انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 15/في الأدب المصري القديم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 15/في الأدب المصري القديم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 08 - 1933



النيل والحضارة المصرية (ملخص فصل من كتاب)

للأستاذ (آ. موريه)

كان المصريون أصحاب ألسنة لا تعرف الملل في النطق، على أن ما جاءنا من آثارهم الأدبية هو ثروة قليلة بالنسبة إلى ثمار شعب يحكي عنه منذ أربعة آلاف عام، وفي هذه الأعمار التاريخية قامت مآثر أدبية تختلف صفاتها الاجتماعية والطبيعية. والأدب كما هو في مصر وغير مصر، مرآة تتمثل فيها الحياة الاجتماعية.

نشأت المآثر الأولى في (الدولة القديمة) مصحوبة بأدب ديني صرف مقيد بتعاليم الكهنة، وهذا الأدب هو النصوص الجليلة والآثار المعروفة (بموضوعات الأهرام) والتي تحفظ كثيرا من التاريخ القديم، والديانة القديمة، والحركة العقلية، والجزء الثاني منها هو عبارة عن نصوص منقوشة على حجارة، وحكم هذا الأدب حكم الزخرفة وبقية الفنون، لم يكن المراد منه الا تزيين الهياكل والقبور، ومن الواجب أن يكون خاضعا حتى في مظهره الخارجي لهيئة العمارة، وفي قبور (ممفيس) فصول شعبية لا يتلاءم أسلوبها الحر مع الطقوس والتقاليد، وهذه الفصول الخرافية تطلعنا على اللهجة العامية؛ بل تكاد توحي لنا عن نفسية الشعب. . . .

هذه أغنية قديمة للراعي الذي يسوق قطيعه بين أتلاع الأرض ناثرا بذوره

(الراعي هو في الماء مع الأسماك يتناجى مع (صنف من السمك) ويتبادل التحيات مع (صنف من السمك) يا مغرب من أين جاء الراعي؟ انه من بلاد المغرب)

وهنالك مقطوعة مرفوعة لأوزيريس الملقى في النهر. وقد هشمته الأسماك، وأجزاؤه المتناثرة على الأرض قد أخصبت تلاع الأرض. والذين يحملون، على أكتافهم، الأسياد الضخام؛ يخففون من أتعابهم بأنشادهم.

(إن حاملي الهودج هم في سرور

ولأن يكون الهودج ملآن خير من أن يكون فارغاً)

وعصر ثان تفتح في عهد الثورة الاجتماعية بين المملكة القديمة والمملكة الوسطى. فازدهرت الفصاحة فيه أيما ازدهار، وترك الأدب الديني محلا للأدب الاجتماعي، فانقضى عصر الأدب الحجري وأصبح يدون منه شيء على ورق البردي، وبهذا خفف الفكر عنه بانعتاقه من السجن الحجري. فأصبح كل شيء يدعو إلى الملاحظة، ويغري بالتأمل، وأصبحت العقول المثقفة تشعر بالضيق وتحس بالشك واليأس، والشعب تدفعه عوامل الرغبة إلى المعرفة واللذة، نشوان بنجاح جرأته، وكما يكون الأمر في كل ثورة، تصطدم الحركة العقلية بالقوة الجارفة، فلا يكاد يجد العقل متسعا ولا فراغا للإنتاج، على أنه برغم ذلك قام بعض متأملين معتزلين وألقوا بذورا مثمرة في هذا المجتمع يوم ثورته. وفي عهد ملوك (هيراكليوبوليس) دوَّن المصريون (تعاليم للملك مريكارا) وهجاء الضائع، وأنين الفلاح. وكلها مرايا تنعكس فيها الحالة السياسية التي شرحناها من قبل. وفي العهد نفسه نشأت موضوعات مختلفة (أيام الفوضى) وضعها أصحابها على لسان حكيم هرم أو كاهن، وشكاوي طرحها (مبغض للبشرية) بينه وبين نفسه، وفي كل هذا نرى الشعور الديني قد ضعف شأنه، وهنالك حيث تحطم النظام الاجتماعي الاول نرى التعاليم الاعتقادية قد تقوضت ووهن تأثيرها في النفوس.

في الأسرة الثانية عشرة على أثر الانعتاق من الروابط السحرية التي تلت عصر الثورة، حل شيء من الثقة في النظام، وأصبح المجتمع تسيطر عليه شرائع عادلة، والأدب الجديد الديني المنقوش على الصفائح والتوابيت، وعلى ورق البردي كان يعمل على إنماء الخواطر التي تدفع بالإنسان الفاضل إلى التلذذ بالنعيم الإلهي في العالم الثاني. وفي هذا العصر ازدهرت مدرسة أدبية عنيت بتهذيب اللغة وتنقيح الأسلوب، ونحن مدينون لأصحابه بقصص لطيفة منها (سيروت) و (الغريق) وهذه قصة حادثية تحوي أهواء مسافر طرحته المقادير في صحراء، أو ساقته إلى بحار مجهولة. وهنالك مشروع ساعد على تهذيب موظفي الحكومة وتثقيفهم، فنشأ من كل ذلك موضوعات وصفية وعاطفية وقصصية تؤلف أدب ذلك العصر كله، بل الأدب (الكلاسيكي) لمصر القديمة

والأدب، في الدولة الحديثة، فاض معينه، وتوثبت أمواجه إلى شواطئ حرة، وأساليب غير مقيدة. والدولة الحديثة قد حطمت قيودها وفتحت لنفسها ينابيع جديدة (للتحسس) حتى أصبحت الفنون في عهد (العماونه) عالمية.

والأدب الحديث حطم قيود المدرسة الأدبية واستطاع أن يدخل على لغته المختارة بساطة اللغة العامية. ولم يكن من طريق الاتفاق ما رأيناه في كتابات (ايكوناتون) لأول مرة من التطورات الصرفية والنحوية التي طغت على الأسلوب الخاص ولهجة الشعب بما فيها، وأدخلت (أداة التعريف وأفعال المساعدة، والبناء الصرفي (أو الاشتقاق). والقصص الصغيرة التي كتبت للأطفال خير مثال لنا، والأدب الديني نفسه قد تطور وتشذب ليدنو من أدب الشعب وروحه: وأغاني (آمون) الذائعة الصيت تبث بسلامة قلب محبة الخلائق المتواضعة.

بعض نصائح أخلاقية من تعاليم (آتي):

يقول: (ضاعف الخبز الذي تحمله لأمك، واحمله لها كما حملته لك، عندما ولدت وبعد ولادتك بشهور، حملتك على حضنها، وثلاثة أعوام ظل ثديها يدر في فمك، فلم يأخذها سأم منك ولم تقل لنفسها يوما: لماذا أصنع هكذا؟ قادتك إلى الكتاب وبينما أنت تتعلم الكتابة كانت تنقل لك من بيتها خبزا ونبيذا. وغدا إذا صرت كبيرا وصار لك امرأة، ووجب عليك تدبير منزلك فأرجع بصرك إلى العصر الذي كنت فيه طفلا على حضن أمك يوم لم تصخب عليك ولم تبسط يدها لله الذي لم يسمع لها أنينا. . .)

ثم يذكر الأخلاقي علاقة الرجل مع المرأة فيقول:

(احترس من المرأة الأجنبية المجهولة في مدينتها، هي كالماء الواسع العميق لا يدري ما تحت أعماقه

واحذر المرأة التي يغيب بعلها، وتتصدى لك كل يوم قائلة لك (إنني جميلة) ليس هنالك من شهود، ولكن الخطيئة عظيمة جدير صاحبها بالموت إذا فشت!)

خليل هنداوي

-