مجلة الرسالة/العدد 153/المأساة الفلسطينية
مجلة الرسالة/العدد 153/المأساة الفلسطينية
لباحث دبلوماسي كبير
أجل لم تعد قضية فلسطين مسألة من مسائل الاستعمار والسياسة، ولكنها تغدو مأساة حقيقية.
مضت إلى اليوم عدة أسابيع، وفلسطين تجوز أحداثاً هائلة: أهوال الإضراب والمقاومة السلبية، وأهوال القوة الغاشمة تميل عليها وتنكل بها من كل صوب، وتحاول إخماد أصواتها وأنفاسها بكل وسيلة، وتعمل على تجريدها من كل وسائل الأعراب والمقاومة؛ والسياسة المتجنية تشهد آلام شعب بأسره هادئة جامدة، لا تحركها صرخات الألم، ولا إزهاق الأنفس وإهراق الدماء، بل تؤكد هادئة أنها لن تحاول بديلا لخطتها، وأنها ستمضي فيها إلى النهاية غير مكترثة بإرادة شعب وحقوقه، بل بحياته أو موته.
والواقع أن فلسطين اليوم تجوز صراع الحياة والموت؛ وهي تجوز هذا الصراع منذ تسعة عشر عاماً، أعني مذ قضت عليها السياسة الإنكليزية في سنة 1917، بأن تغدو وطناً قومياً لليهودية؛ ولكن خطر الصهيونية على كيان فلسطين لم يُبد في أعوامه الأولى كما يبدو اليوم؛ وكانت الأمة الفلسطينية مازالت في هذه الأعوام الأولى تهجس بشيء من الأمل، أما اليوم فأن الخطر الصهيوني يبدو في ذروة روعته، خطر فناء لا شك فيه؛ وتفقد الأمة الفلسطينية كل أمل في عدالة الاستعمار والعدالة الدولية، وتدفعها اليوم إلى الكفاح نزعة يأس عميق؛ وإذا بلغت الأمم حد اليأس، هانت عليها كل سبل الأقدام والتضحية.
وهذا ما يطبع كفاح الأمة الفلسطينية اليوم، فأنها تجوز غمار هذه الأحداث الهائلة التي نشهدها منذ أسابيع، مقدمة غير مكترثة لبذل النفس والمال، ونثابر على الكفاح بهمة الجلد المستميت.
أسفرت الحرب الكبرى عن وقوع فلسطين تحت نير استعمار مزدوج، فقد فرض عليها الانتداب البريطاني باسم عصبة الأمم، والانتداب هو حماية أجنبية صريحة؛ وقضت عليها السياسة البريطانية من جهة أخرى أن تكون وطناً قومياً لليهود، وأدمج هذا العهد الذي قطعته إنجلترا لليهودية في نص الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم، وغدت فلسطين بذلك أرضاً بريطانية كما غدت ميداناً للاستعمار اليهودي الاقتصادي والاجتماع ومنذ سنة 1917 يتدفق سيل الهجرة اليهودية على فلسطين، يدعمها تدفق الأموال اليهودية، والنشاط اليهودي بسائر ألوانه ومناحيه؛ ولا تدخر السياسة البريطانية من جانبها وسعاً لرعاية هذا الوطن اليهودي الجديد، وتشجيع نمائه ورخائه، وتذليل كل صعب في سبيل الهجرة اليهودية، وتنظيم الاستعمار اليهودي للبلاد؛ وتفسح السلطة المنتدبة في ذلك مجالاً كبيراً لآراء الوكالة التنفيذية اليهودية، وهي الهيئة اليهودية الرسمية التي تقوم في فلسطين بجانب سلطات الانتداب طبقاً لصك الانتداب ذاته، وتتمتع بحق الاقتراح والمشورة في كل ما يتعلق بالوطن القومي اليهودي.
ومع أن اليهودية أقبلت من سائر أنحاء العالم على استعمار فلسطين بحماسة شديدة، وحملت إليها مئات الملايين، واشترت من أراضيها مساحات عظيمة، حولتها إلى مستعمرات يهودية، غنية ضخمة، وأنشأت مدينة يهودية عظيمة هي مدينة تل أبيب، وعملت على إحياء اللغة العبرية وجعلها لغة الوطن القومي الجديد، وأنشأت جامعة عبرية كبيرة لتعمل على إحياء التفكير اليهودي؛ مع ذلك كله كانت تشير اليهودية في أعوامها الأولى تسير إلى غايتها متعثرة، ويزعجها سخط العرب وتبرمهم؛ وكانت تخشى دائماً أن تميل السياسة البريطانية إلى إرضاء الأماني القومية العربية بوجه من الوجوه، خصوصاً وأن تصريح بلفور ذاته ينص على احترام حقوق الطوائف غير اليهودية، المدنية والدينية؛ بل لقد مر باليهودية قبل بضع أعوام فقط ساعات يأس حقيقي، وخيل لها غير مرة، أن حلم هرتسل في بعث الدولة اليهودية وإنشاء الوطن القومي اليهودي، سينهار في مهده؛ وكادت الحكومة البريطانية في سنة 1930 بعد أن تبينت عدالة المطالب العربية فيما يتعلق بوقف الهجرة اليهودية، ووقف بيع أراضي العرب، وهي مطالب عززها تقرير اللجنة الإنكليزية التي انتدبت لبحث هذه المسائل، تجنح إلى إرضاء بعض الأماني العربية، وصدرت في مجلس العموم البريطاني تصريحات رسمية في هذا الشأن؛ ولكن سرعان ما تغلب نفوذ اليهودية مرة أخرى، وسحبت الحكومة البريطانية تصريحاتها ووعودها للعرب، بتصريحات معارضة ألقتها تأييداً لوجهة النظر اليهودية وعهد بلفور.
وهكذا استطاعت اليهودية أن تخرج ظافرة من الأزمات والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كادت تزعزع إيمانها في حلمها وفي مثلها؛ وذهبت جهود العرب سدى، ولم يظفروا رغم ثوراتهم واحتجاجاتهم المتكررة بحمل السياسة البريطانية على أن تحيد ذرة عن خطتها.
ثم لقيت الحركة الصهيونية ظرفاً جديداً لنشاطها واضطرامها؛ ذلك أن ألمانيا جاشت بالخصومة السامية عقب قيام النظام الهتلري، ونظمت الحكومة الهتلرية لسحق اليهود في ألمانيا مطاردة عنيفة رائعة، فتوجست اليهودية في أنحاء العالم شراً، وهتفت كلها بأخطار الخصومة السامية، وألفت الصهيونية الفرصة سانحة لتؤكد لأبناء جنسها كرة أخرى أن الوطن القومي اليهودي هو ملاذ اليهودية وعصمتها من تلك النزعات الخطرة؛ وهكذا تدفق سيل الهجرة اليهودية على فلسطين بعنف لم تعهده من قبل، وزاد عدد اليهود في فلسطين بسرعة حتى أنه بلغ الضعف تقريباً في نحو ثلاثة أعوام؛ ولبيان ذلك نقول أن اليهود بلغوا حتى سنة 1932 نحو ثلاثمائة ألف من مجموع سكان فلسطين وقدره مليون. وقد بلغوا في سنة 1936 حسب أخر إحصاء نحو خمسمائة ألف، وبلغ السكان العرب من مسلمين ونصارى نحو سبعمائة وخمسين ألفاً؛ وقد اجتمعت مرافق فلسطين الحيوية في الأعوام الأخيرة في يد اليهودية بسرعة، وأحرزت اليهودية بالشراء السخي معظم أراضي فلسطين الخصبة، وساعدتها السلطة المنتدبة على تحقيق سيطرتها الاقتصادية بجميع الوسائل التشريعية والإدارية، ومازالت هذه السيطرة تزداد توطداً وتمكيناً.
والآن وقد رأى العرب أن بلادهم التي استوطنوها منذ الأحقاب، وأراضيهم ومرافقهم الحيوية، وتراثهم الديني والاجتماعي، كل ذلك يسير سراعا إلى التلاشي والعدم، والدولة المنتدبة تؤازر اليهودية باستمرار على تمكين غزوها المروع؛ وخطر الفناء القومي يلوح في ثنية المستقبل، فهل نعجب إذا رأيناهم ينفجرون سخطاً ويؤثرون السقوط في ميدان الجهاد الشريف على ذلك الإعدام البطيء المنظم؟ وهل تعجب الحكومة البريطانية إذا كانت سياستها في فلسطين قد أدت إلى مثل هذا الانفجار الخطير، وهو الثالث من نوعه في نحو عشرة أعوام؟
إن مؤازرة السياسة البريطانية لليهودية وتعضيدها لإنشاء الوطن القومي يرجعان إلى اعتبارات واضحة معروفة؛ فالسياسة البريطانية تعرف مدى النفوذ اليهودي في عالم المال والسياسة، وقد حظيت بريطانيا في الحرب العظمى بمؤازرة اليهودية، ومازالت ترمي إلى الاحتفاظ بهذه المؤازرة؛ وإنشاء الوطن القومي ضمان لاستمرار هذا التعاون بين السياسة البريطانية وبين اليهودية.
بيد أن هنالك اعتبارات أخرى يلوح لنا أن السياسة البريطانية لم تقدرها حق قدرها. ذلك أن فلسطين هي قطعة من العالم العربي تحوطها الأمم العربية من كل صوب، والأمة الفلسطينية هي عضو في جماعة الأمم الإسلامية الكبرى؛ وإنكلترا التي تسيطر على عشرات الملايين من المسلمين، في أفريقية واسيا يجب عليها أن تحسب حسابا لعواطف المسلمين ومشاعرهم؛ ومن المحقق أن العالم الإسلامي كله يعطف على فلسطين في محنتها وكفاحها كل العطف، ويأخذ على السياسة البريطانية مسلكها نحو فلسطين وأمانيها المشروعة، ومن المحقق أن إصرارها على هذا المسلك سيكون له أسوأ الأثر في العالم الإسلامي، وفي عواطف الشعوب الإسلامية نحو إنكلترا.
وعلى اليهودية ذاتها أن تفطن لهذا الاعتبار؛ فالوطن القومي اليهودي يقوم في قلب العالم العربي والإسلامي، متحديا عواطف العرب والمسلمين، وهم من حوله كالبحر الزاخر؛ ولتعلم اليهودية أن الحوادث قلب، وأن مصاير التأريخ ليست في يدها وأن هذا البحر قد يطغى يوماً فيغمر هذا الوطن القومي بما فيه ويصبح أثراً بعد عين.
والسياسة البريطانية لا يمكن أن يفوتها مثل هذا الاعتبار الخطير الذي تنوه به الصحف البريطانية؛ ولكن الظاهر أن عوامل أخرى على السياسة البريطانية تشددها نحو بحث المسألة الفلسطينية؛ فنحن نعرف أن السياسة البريطانية قد منيت بالفشل الذريع في محاولتها إحباط الغزوة الإيطالية للحبشة، وأن ظفر الاستعمار الفاشستي يثير اليوم في إنكلترا مخاوف خطيرة بالنسبة لمستقبل سيادتها في شرق أفريقية ووادي النيل، وكذلك بالنسبة لمواصلتها الإمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط؛ وتخشى إنكلترا أن تساهلها نحو أماني فلسطين - وفلسطين تعتبر قاعدة حيوية في مواصلاتها الإمبراطورية - قد يحمل على نوع من الضعف والتسليم ويعرض هيبتها الاستعمارية للانتقاض. وقد رأينا المندوب السامي في فلسطين يرد على مطالبة العرب بوقف الهجرة الصهيونية بإصدار تصريح جديد بمهاجرة أربعة آلاف وخمسمائة عائلة يهودية، متجاهلاً بذلك أن طغيان الهجرة من أهم أسباب الثورة القائمة. هذا إلى أن نفوذ اليهودية في إنكلترا يعمل عمله؛ وقد رأينا زعيم الصهيونية الدكتور ويزمان يسارع بالعودة إلى إنكلترا منذ بدء الثورة الفلسطينية؛ وقد كان لمساعي هذا الزعيم دائماً أثرها في موقف السياسة البريطانية نحو فلسطين ونحو رعاية الوطن القومي اليهودي.
على إن السياسة البريطانية لا يمكن أن تحتفظ طويلاً بهذا الموقف الشاذ؛ ففلسطين تقف اليوم موقف الحسم، وتصر على أن تبحث مطالبها وأمانيها بعين الإنصاف، ومن ورائها عطف الأمم العربية والإسلامية كلها؛ وإنكلترا تقدر بلا ريب مدى هذا العطف وآثاره؛ وبحث القضية الفلسطينية بروح الإنصاف لا يمكن أن يعتبر ضعفاً أو تسليماً كما يريد أن يفسره غلاة الاستعمار؛ أما الإصرار على تمكين اليهودية من أعناق فلسطين، ودفع الشعب الفلسطيني إلى منحدر التلاشي والفناء، والاكتفاء بإرسال لجان للتحقيق فسياسة خطرة؛ ولا ريب أنها تعرض مركز إنكلترا في الشرق الأدنى، وفي العالم الإسلامي كله لأشد الأخطار.
- * *