مجلة الرسالة/العدد 15/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
مجلة الرسالة/العدد 15/بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وبينما قامت الدولة الإسلامية ثابتة وطيدة الدعائم، وقامت في جميع أقطار الخلافة حكومات محلية قوية ومجتمعات إسلامية مستنيرة، وجيوش غازية منظمة، إذا بمجتمع القبائل الجرمانية غزاة رومة من الشمال ما يزال إذا استثنينا مملكة الفرنج على حالته من البداوة والتجوال والتفرق. وكان الفرنج هم قادة القبائل الجرمانية في هذا الصراع الذي نشب في سهول فرنسا وآذن طوره الحاسم بعبور المسلمين إلى فرنسا في ربيع سنة 732، وكان سيل الفتح الإسلامي ينذر باجتياح فرنسا منذ عشرين عاما أعني مذ عبر المسلمون جبال البرنيه بقيادة موسى بن نصير لأول مرة واستولوا على سبتمانيا ثم اقتحموا بعد ذلك وادي الرون واكوتين أكثر من مرة. ولكن مملكة الفرنج كانت يومئذ تشغل بالمعارك الداخلية وتقتتل حول السلطان والرياسة حتى ظفر كارل مارتل بمنصب محافظ القصر، وأتفق أعواما أخرى في توطيد سلطانه؛ بينما كان خصمه ومنافسه أودو أمير أكوتين يتلقى وحده ضربات العرب. فلما استفحل خطر الفتح الإسلامي وانساب نحو الشمال حتى بورجونيا منذ ولاية الهيثم فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية في أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها.
وكان الخطر داهما حقيقيا في تلك المرة لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ في أكبر جيش حشد وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح. وكان على رأس الجيش الإسلامي قائد وافر الهمة والشجاعة والبراعة هو عبد الرحمن الغافقي وهو أعظم جندي مسلم عبر البرنيه. وكان قد ظهر ببراعته في القيادة منذ موقعة تولوشة حيث استطاع إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح والارتداد إلى سبتمانيا. وتبالغ الرواية الفرنجية في تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة. وهو قول ظاهر المبالغة. وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب إلى الحقيقة والمعقول. بل لقد أثارت هذه الغزوة الإسلامية الشهيرة وهذا الجيش الفخم خيال الشاعر الأوربي الحديث، فنرى الشاعر الإنجليزي سوذي يقول في منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط: (جمع لا يحصى، من شام وبربر وعرب وروم خوارج. وفرس وقبط وتتر عصبة واحدة. يجمعها إيمان هائم راسخ الفتوة. وحمية مضطرمة واخوة مروعة. ولم يك الزعماء أقل ثقة بالنصر. وقد شمخوا بطول ظفر. يهيمون بتلك القوة الجارفة التي أيقنوا أنها كما اندفعت حيثما كانوا بلا منازع ستندفع ظافرة إلى الأمام حتى يصبح الغرب المغلوب كالشرق. يطأطيء الرأس إجلالاً لاسم محمد. وينهض الحاج من أقاصي المنجمد. ليطأ بأقدام الإيمان الرمال المحرقة. المنتثرة فوق صحراء العرب وأراضي مكة الصلدة)
ونفذ عبد الرحمن في جيشه الزاخر إلى فرنسا كما قدمنا في ربيع سنة 732م (أوائل سنة 114هـ) واقتحم وادي الرون وولاية اكوتين وشتت قوى الدوق أودوا طبق ما أسلفنا، وأشرف بعد هذا السير الباهر على ضفاف اللوار. وتقول بعض الروايات الكنسية أن أودو هو الذي استدعى عبد الرحمن إلى فرنسا ليعاونه على محاربة خصمه (كارل مارتل). ولكن هذه الرواية مردودة غير معقولة لما قدمنا من أن أودو هو الذي بادر إلى مقاومة عبد الرحمن ورده، وكانت مملكته وعاصمته أول غنم للمسلمين. وكان ملك الفرنج يومئذ تيودريك الرابع، ولكن ملوك الفرنج كانوا في ذلك العصر أشباحا قائمة فقط. وكان محافظ القصر كارل مارتل هو الملك الحقيقي يستأثر بكل سلطة حقيقية وعليه يقع عبء الدفاع عن ملكه وأمته، وكان منذ استفحل خطر الفتح الإسلامي يتخذ أهبته ويحشد قواه، ولكن عبد الرحمن نفذ إلى قلب فرنسا قبل أن يتحرك للقائه. وترد الرواية الإسلامية هذا البطء إلى خطة مرسومة مقصودة فتقول في هذا الموطن (فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارله وهذه سمة لملوكهم، فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الاعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتو من مغربها استولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد يجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم. فقال لهم ما معناه: الرأي عندي ألا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فانهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر) ونستطيع أيضا أن نعلل تمهل كارل مارتل بقصده إلى ترك خصمه ومنافسه أودو دون غوث حتى يقضي المسلمون على ملكه وسلطانه فيتخلص بذلك من منافسته ومناوأته.
وعلى أي حال فان عبد الرحمن كان قد اقتحم أكرتين وجنوب فرنسا كله، حينما تأهب كارك مارتل للسير إلى لقائه. وجاء الدوق أودو بعد ضياع ملكه وتمزيق قواته يطلب الغوث والنجدة من خصمه القديم أعني كارل مارتل. وكان كارل قد حشد جيشا ضخما من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة والعصابات المرتزقة فيما وراء الرين يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجله جند غير نظاميين نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية. وسار زعيم الفرنجة في هذا الجيش الجرار نحو الجنوب لملاقاة العرب في حمى الهضاب والربى حتى يفاجئ العدو في مراكزه قبل أن يستكمل الأهبة لرده. وكان الجيش الإسلامي قد اجتاح عندئذ جميع أراضي أكوتين التي تقابل اليوم من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبريجور وسانتونج وبواتو. وأشرف بعد سيره المظفر على مروج نهر اللوار الجنوبية حيثما يلتقي بثلاثة من فروعه هي (الكريز) (والفيين) (والكلين)
ومن الصعب أن نعين بالتحقيق مكان ذلك اللقاء الحاسم في تاريخ الشرق والغرب والإسلام والنصرانية. ولكن المتفق عليه انه هو السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور حول نهري (كلين) (وفيين) فرعي اللوار على مقربة من مدينة تور. والرواية الإسلامية مقلة موجزة في الكلام عن تلك الموقعة العظيمة وليس فيها لدينا من المصادر العربية عنها أي تفصيل شامل. وإنما وردت تفاصيل للرواية الإسلامية عن الموقعة نقلها إلينا المؤرخ الأسباني كوندي سنعود إليها بعد. وتفيض الرواية الفرنجية والكنسية بالعكس في حوادث الموقعة وتقدم إلينا عنها تفاصيل شائقة ولكن يحفها الريب وتنقصها الدقة التاريخية. وقد رأينا أن نجمل وصف الموقعة أولا بما لدينا من أقوال الروايتين ثم نورد كلتيهما بعدئذ بتفاصيلها.
انتهى الجيش الإسلامي في زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور كما قدما، واستولى المسلمون على بواتييه ونهبوها وأحرقوا كنيستها الشهيرة، ثم هجموا على مدينة تور الواقعة على ضفة اللوار اليسرى واستولوا عليها وخربوا كنيستها أيضا. وفي ذلك الحين كان جيش الفرنج قد انتهى إلى اللوار دون أن يشعر المسلمون بمقدمه بادئ بدء، وأخطأت الطلائع الإسلامية تقدير عدده وعدته. فلما أراد عبد الرحمن أن يقتحم اللوار لملاقاة العدو على ضفته اليمنى فاجأه كارل مارتل بجموعه الجرارة. وألفى عبد الرحمن جيش الفرنج يفوقه في الكثرة فارتد من ضفاف النهر ثانية إلى السهل الواقع بين تور وبواتيه. وعبر كارل مارتل اللوار غرب تور وعسكر بجيشه إلى يسار الجيش الإسلامي بأميال قليلة بين نهري كلين وفيين فرعي اللوار.