مجلة الرسالة/العدد 150/من روائع عصر الأحياء
مجلة الرسالة/العدد 150/من روائع عصر الأحياء
قصص الأيام العشرة
بقلم جوفاني بوكاشيو
للأستاذ محمد عبد الله عنان
من أثار عصر الأحياء الخالدة قصص بوكاشيو الشهيرة المسماة (ديكا أمروني). وقد مضى على ظهور هذا الأثر الرائع زهاء ستة قرون؛ بيد أنه ما زال حتى عصرنا يحتفظ بروعته وسمو خياله وفنه، وما زال يتبوأ مكانه بين الآثار العالمية الخالدة
وقد أوحت إلى بوكاشيو كتابة أثره حوادث مروعة شهدها وهزت نفسه إلى الأعماق، فأذكت خياله، وانتزعت من قلمه تلك القصص الساحرة التي تصور لنا كثيراً من العصر وخلاله أصدق تمثيل وأمتعه
كتبها بوكاشيو وأشباح الفناء تحتشد من حوله، والموت الذريع يقطف أزاهير المجتمع من كل الطبقات والأعمار؛ والتمس بكتابتها عزاء لنفسه وعزاء لمجتمعه عما نزل به من أهوال الفناء، ولتكون باعثاً إلى النسيان والمرح. وكان بوكاشيو يومئذ في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، في ذروة الفتوة والنضج، فجاءت هذه القصص أروع آثاره، وعنوان مجده، واتخذت مكانها بين أعظم آثار عصر الأحياء
ولد جوفاني بوكاشيو في سنة 1313 م في باريس من أب إيطالي وأم فرنسية، ونشأ في فلورنس موطن أسرته، وتلقى فيها تربيته، وشغف منذ حداثته بالشعر والأدب، وتأثر أيما تأثير بشعر فرجيل؛ وكان أول آثاره قصة غرامية عنوانها (فيا ميتا) وهي فتاة حسناء يظن أنها تمثل فتاة حقيقية هام بها بوكاشيو، وأظهرها في شخص فيا ميتا، والمظنون أيضاً أنه يصف حبيبته هذه في شخص بطلة قصته الأخرى (فلسكوبو). وتجول بوكاشيو في المدن الإيطالية، وعاش حيناً في نابل، في عهد ملكها روبورتو وملكتها الفتية الحسناء جوفانا (جنه)، واتصل ببلاطها الساطع النحل معا، وكتب فيها بعض قصائده وقصصه، ومنذ سنة 1342 نراه يستقر مع أسرته في فلورنس، ويحاول أن يفوز بمنصب في الحكومة أو مركز أدبي يعيش منه؛ وقد لفتت كفاياته الحكومة غير بعيد، فأوفدته سفيراً إلى حكومة (رومانيا) في سنة 1346، ولكنه اضطر بعد ذلك بنحو عام إلى العودة إلى فلورنس على أثر موت أبيه ليعنى بشؤون أسرته، واشترى بمعظم ميراثه كتباً لاتينية ويونانية، وانقطع للكتابة والتأليف
ولم يمض قليل على ذلك حتى نكبت إيطاليا وفلورنس ونكب العالم بأسره بتلك الكارثة العظمى التي تعرف في الرواية الغربية بالوباء الأكبر، وفي الرواية الإسلامية باسم مماثل هو (الفناء الكبير)، ذلك أن الفناء الكبير قد اجتاح أمم المشرق والمغرب معاً، وحمل منها إلى القبر عشرات الملايين، وعصف بجميع المجتمعات الزاهرة أيما عصف؛ وبسط على العالم المتمدن كله ريحاً من الرهبة والروع؛ وقد شهد بوكاشيو أحداث الوباء في فلورنس منذ بدئها، وترك لنا عنها وصفاً مروعاً مؤثراً؛ واليك ما يقوله في أصل الوباء وأعراضه:
(أنه في سنة 1348 ميلادية حل الوباء الفاتك بمدينة فلورنس الزاهرة، أجمل المدن الإيطالية، بعد أن لبث قبل ذلك بأعوام يعصف بالمشرق، إما لتفاعل الكواكب والأجرام، وإما لغضب الله الحق لما يرتكبه عباده من الخطايا، ولأنه أرسل إليهم صواعق عقابه، فعصف بكتل من البشر لا حصر لها؛ وانتقل الوباء مسرعاً من مكان إلى مكان حتى حل بالغرب يحمل الفزع والروع. . . وكانت أعراضه سواء بالنسبة للرجال أو النساء، فيظهر أولاً في شكل أورام تصيب الإبط أو أسفل البطن ثم تنتشر في جميع أجزاء الجسم، ثم تتحول إلى بقع سوداء أو ممتقعة تملأ الذراعين والفخذين، ثم سائر أعضاء الجسم؛ وكان المصاب يموت عادة في اليوم الثالث دون حمى ودون مضاعفات أخرى)
واجتاح هذا (الفناء الكبير) أمم الشرق والغرب معاً، فعاث في الأمم الإسلامية أيما عيث؛ وعصف بمجتمعاتها الغنية الآهلة، وسرى إلى جميع الأمم الأوربية، وبسط عليها رهبة الدمار والموت، وحمل من سكانها نحو الثلث في أشهر قلائل؛ وكان فتكه أشد ظهوراً، وأعمق أثراً في مجتمعات إيطاليا، وبخاصة في فلورنس التي كانت تتمتع يومئذ بحضارة زاهرة؛ وهنالك أفنى جيوشاً برمتها، وأهلك عدداً كبيراً من الأمراء والعظماء والقادة، ويقول لنا بوكاشيو إنه استطال هنالك من مارس إلى يونيه سنة 1348، وحمل من فلورنس وحدها مائة ألف إنسان)
ويصف لنا بوكاشيو أهوال الوباء ومناظره المروعة وصفاً ضافياً مؤثراً، فيقول: (كان الناس يجتنبون بعضهم بعضاً، وقلما يتزاور الأقارب أو لا يتزاورون أبداً؛ وألقت الكارثة الرعب في قلوب الناس جميعاً، رجالاً ونساء، حتى أن الأخ كان ينبذ أخاه نبذ النواة، والأخت أخاها، والمرأة زوجها؛ بل أروع وأبعد عن التصديق أن الأباء والأمهات أضربوا عن رؤية الأبناء أو تعهدهم، كأنما ليسوا من ذويهم)
(بل لقد هجر الناس الجيران والأقارب والخدم حتى اضطروا إلى ارتكاب عادات لم يسمع بها، من ذلك أن المرأة مهما كانت من الجمال أو النبل، إذا أصابها مرض واضطرت إلى استخدام رجل، شيخا كان أو شابا، فإنها تكشف له دون خجل كل أجزاء جسمها إذا اضطرتها ظروف المرض، وربما كان ذلك هو السبب في انحلال الحشمة والحياء عند أولئك اللائى نجون)
ثم يقول: (وكان يعنى بدفن الناس بادئ ذي بدء، فيلقى بهم دون احتفال في أول مقبرة؛ فلما اشتد الوباء، كان الموتى يحملون جماعات، ويلقون في الطرق؛ وقد تموت أسر برمتها فلا يبقى منها إنسان؛ وأزواج وآباء معا، ويلقى الجميع بلا تمييز في حفر كبيرة)
تلك هي الأحداث والمناظر المروعة التي أذكت خيال بوكاشيو، وأوحت إليه كتابة أعظم آثاره، وهيأت له في نفس الوقت ذلك الأفق المعنوي الحر الذي جرى في ظله قلمه، ويلخص لنا بوكاشيو غايته من تأليف ذلك الأثر في قوله: (ولقد رأيت ترويحاً للسيدات العاشقات وتعزيتهن - وتكفي في ذلك لغيرهن الإبرة والمغزل - أن أقص مائة خرافه أو ما شئت أن تسميها)
ثم يقول: (ومن ذا الذي ينكر أن الأفضل أن نقدم ذلك العزاء للسيدات العاشقات لا للرجال العاشقين؟ ذلك أن السيدات العاشقات يفضن خجلاً وخوفا؛ ويرغمن على إخفاء جوى الحب في صدورهن، وتحملهن رغبات الآباء والأمهات، والأخوة والأزواج، وأهواؤهم وأوامرهم، على أن يقضين معظم أوقاتهن معتقلات في غرفهن الضيقة، فيجلسن عاطلات ويستعرضن في أذهانهن أفكارا مختلفة لا يمكن أن تكون مرحة أو سارة)
وكتب بوكاشيو قصصه الساحرة في ذلك الأفق الذي تعمره أشباح الفناء، والناس ينظرون إلى الحياة كأنها لعب طائر، ويودعون بعضهم بعضاً، واختار لكتابه هيكلا طريفاً خلاصته، أنه في ذات يوم ثلاثاء، وعصف الوباء في أشده، اجتمع في كنيسة القديسة (ماريا نوفيلا) في فلورنس، سبع فتيات هن بامبنيا، وفياميتا، وفيلومينا، وأميليا، ولوريتا، ونفيلي، وأليزا؛ وكانت أكبرهن بامبنيا في الثامنة والعشرين، وأصغرهن أليزا في الثامنة عشرة، واقترحت بامبينا أن يغادرن المدينة فراراً من الوباء والموت أسوة بأصدقائهن؛ فاعترضت فيلومينا، وقالت إن النساء ينقصهن التفكير السليم، ويغلب عليهن التقلب والشك والخور، ولذا وجب عليهن أن يخترن مرشدا؛ فأيدت قولها أليزا وقالت إن الرجال هم أصحاب الرشاد والنصح، واقترحت أن يستدعين بعض رجال يقومون بالإرشاد
وفي تلك اللحظة يدخل الكنيسة ثلاثة فتيان، أصغرهم يناهز الخامسة والعشرين، وهم بانفيلو، وفيلوستراتو، وديونيو، وكان من غرائب الاتفاق أن كلا منهم كان يعشق إحدى الفتيات السبع، وأنهم جميعاً أقارب للأربع الباقيات، فأشارت إليهن بامبينا، وقالت إن العناية تحقق أمنيتهن بحضور أولئك الفتية الكرماء الأمناء، فاعترضت نيفيلي، وكانت حبيبة أحدهم، خشية الافتضاح، وناقشتها فيلومينا مؤيدة بامبنيا؛ فغلب رأيها واستدعي الفتيان الثلاثة، واتفق الجميع على ارتياد قصر خاص، ومعهم الخدم وكل ما يحتاجون إليه، وهنالك يقيمون حتى ينصرف الوباء؛ وفي صباح اليوم التالي ذهب الجميع إلى هذا المحل المختار، وهنالك اتخذوا مجلسهم تحت الأشجار الظليلة على أرائك وثيرة، وأمامهم الأطعمة والأشربة الشهية، وجعلوا يترددون بين الطعام والسباحة في بركة صغيرة بالقصر؛ وهنالك أيضاً بدءوا سرد القصص
وكانت صاحبة الفكرة بامبنيا، فقد اقترحت أن ينتخب أحدهم حاكما للمجلس كل يوم، وأن يضطلع في هذا اليوم بتدبير شؤون الجماعة وتسليتهم؛ وتولت هي منصب الملكة في اليوم الأول، واقترحت لتسلية الجماعة أن يقص كل منهم قصة، وأن يختتم واحد منهم بإنشاد أنشودة؛ فوافق الجميع متحمسين؛ واستثنى الجماعة من أيام الأسبوع اثنين، يوم الجمعة، ويوم السبت، وخصصا للراحة والتجمل والصلاة؛ وعلى ذلك أصبحت أيام القصص عشرة خلال أسبوعين، وفي كل يوم تقص عشر قصص، فالمجموع مائة قصة؛ هي محتويات مجموعة بوكاشيو الشهيرة، وهى التي يسميها (ديكا مروني) وهي كلمة مؤلفة من مقطوعين يونانيين ومعناها (الأيام العشرة)
هذا هو التمهيد الذي يقدم به بوكاشيو لمجموعته، وهو تمهيد يمتاز ببساطته وطرافته، ويدلي بكثير من روح العصر؛ لقد كان المجتمع الذي كتب فيه بوكاشيو قصصه يعيش من يومه إلى غده؛ وكان بوكاشيو نفسه يجوز هذه الحياة؛ وكان يملأ هذا الفراغ المتصدع بالتجوال في عوالم الخيال الممتع، وكان يرى أن يقدم ثمرة هذا التجوال إلى إخوانه في المجتمع، أولئك الذين يرون أشباح الفناء ماثلة في كل آونة وفي كل مكان
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان