انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 151/للتاريخ السياسي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 151/للتاريخ السياسي:

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1936


2 - اليوم السابع من مارس ضربة مسرحية في برلين

للدكتور يوسف هيكل

في 28 فبراير نشرت جريدة (باري ميدي) حديثاً لمراسلها في برلين مع الهر هتلر، مبيناً فيه أن زعيم ألمانيا يود إزالة كل خلاف بين الجارتين وتوليد علاقات الود والألفة بين أعظم شعبين في أوروبا. وفي اليوم التالي، أي يوم السبت الموافق 29 فبراير، أرسلت حكومة باريس تعاليم إلى سفيرها في برلين، طالبة منه الإسراع في طلب مواجهة (المستشار الألماني) ورجائه في إبانة الطرق التي يعتقد أنها تزيل كل خلاف بين الشعبين الألماني والفرنسي، وإعلامه بأن حكومة باريس حريصة على إيجاد التفاهم بين الحكومتين

قام مسيو (فرنسوا بونسيه) بما عهد إليه. فقابله (المستشار هتلر) بحضور (فون نيرات) وزير الخارجية، وأجابه بأن الحكومة الألمانية باذلة جهدها في درس الموضوع بدقة، وقريباً تسلم إلى الحكومة الفرنسية اقتراحاتها. وقد طلب الهر هتلر بقاء هذه المحادثات سرية، تسهيلاً للوصول إلى الغاية، فقبلت حكومة باريس ما طلب، وظلت منتظرة خبراً من برلين، ولقد جاءها الخبر يوم السبت الموافق 7 مارس، وعندها أذاعت هذه المحادثات

وفي مساء الجمعة الموافق 6مارس أمر الهر هتلر باجتماع (الريشتاك) اجتماعاً فوق العادة؛ وفي الساعة 12 (في ألمانيا) من اليوم التالي وبحضور الوزراء وقف على منبر الخطابة وألقى خطاباً طويلاً ثم تلاه بقراءة المذكرة - التي سلمها فون نيرات إلى كل من سفراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا قبل إلقاء الهر هتلر خطابه بساعة، وقبل أن يترك منبر الخطابة أعلن أنه يحل (الريشتاك) ليتمكن الشعب الألماني من إبداء حكمه في أعماله وزملائه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة؛ وقد قرأ الجنرال (كيرنك) أمر الحل، وتعيين موعد الانتخابات في 29منه

وكان صوت زعيم ألمانيا قوياً وواضحاً، ولكن وجهه كان شاحباً، ودالاً على خطورة القرار الذي اتخذه، كما أن جوه الوزراء الصامتة والمفكرة، إذ ذاك، تفكيراً عميقاً وقلقاً، تظهر جلياً خطر الساعة وتخوفهم من العاقبة

وفحوى خطابه أن ألمانيا بلاد سلمية، تريد العيش بسلام مع جاراتها، غير أنها لا تقبل أن لا تكون متساوية وإياهم في الحقوق، وهي تريد نيل هذه المساواة والعمل مع الدول الأخرى على تقوية السلام، وأن حكومة برلين قد بذلت جهدها في التفاهم مع الدول الأوروبية، ولاسيما مع فرنسا؛ غير أن جهودها لم تقابل بحسن نية، بل قوبلت بالعمل ضد ألمانيا وحصرها، وكان آخر هذه الأعمال المعاهدة الفرنسية الروسية التي هي موجهة ضد ألمانيا، وقال:

(أنها لمأساة مروعة أن نرى في نهاية السنة التي بذلنا جهوداً شريفة خلالها لنيل ثقة الشعب الفرنسي، انعقاد تحالف حربي نعلم ابتداءه ولكن لا يمكن التنبؤ عن نهايته

(أن المحالفة الفرنسية الروسية لا تتفق مع معاهدة لوكارنو؛ وأن تلك المعاهدة تمكن إمبراطورية حربية عظيمة من تهديد أوروبا الوسطى عن طريق (التشيكوسلوفاكيا) التي عقدت مع الروسيا معاهدة مماثلة للمعاهدة الروسية الفرنسية

(أن روسيا السوفيتية دولة قائمة على مبادئ فلسفية ثورية، وأن إدخال هذه القوى الحربية الهائلة إلى أواسط أوروبا يهدم التوازن الدولي الأوروبي. . .)

ولم يذكر الهر هتلر مشكلة المستعمرات إلا عرضاً، وأبان بأن حلها سيكون عن طريق المفاوضات الودية، كي لا يثير الرأي العام البريطاني عليه، وقد بذل في سبيل نيل عطفه جهوداً أنتجت الثمر الذي يريده

وبينما كان الهر هتلر يلقي خطابه التاريخي، كانت الجيوش الألمانية تعبر أراضي الرين وتحتل في كولون، دسلدروف - وميتز وغيرها من مدن أراضي الرين

وقد اختلف في عدد هذه الجيوش، فهي ثلاثون ألفاً حسب التقرير الألماني، وتسعون ألفاً حسب التقرير الفرنسي، وما يقرب من ستين ألفاً حسب الرأي الإنكليزي

وجدير بالذكر أنه عندما أعلم الهر هتلر صباح السابع من شهر مارس، مسيو فرنسوا بونسيه بعزمه، أضاف باعتناء بأن احتلال أراضي الرين ما هو إلا رمزي. ولما ثار الرأي العام ولاسيما في فرنسا على التناقض الجلي بين قول زعيم ألمانيا وبين الواقع، أرسلت حكومة برلين، في 14مارس إلى لندن وباريس تصريحاً تقول فيه بأنه لا يوجد في أراضي الرين إلا (36. 500) ستة وثلاثون ألفاً وخمسمائة جندي. . . وإذا علم بأن عدد سكان هذا الإقليم يبلغ خمس عد سكان ألمانيا أي أربعة عشر مليوناً ونصف مليون، ومساحته ثمن مساحة ألمانيا، وفيه مدن كبيرة يظهر من عدد الجنود التي فيه بأن احتلاله لم يكن إلا رمزياً

وأعلنت ألمانيا في المذكرة التي قدمتها إلى دول لوكارنو الأربع بأنها غير مرتبطة بمعاهدة لوكارنو. وذكرت في صدرها الأسباب التي دعتها إلى اتخاذ هذا القرار وكلها مبنية على مناقضة المعاهدة الفرنسية الروسية للوكارنو، وتقول الحكومة النازية بأنه:

(1) لا جدال في أن المعاهدة الفرنسية الروسية موجهة خصيصاً ضد ألمانيا

(2) لا خلاف في أن فرنسا أخذت على عاتقها واجبات، في حالة حدوث اختلاف بين ألمانيا والروسيا تفوق الواجبات التي تضعها على عاتقها عصبة الأمم، وأنها - أي الواجبات - ترغم فرنسا على إشهار السلاح ضد ألمانيا، حتى في الحالة التي لا تستطيع فيها نيل موافقة عصبة الأمم أو قرار بذلك

(3) في مثل هذه الحالة تدعي فرنسا الحق في أن تقرر وحدها وحسب إرادتها من هو المعتدي -

(4) لا جدال في أن فرنسا قد أخذت على عاتقها واجبات نحو الروسيا توجب عليها العمل في بعض الظروف، كما لو كان ميثاق عصبة الأمم ومعاهدة لوكارنو، التي تستند على ذلك الميثاق غير موجودين

وتدعي المذكرة أن المعاهدة الفرنسية الروسية أوجدت حالة دولية جديدة، وأزالت النظام السياسي لمعاهدة لوكارنو في حرفه وفي معناه و (بالتالي فقدت لوكارنو السبب الذي من أجله أنشئت، وعملياً زال وجودها. ولذلك ترى ألمانيا أنها غير مرتبطة بهذه المعاهدة الملغاة)

وتنتهي هذه المذكرة بتقديم حكومة برلين إلى دول لوكارنو نظاماً سياسياً جديداً ليحل مكان معاهدة لوكارنو وليزيل الاضطرابات السياسية الدولية، ويولد - في رأي حكومة برلين - الثقة الدولية التي بدونها لا تتقدم المدنية ولا يستمر السلام. وأهم نقطة:

(أن الحكومة الألمانية تصرح بأنها مستعدة للتفاوض مع فرنسا وبلجيكا لإنشاء إقليم مشترك غير مسلح، وأنها توافق من الآن على مقدار امتداده ومساحته، على شرط المساواة القطعية في ذلك. والحكومة الألمانية تقترح إيجاد معاهدة عدم الاعتداء بينها وبين فرنسا وبلجيكا لمدة 25 سنة، وأن تكون بريطانيا وإيطاليا كفيلتين على ذلك

والحكومة الألمانية مستعدة لإمضاء معاهدة تمنع الهجوم الجوي الفجائي، ومعاهدة عدم الاعتداء مع جاراتها في الشرق كالمعاهدة التي عقدتها مع بولونيا

وبما أن حكومة برلين قد نالت المساواة في الحقوق وأقامت سيادتها القومية في البلاد الألمانية أجمع، فهي مستعدة للاشتراك في عصبة الأمم، وتأمل الوصول في وقت قريب، عن طريق المفاوضات الودية إلى المساواة في المستعمرات وفصل عصبة الأمم عن معاهدة فرساي)

وقد صرح مستر إيدن في مجلس العموم في 9 مارس أن السفير الألماني أعلمه بأن حكومته ما عرضت اشتراكها في عصبة الأمم إلا لتسر الإنكليز وترضي الرأي العام البريطاني!

تبع الضربة المسرحية في برلين اضطراب شديد في الدوائر السياسية. . . وكانت برلين في قلق شديد، تارة ترى أن عملها يذهب الثقة بعلاقاتها الدولية، وأن حوادث 7 مارس ستقرب فرنسا من بريطانيا، وتكون نتيجة ذلك الحصر الكامل لحكومة برلين والضربة القاضية على سياسة هتلر الخارجية؛ وتارة ترى أن الفرج قريب إذ لندن غير موافقة على اقتراحات باريس في تطبيق (العقوبات) عليها وإرغامها على سحب قواها الحربية من أراضي الرين. وقد أخذ رجال الحكومة النازية في إلقاء الخطب وتدبيج المقالات، وبعضها موجه إلى الشعب البريطاني للتقرب إليه ونيل عطفه، والبعض الآخر يهدد فرنسا إن هي لم تقبل منهاج هتلر وتسير عليه

وكان الهر هتلر في جميع خطبه يتودد إلى (الرأي العام) وخصوصاً البريطاني؛ وكان يوجه نداءه إلى (رجل الشارع) ويصرح بأنه يريد التفاهم الخالص مع فرنسا. . . وبأنه لا غاية لألمانيا إلا العيش بسلام مع جاراتها، وأن العمل الذي قامت به ما كان إلا لتحقيق سياسة دولية عملية مبنية على المساواة في الحقوق وعلى السلام في أوروبا، وإنعاش الاقتصاديات الدولية. .

ولما قامت الصحف الباريسية بإظهار سوء النية المطوي في منهاج الهر هتلر وفي أنه يريد السلام مع دول، والحرب مع دول أخرى. . . ولما سأل السير أوستن شمبرلين في مجلس العموم عما إذا كانت النمسا في الدول التي يريد الهر هتلر عقد محالفات (عدم الهجوم) معها، اضطر الهر هتلر إلى التصريح لمراسل جريدة لندنية بأنه مستعد لعقد معاهدات (عدم الهجوم) مع النمسا وكذلك مع تشيكوسلوفاكيا. . .

أما الجنرال كيرنك فكان يحمل علم التهديد، وقال في خطابه الذي ألقاه في فرنكفور في 17 مارس: ربما أثر التهديد (بالعقوبات) في ألمانيا عام 1932، ولكنه لا يؤثر على الشعب الذي تدرب طيلة السنوات الثلاث الأخيرة في مدرسة النازي، وإن استعمل الضغط الاقتصادي ضد ألمانيا فإنها تدعو الحزب النازي إلى المعركة القاسية التي تولد حماسة مقدسة وتشد عزم الشعب الألماني وتزيد قواه، وأن تهديد ألمانيا حربياً لا يثبط عزيمتها، بل هي تجيب على ذلك: (إنكم كنتم نياماً. أما ألمانيا فلم تكن نائمة) أنها قد تسلحت وأصبحت جد قوية، وهي لا تهاب شيئاً. . . وإن الذي يود تهديدها والاعتداء عليها سيدفع ألوفاً من الأرواح بدل كل (بوصة) من الأراضي الألمانية. . . ولا يحق لأحد غير الشعب الألماني أن يحكم فيما إذا كان عمل ألمانيا قانونياً أم لا (!!). إن ألمانيا قدمت خدمات جليلة للسلام، غير أن هناك أموراً لا يمكنها عملها: يجب أن تبقى الجيوش الألمانية في أراضي الرين

وكان الدكتور كبلس يساعده على رفع ذلك العلم، فحاول في الخطاب الذي ألقاه في 10 مارس في برلين مجيباً مسيو سارو الذي قال بأنه لا يمكن الاعتماد على المعاهدات التي تعقد مع ألمانيا، إقناع الرأي العام بأن ألمانيا تحترم إمضاءها وتحافظ على حرمة المعاهدات التي توقعها، ودليله على ذلك بأن ألمانيا محترمة معاهدتها مع بولونيا (!). وقال بأنه يجب على فرنسا أن تعتبر بدقة الحالة الراهنة، لا بالتشبث ببنود معاهدة لا يمكن للشعب الألماني احتمالها (!!)

ولقد خرج في كلامه عن اللياقة الدبلوماسية حين قال في خطابه الذي ألقاه في فرنكفور في 23 مارس: (إن ألمانيا ترفض العمل ضمن الدائرة السياسية القديمة. سياسة القطة التي تسير حول الحليب الساخن. إن الجيوش الألمانية قد احتلت أراضي الرين، فيجب أن تبقى هناك برمتها دون أن يسحب منها جندي واحد. . . وسترغم الأمم على المفاوضة مع ألمانيا حسب (اقتراحات الهر هتلر) خلال الأشهر القادمة، أرادت ذلك أو لم ترده. . . . . .

(لندن) (يتبع)

يوسف هيكل

دكتور في الحقوق