انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 151/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 151/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1936



هواجس

بقلم حبيب الزحلاوي

بقية ما نشر في العدد الماضي

أكثر ليلي الصيف في مصر مقتطعة من فراديس النعيم لعشاق اللهو والاستمتاع يا لله!! كم ليلة قضيناها على شواطئ النيل نستمتع بانسياب أمواهه الهادئة، نشاهد مثاوي الأشباح تحت ظلال النخيل، نراقب أنوار المدينة ونجوم السماء تتناقص وتنطفئ وتتلاشى على بساط الفجر وإشعاع الشمس

يا لله! كم ليلة سمعنا فيها أغاني أم كلثوم وصوتها العذب الحنون! وكم أصغينا إلى نشيج محمد عبد الوهاب وأنغامه المسترخية المستلينة، وكم لمسنا فيها تفاعل الإغماء والتماوت، لقد شهدنا على المسارح تمثيل القردة المقلدين واسترعى انتباهنا ممثل هزلي بارع، إحساسه في وجهه، وعقله في نظرات عينيه، وبراعة فنه في إيمآته وسكونه، هو ذا نجيب الريحاني المطبوع على الفن

كم ليلة فيها جسنا فيها حلقات الأدب، ومجالس العلماء، و (بعكوكة) الظرفاء وصالات المتأدبات، لقد كانت الرغبات هي كل شيء في عرف صديقتي أنيسة تدفعها إلى معرفة كل شيء، وكانت تقول: (متى انقطعت الرغبات انقطع حبل الحياة معها، وتجزم بأن من يتعمل قتل رغبات نفسه كان كمن يحاول الانتحار) كانت تعرف الرغبات الجوالة في صدور الساسة (بأنها تقدير لما تحتاج إليه النفس الإنسانية الكبيرة) وتقول: (لا خير في جهود تبذل إذا كان رجل السياسة يعجز عن إدراك رغبات مواطنيه وحاجاتهم) وقالت عن المصريين: (إنهم كشعب، يعرف جيداً كيف يفرح ويحقد، ولكنه لا يعرف أبداً كيف يغضب وينتقم) لقد قالت لي صديقتي عن مجالس النساء والرجال قولاً ظريفاً فيه مداعبة ومفاكهة، ولذعات وسخرية قالت: (إنه قد يعسر عليها إيجاد رجل واحد خليق بأن يسمى رجلاً بين مائة ممن لقيتهم من الأدباء والعلماء والكتاب والسياسيين، وأن المرأة المصرية ليست إلا أنثى)، وكانت تضحك من الشبان المستكرشين والصبايا المترهلات وتقول: (إن الرياضة تعلم الشباب الاعتداد بالذات)

شيطان صديقتي شيطان ذكر، نبت في الشرق وتمرد في أمريكا فصير صاحبته كعصير العنب المستقطر بالبيانسون فائدته في قتله بالماء، وهكذا متى عادت صديقتي إلى أمريكا سيتذوق الأمريكان خمرة معارفها ويستوعبون عمق وعيها وإدراكها وواسع اطلاعها، وقد مزجت ثقافتها الأمريكية بروح شرقي خاصته الإلهام والفيض

لقد عرفت نفسية صاحبتي تصغي إلى كل نأمة، تستوعب الكلمة والغرض، تلمح البادرة الخاطفة، تدرك مرامي النكتة، تقيد شوارد الفكرة وهمسات الفؤاد وسبحات الأحلام، تسمع ولا تتكلم كغالب السوريين، ولكنها متكلمة يطيب لها الحديث تحلل فيه ما سمعت وتنقد ما رأت، على ضوء كأس من الويسكي (كناديان) وسيجارة أمريكية لا تنطفئ من ماركة (لكي ستريك)

علقت الويسكي وأدمنت التدخين، فكانت تصدني عن الأول لو حاولت شرب كأس قبل الطعام، ولا تسمح به إلا بعيد منتصف الليل، لأنه يعاون الجسد على الاستغراق في النوم، وتستكثرني من التدخين، لأنه يجلي البصيرة على رقصات الدخان وتلاعب تموجاته

شهران من شهور الصيف كانت لياليهما لنا ريادة استكشفنا بها أشياء كثيرة، منها أغاني الرمال وأنغامها في الصحراء متى داعبها النسيم أو عصف الريح، جثوم أبي الهول عند أقدام الأهرام، هدير النيل في الشلال وعظمته في القناطر الخيرية، في غابات النخيل المتكاثفة في كثبان الرمل، وقد رأينا أشياء كثيرة في النهار من معالم مصر كقبور الفراعنة ومخلفاتهم الباقية على الدهر، والجوامع والأديرة والمدافن وسواها مما لم يحفزني حافز من قبل إلى مشاهدته

شهران كانا لي رياضة نفسية عجيبة كنت أتمرن في خلالها على الاستنباط من لوحة ذكريات الطفولة، صوراً بريئة أعرضها على مجهر خيالي وقد استفاق على المعرفة، والبحث عن المعلوم والمجهول. يا لله من اصطدام الطفولة البريئة بالرجولة المحنكة، من قوة العقل تكبح جماح طفرة النفس، من صعوبة سيادة الملكات الإنسانية المكتسبة على نزوات الطبيعة الوحشية، من همهمات ملائكة الضمير على وسوسة الشيطان الرجيم. . . . . .!! وقفت قبالة عربة القطار المقل لصديقتي أنيسة عبر حدود مصر وقفة سهوم وفتور، بل وقفة الكلف الولوع المكتوي الفؤاد، أخاف الفراق وأفرق منه لأني سأصبح مضطرب الخيال، فريسة الوحشة، يتيم الروح. ولما هم القطار متثاقلاً في حركته، كان الألم المكبوت يوشك على الانفجار، ولكنه تحول دموعاً انهمرت سخينة على يد صديقتي وقد قبلتها لأول وهلة

رفعت ذراعي ولوحت بها في الفضاء، غير أن الصور اختلطت علي وغاب القطار

من لي بمن يعبر عما كان يتجاوب في صدرها من حنان وحب؟ من لي بمن يعبر عن نظراتها هل كان يغشاها طيف حزين، أو هي فاترة ساهمة؟ من لي بأفاك يضحك مني فأصدق تقوله إنها استسلمت للأسى والمرارة كما استسلمت أنا، وأن أحلام سعادتها قد انتعشت من جديد كما انتعشت أحلام سعادتي بأمل ورجاء؟!

لا. . . . لم يعد بي حاجة إلى متقوّل يضحك مني إرضاء لضعفي الطارئ المستحب، لم تعد لي بالاستهواء الذاتي فائدة لأني قدرت، بعد انقضاء أيام من الألم المضني، أن البرزخ الفاصل بيننا متعذر العبور، ولكن شيئاً جديداً أعاد إليّ رجائي، أحيا فيّ أملي، لقد أخذت كتب صديقتي تصلني تباعاً كل أسبوع، في كل شهر، فيها التوضيح والتبسيط لكل خلجات عواطف المرأة التي تعرف كيف تعبر عنها تعبيراً صحيحاً في حالة الانغماس فيها أو في حالة القدرة على وصفها بالكتابة، أما الفصول القيمة التي كانت تنشرها في المجلة الأمريكية ففيها من التفصيل الدقيق لذاتية الأديب الفنان الذي يتخذ من المشاهدات الواقعية والذاتية ومن الخلجات العاطفية أداة للخلق والابتداع

صارت خطاباتها على مر السنين مصدر وحي لي فياض بخصائص الحياة وعناصر الرغبة فيها، كنت أستلهم سطورها أدق المعاني وأبرع التصورات، وأشعر بسحرها يغشاني فتشرق نفسي لأنه كان كنغمات بعيدة عميقة لصوت حالم طروب حملها الأثير من جوف وادي الظلام!! إلا أنه حدث ما لم أكن أتوقعه، حدث أن جاءني كتاب منها تقول فيه أن أكف عن مراسلتها كما أنها ستنقطع عنها ريثما تعالج من مرض ألم بها في إحدى المصحات وتدعوني إلى الصلاة لأجلها، أو أبكيها بدمعة واحدة إذا استنزف الداء حيويتها!!

عام طويل أجوف كأنه دهر من العدم حاق بي من كل جانب كنت فيه كالمشلول خولط في عقله، لا هو من الأحياء فينفع ولا هو بميت فيدفن. أما الآن فحمداً لله، فقد كتبت لي صديقتي تقول إنها استعادت عافيتها وبرئت من علتها فتخلصت أنا من التأرجح بين العدم والوجود، وشفيت من تقلبات النفس وانفعالاتها العكسية. . .

وانتصب واقفاً وقال: لقد دعوتكم الليلة يا رفاق صباي وعشراء كهولتي لأفضي إليكم بما كان بي من هواجس، وأعترف لكم اعتراف المثقل بالفرح، فهيا نشرب كأساً من الشمبانيا تبرد اليد المتقدة الممسكة بقلبي منذ عام، وقد أفلت من مقابضها اليوم

لم يتقدم واحد للشراب بل قال قائل: هل لمثلك وقد جاوزت الخمسين من عمرك أن يستغرقك الحب ويرديك في مهاويه؟ وقال آخر: ليس ما كان بك هو الحب، إنما هو أنانية أشعلت نارها امرأة مكبوتة حساسة عاشت على الحنين إلى الماضي في بيئة غريبة عنها. وقال الثالث: إن ما كان بك يا عزيزي هو حرمان أخرس حلت الفرحة المفاجئة عقلة لسانه فصرخ صرخة الوداع!!

وقال الرابع: لقد أنطقتك الخمر بما كان يجب السكوت عليه، وتبخرت اعترافاتك هذه نشوة سوف لا تلقاها بعد الآن. وعاد الأول فقال: لقد كان الخيال البعيد يشعرك بالذكرى المفقودة فكنت تتعمد إثبات وجودها بكأس كنت تشربها في وقت معين، وبسيجارة كانت تصور لك مرائي الماضي الضائع، وتخيلات تلك الليالي الهاربة من أجواء أحلام الشعراء، أما الليلة فقد بددت كل شيء، بددت كنز وجدانك، لأن رجل الحياة هو الذي يحب ويتعذب ويموت فلا يشتكي ولا يبكي، وقال آخر وهو يلوح بيديه ويلوي عنقه وشفته: ما هو الحب؟ أليس هو. . . أليس هو؟؟؟

لا. لا يا أصدقائي، ليس الأمر كما تتوهمون، ليس الحب ما تقول أنت يا صديقي، وأشار إلى المتكلم الأخير، إنما هو شعور بالحياة ووسيلة فعالة تصقل المدارك فتجعلها تتبصر وتتفقه المعاني لجمال الحياة، لا بد للرجل الحي من شعور سام بالحياة، فالحياة نفسها تسعد بالحب السامي. إن ما تمنحه المرأة للرجل عفو النزوة الطارئة أو الرغبة الطائشة أو المتعة الخاطفة إنما هي منحة متبذل يضع احترامه تحت أقدام الرجل. الحرمان لرجل الشهوة شواظ كومة قش مشتعلة، وللمرأة المسؤولة حنان مدفون لذيذ وعطف دائم، مستحب. الحرمان للرجل المثقف إنما هو مراء ومشاهد، وأنغام وألحان، أطياف وظلال لخيالات المثل العليا التي تتخيلها روحه العظيمة وشاعريته الحساسة التي تلد وتنجب وتخلق وتبتكر

إن حقيقة بواعث ذلك الحب إنما هي بذرة الغريزة ألقتها الطفولة البريئة اعتباطاً عندما استبدلت الرمانة بتفاحة ودست صورة العذراء في محفظة الكتب، وقد أنتجت على كر السنين تقارباً يضارع انحدار الكهل في سلم الحياة ليلاقي الطفولة من طرفه الآخر، وهذا الانحدار يشبه طرفي قوس يتقابلان، ولا يتقاربان ويتماسان إلا إذا انكسرت القوس!!؟

انطلقت حنجرة أحد السامعين بضحكة كبيرة وقهقهة عالية كأنها صوت حجر الطاحون وقال: فلسفة مخمورة وهواجس سكرى هي ما تقوله أيها الصديق. ولله إني لأعجب من تخبطكم جميعاً في الحب وتكلفكم ابتداع صور له تشوه وجهه الحقيقي، الحب أيها السكارى نداء جنسي. الحب أيها المتفلسفون تجاوب غريزي لنداء الجنس. وإن كل ما تختلقه خيالاتكم وتبتدعه عقولكم إنما هو وصف مبرقع لحقيقة العلاقة الجنسية التي تأنف من البراقع

حبيب الزحلاوي