نعم، أذهب)

وقذف ميشكا بمعوله وأصلح ثيابه ومسح الأقذار عن وجهه بكمه، وقال زيومكا في نفسه وابتسامة السخرية على فمه: (ستركلك برجلها كأحقر دب) غير أنه تلهف على متابعة خطوات صاحبه بالنظر، وسار هذا بخطى ثقيلة وابتسامة الخجل والهدوء مطبوعة على وجهه، ورفعت العجوز رأسها وصوبت نظرها إلى ذلك المتسكع القادم إليها، وكانت الشمس تضيء زجاج منظارها وإطاره الفضي فيومض

ولم تركله برجلها برغم أن زيومكا تنبأ بذلك، وكان حفيف الشجر يحول دون سماع ما تحدث به ميشكا إلى صاحبة المنزل، ولكنا رأيناه يخر فجأة أمام قدميها ويجلس على الأرض حتى يكاد أنفه يمس الكتاب، وكان وجهه يدل على الهدوء والرزانة، وقد رأيناه وهو يحاول ما استطاع أن ينفخ في لحيته ليبعد عنه الغبار، وأخيراً أستقر في مجلسه ومد عنقه ووجه نظره إلى يد العجوز التي أخذت تقلب صفحات الكتاب صفحة صفحة.

(أنظر إليه فهو كالكلب غير المهذب! له الآن أن يستريح. فهل نذهب نحن كذلك؟ وماذا نعمل هنا وحدنا، وهو يجلس هادئاً بينما نحن نعمل من أجله وننهك قوانا. هيا، سر إلى الأمام).

وبعد دقيقتين جلسنا إلى جواره واحدا عن يمينه والآخر عن يساره، ولم تنبس العجوز بكلمة ساعة قدومنا، ولكنها كانت تحدق فينا وتقلب صفحات الكتاب كمن يبحث عن شيء بعينه، وكانت السماء صافية تشيع السرور في النفس، وكان النسيم العليل يهب من وقت لآخر مداعباً أوراق الشجر، وانساب من هذا وذاك سحر إلى قلوبنا التي كانت تتهيأ للمحبة والسلام، وبدأ يستيقض فينا الإحساس بأشياء غامضة مجهولة إلا أنها قريبة منا، وأخذت أرواحنا تتحرر من الأدناس

(بولص، خادم المسيح)

بهذا رن صوت العجوز، وكانت ترتعش وقد هدها الكبر، غير أنها كانت خاشعة، ورسم مشيكا الصليب، وأخذ زيومكا يتحرك من جنب إلى جنب ليجد مكاناً في الأرض مريحاً، وكانت العجوز ترمقه بعينيها دون أن تمسك عن القراءة.

(البقية في العدد القادم)

أ. أ. ي