انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 152/للتأريخ السياسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 152/للتأريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 06 - 1936


3 - اليوم السابع من مارس ضربة مسرحية في برلين

للدكتور يوسف هيكل

المعاهدة الفرنسية الروسية ولوكارنو

رأينا كيف أن حكومة برلين قد اتخذت المعاهدة الفرنسية الروسية سبباً لرفضها معاهدة لوكارنو واتخاذها قرار 7 مارس. فهل النظرية الألمانية صحيحة من الوجهة الحقوقية؟ أي هل المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو؟. وقبل الإجابة على هذا السؤال يحسن بنا أن نعرض بإيجاز المحادثات الديبلوماسية التي أدت إلى عقد هذه المعاهدة:

لم يكن هدف فرنسا بادئ ذي بدء، إيجاد هذه المعاهدة، بل كانت الديبلوماسية الفرنسية ترمي إلى إيجاد (ميثاق شرقي) - لوكارنو الشرقية - بين بولونيا والروسيا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلطيق وفينلاندا. ولقد تم الاتفاق على هذه الخطة بين فرنسا وإنكلترا أثناء المحادثات السياسية التي دارت بينهما خلال 11و12 من يوليه 1934. وزيادة على ذلك قررت الدولتان أن تتحمل الروسيا واجبات معاهدة لوكارنو إزاء فرنسا وألمانيا، وأن تتعهد فرنسا نحو ألمانيا والروسيا، في حالة اعتداء إحداهما على الأخرى، بمساعدة المعتدى عليه، على أن تكون تلك المساعدة ضمن دائرة واجبات عصبة الأمم. وبعبارة أخرى أن تعقد معاهدة ثلاثية دفاعية بين فرنسا وألمانيا والروسيا، يكون مفعولها سائراً في حالة تعدي إحداهم على دولة ثانية داخلة في الميثاق، على أن تكون الواجبات الناشئة عنها متمشية مع واجبات لوكارنو والعصبة. وقد تعهدت الحكومة البريطانية بأن توصي هذه الدول ولا سيما بولونيا وألمانيا بقبول هذه الاقتراحات. غير أن سعيها قد خاب. وقد أبانت ألمانيا بصراحة بأنها تفضل (المعاهدات الثنائية) - بين أثنين - على المعاهدات المشتركة المبنية على (المساعدة المتبادلة) - وتم الاتفاق في الاجتماع الفرنسي الإنكليزي الذي عقد في لندن في 3 فبراير سنة 1935 على إنشاء معاهدة لوكارنو الجوية، وعلى متابعة المفاوضة مع ألمانيا للاتفاق معها على إنشاء السلام في أورب بواسطة عقد معاهدات بين دول شرقي أوربا توجب (المساعدة المتبادلة)

ولما زار السير جون سيمون برلين خلال شهر مارس التالي قدم إليه الهر هتلر معلومات عن المعاهدة الشرقية التي يحبذها مبنية على معاهدات عدم الهجوم الثنائية، ومضافاً إليها التحكم والمصالحة وعدم مساعدة المعتدي. وقد صرح الهر هتلر بأن حكومته لا تنظر بعين الرضى إلى المعاهدات المبنية على (المساعدة المتبادلة) ولا يمكنها بأي وجه من الوجوه الاشتراك في أي معاهدة من هذا النوع. وقد أعادت حكومة برلين هذا التصريح بوضوح أثناء انعقاد مؤتمر ستريزا. وعندما وقفت حكومة باريس على هذا التصريح وتيقنت بأن لا نجاح في إدماج برلين ضمن نظام سلام قائم على المساعدة المتبادلة رأت أن لا سبب هناك يعوقها عن عقد محالفة بينها وبين روسيا، لتساعد كل منهما الأخرى حين تعتدي ألمانيا على إحداهما

وبعد بضعة أيام قابل سفير بريطانيا في باريس مسيو لافال وأعلمه أن حكومة جلالته ترغب (بألا تمضي فرنسا أي معاهدة يمكن أن ترغمها على محاربة ألمانيا في ظروف لا يجيزها البند الثاني من معاهدة لوكارنو) فأجابه مسيو لافال بأن (الحكومة الفرنسية وضعت شرطاً أساسياً بأن المعاهدة الفرنسية الروسية يجب أن تكون متمشية ليس فقط مع مبادئ العصبة بل مع معاهدة لوكارنو أيضاً). وعلى هذا الأساس أُمضِيت هذه المعاهدة في 2 مارس سنة 1935، وأرسلت إلى البرلمان الفرنسي فوافق عليها

وجاء في خطاب الهر هتلر الذي ألقاه في 21 مايو أن الحكومة الألمانية (ستقوم بجميع الواجبات الناجمة عن معاهدة لوكارنو مادامت الدول الأخرى المشتركة في المعاهدة تريد القيام بها). وتبع هذا الخطاب مذكرة ادعت فيها حكومة برلين أن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو

وفي شهر يونيه دحضت الحكومة الفرنسية ادعاءات ألمانيا. وفي خلال شهر يوليه صرح السير صمويل هور وممثلا إيطاليا وبلجيكا بأنهم متفقون مع الحكومة الفرنسية على أن المعاهدة الفرنسية الروسية تتماشى مع لوكارنو

ولما رأت حكومة برلين أن دول لوكارنو على اتفاق تام، لم تستطع القيام إذ ذاك بأي عمل لتمزيق المعاهدة، بل أجلته إلى حين آخر، واكتفت بإرسال مذكرة إلى السير صمويل هور تقول فيها (بأنه ستكون مناسبات كافية لمناقشة هذه المسألة مع المفاوضات الأخرى المعلقة)

ولما وقع الخلاف بين دول لوكارنو من جراء اعتداء إيطاليا على الحبشة، وانشغلت فرنسا بانتخابات مجلس النواب؛ رأى الهر هتلر أن الفرصة سانحة، فأعلن في 7 مارس 1936 خروجه على لوكارنو واعتبارها لاغية، وعلل ذلك بأن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع لوكارنو، ودعم هذا القول بأدلة أربعة ضمنها المذكرة التي أرسلها إلى دول لوكارنو، وتنحصر في أن المعاهدة الجديدة: (1) موجهة رأساً ضد ألمانيا (2) وأن فرنسا بموجب معاهدتها مع الروسيا، تعهدت بالقيام بواجبات لا تتفق مع الواجبات التي يلقيها على عاتقها صك العصبة ومعاهدة لوكارنو

فالإدعاء الأول هو أن (المعاهدة الفرنسية الروسية موجهة رأساً ضد ألمانيا) صحيح، ولكن بالمعنى السلبي، أي الدفاعي

إن المعاهدة التي نحن بصددها تقول بأنها تصبح نافذة في حالة تعدي (دولة أوربية) على إحدى المتعاقدتين، وأن بروتوكولها يوضح بأن تنفيذ هذه المعاهدة يجب أن يكون فقط ضمن حدود (الاتفاق الثلاثي) الذي رفضت ألمانيا الموافقة عليه. وهذه النصوص تنفي مفعول المعاهدة في حالة اعتداء أي دولة غير أوربية أولاً، ثم تحصر مفعولها في حالة اعتداء ألمانيا فقط على إحدى الدولتين المتعاقدتين؛ فهي إذن موجهة ضد ألمانيا، ولكن يجب ألا يغرب عن الذهن بأنها لا تنفذ إلا حين تعدي ألمانيا على فرنسا أو الروسيا تعدياً غير محرض عليه؛ ونصها صريح في ذلك. والذين قاموا بعقدها يصرحون بذلك تصريحاً كافياً؛ فهي إذن من الوجهة القانونية والسياسية معاهدة دفاعية محضة، وبدهي أن لا خطر على ألمانيا من هذه المعاهدة إلا حين تعديها على إحدى الدولتين تعدياً غير محرض عليه. ولو كانت ألمانيا لا تفكر في أي تعد على أحديهما لما وجدت فيها تهديداً ولا خطراً عليها؛ وزد على ذلك بأن نص المعاهدة والبروتوكول يفسحان المجال لدخول ألمانيا فيها فتصبح معاهدة ثلاثية تضمن فيها فرنسا والروسيا الدفاع عن ألمانيا حين تعدي إحداهما عليها

ورداً على الإدعاء الثاني يمكن القول بأن (المساعدة المتبادلة التي تعهدت بها كل من الدولتين المتعاقدتين لا تصبح نافذة إلا حين وقوع إحداهما (ضحية هجوم غير محرض عليه)، (وبرغم نية البلادين الحسنة في المحافظة على السلام). وهذه المساعدة يوجبها أيضاً صك العصبة. أما في الحالة التي لم تستطيع فيها العصبة الوصول إلى قرار بالإجماع في إبانة الحق من الباطل في الاختلاف، فمساعدة فرنسا للروسيا والروسيا لفرنسا لا يكون إلا إذا وضح بأن ألمانيا كانت المعتدية تعدياً غير محرض عليه على إحدى الدولتين؛ وبرغم أن مساعدة فرنسا للروسيا في هذه الحالة لم تكن نتيجة قرار العصبة، فإن مبدأ العصبة يوجبها؛ إذ أن البند 7 من المادة 15 ينص على أنه في الحالات التي لا تتمكن فيها العصبة من إصدار توصيات أو الوصول إلى قرار بالإجماع، تصبح كل دولة طليقة اليدين، ويحق لها اتخاذ قرار فردي والعمل منفردة، ويظهر لنا أن كل ما جاء في المعاهدة الفرنسية الروسية التي أثارت ثائرة ألمانيا، ما هو إلا إيضاح وتثبيت لهذا المبدأ

على أنه في حالة القرار والعمل الفردي من جهة، وحين اعتداء ألمانيا على الروسيا من جهة ثانية، لا يحق للروسيا مطالبة فرنسا بمساعدتها (أوتوماتيكياً) بل لفرنسا الحق وحدها في التقرير فيما إذا كانت ألمانيا المعتدية الأولى. وهذا الحق يمكن فرنسا من النظر فيما إذا كانت مساعدتها للروسيا مخالفة للمعاهدات التي عقدتها قبلاً وخصوصاً معاهدة لوكارنو. والبند الثاني من هذه المعاهدة ينص على أن (محتويات هذه المعاهدة لا تنفذ في الحالات التي يكون تنفيذها يوجب وقوع عقاب دولي الصبغة من جراء تضاربها مع واجبات معاهدات، غير سرية، عقدتها إحدى الدولتين مع فريق ثالث). وينتج عن ذلك أنه لا حق لألمانيا (قبل تمزيقها للوكارنو) طلب مساعدة بريطانيا وإيطاليا فيما إذا هاجمتها فرنسا عملاً بمعاهدتها مع الروسيا، لأن هجوم فرنسا عليها داخل ضمن دائرة المادة 16 أو البند 7 من المادة (15) من صك العصبة

ولو قرضنا جدلاً بأن المعاهدة الفرنسية الروسية لا تتمشى مع معاهدة لوكارنو، فلا يمكن أن يعد هذا الأختلاف، بوجه من الوجوه، سبباً لإبطال معاهدة لوكارنو. والمسألة الوحيدة التي يمكن أن تنشأ عن التضارب بين المعاهدتين هي عدم قانونية المعاهدة الجديدة. وفي هذه الحالة لا يحق للحكومة الألمانية إلا الإدعاء بعدم قانونية المعاهدة الفرنسية الروسية، ورفع دعوى بذلك، وليس اعتبارها غير قانونية حسب رأيها ومشيئتها فحسب، لأنه لا يحق لأحد أن يكون قاضياً في دعواه

أما المبدأ الجديد في العلاقات الدولية الذي تبعه ويبشر به الهر هتلر وحكومته، فيقول بأن لا قيمة لأي معاهدة دولية مادامت تخالف مصالح إحدى الدول التي وقعت عليها، وأن لتلك الدولة المتضررة من المعاهدة الحق في تمزيقها وعدم اتباع موجباتها. وهذا المبدأ الجديد خطأ ومخالف لمبادئ الحقوق الدولية التي سارت عليها الدول حتى الآن، إذ تصبح الدولة المتضررة الحكم الوحيد في دعواها. وأن تنشر هذا المبدأ وعملت به الدول فمعنى ذلك القضاء على الحقوق والعدالة الدولية، وإقامة (حق القوة) مكانها فتزول العلاقات الدولية المبنية على قدسية المعاهدات وتحل مكانها الفوضى، وينتصر إله الحرب

يظهر من كل هذا أن فرنسا لم تأخذ على عاتقها في معاهدتها مع الروسيا واجبات تنافي الواجبات التي يفرضها عليها صك العصبة، وأن هذه المعاهدة تتمشى مع مبادئ العصبة ومعاهدة لوكارنو. ويتضح جلياً بأن عمل ألمانيا في 7 مارس ينافي الحقوق الدولية ويعتدي على قدسية المعاهدات منافاة تامة واعتداء صارخاً.

(لندن)

يوسف هيكل

دكتور في الحقوق