مجلة الرسالة/العدد 146/من عبر السيرة
مجلة الرسالة/العدد 146/من عبر السيرة
محمد الوالد
إن في الحزن القوي عزاء الجزع الضعيف
تخطفت المنايا السود فلذات الرسول بنات بعد بنين، فلم يبق إلا فاطمة قرة لعينه وعزاء لنفسه. وكانت جراحات القلب العظيم لا تجد لمسها الممض فراغاً بين آلام الرسالة فتندمل في سكون وصمت. فلما عنتْ سُورة الشرك في مكة، وعلت كلمة الله في الجزيرة، وتحققت وحدة العرب في الوجود، وأخذت نفحات السلام الإلهي تنضح الجو المشتعل بالنار، وتطهر الثرى المخضوب بالدم، تنبهت في الإنسان الأعلى مشاعر الطبيعة، وتجددت في العربي الرسول عواطف الأبوة، وحزّ في نفس محمد أن يرى أمهات المؤمنين يعقمن عشرة أعوام متتابعة، فبيوتهن التسعة حول المسجد المهلل الذاكر غرقى في السكون الرهيب والصمت الموحش، لا يؤنس حجراتها غناء المهد، ولا يبهج أفنيتها مرح الطفولة
لا ريب أن أسرة محمد الرسول شملت جزيرة العرب كلها، وستشمل عالم الإسلام أجمع؛ ولكن أسرة محمد الرجل لا تزال ألماً من آلام العبقرية، ومحنة من محن البطولة. تدرع باسم الله وبرز وحده لشياطين الأرض، فجاهد الوثنية حتى أقر الحق، وعالج الإنسانية حتى أعلن الخير، وشذب الطبيعة حتى أنمى الجمال، وبلغ الرسالة حتى لم يبق لرضى الله غاية لم تدرك، ولا لصلاح الناس سبيل لم تشترع. ولكنه هدف للستين في جهاد الشرك والجهل والهوى، ولا يزال يجد في جوانب نفسه الكبيرة عاطفة لم تُرضَ، وحاجة لم تُقض، ورسالة لم تتم! تلك هي عاطفة القلب للولد، وحاجة النفس إلى التجدد، ورسالة الحياة إلى الحياة
بين ظلال النخل والكرْم، وفي بيت المصري على العالية من ضواحي المدينة، أتم الله نعمته على رسوله فوهب له على الكبر إبراهيم! يومئذ تنفس الصبح بأنفاس الفردوس، وضاحكت الشمس خمائل يثرب من خلال الأجنحة النيرة، ومست يد الربيع المخصبة دوحة النبوة، وغرقت نفوس المؤمنين في مثل صفاء الخلد، وأقبل المهاجرون والأنصار على المسجد المستبشر يهنئون النبي بالخليفة الوليد والأمل الجديد والعوض المبارك؛ ونهض الرسول الوالد إلى بيت مارية القبطية ليرى نعمة ربه، وبضعة كبده، فوجد ف طلعة إبراهيم الأنس الذي يعوزه، والرضى الذي يرجوه، والخلف الذي يتمثله؛ ففاضت غبطته لله حمداً، وعلى المؤمنين بركة، وفي الفقراء صدقة. رفع أمه إلى مقام أزواجه، ونفح مرضعته بسبع من المعزى سمان يحلبن عليها وعليه، ثم عقَّ له بكبشين أملحين، وتصدق بزنة شعره فضة؛ وتعودّ كل صباح أن يزور أم ولده فيحمله منها ليضمه ويشمه، ويتذوق طعم السعادة الأرضية في ريحه، ويطالع نفسه العائدة في نفسه، ثم يدخل به على الأمهات اللائى ولدن جميع المسلمين ولم يلدن، فيباهي بحسنه، ويغتبط بنموه، ويحتمل راضياً في سبيل ذلك كله غيرة حُميرائه وكيد نسائه
ولكن أنبياء الله موضع بلائه وسر حكمته! دعوتهم الحق والحق ثقيل، وعدتهم الصبر والصبر كليل، وبرهانهم الألم والألم قاتل! غرباء في الأرض لأنهم من السماء، وأغراض لسهام القدر لأنهم ضحايا، وأمثلة لبؤس العيش لأنهم عِبر! هذا إبراهيم حبة قلب أبيه وسواد عين أمه مسبوتاً على فراش المرض تحت النخيل! تذوي نضارته على وهج الحمى، وتذوب حشاشته على عَرْك الموت، وأمه وخالته قائمتان على سريره تشهدان منظراً يهون في جانبه على الوالدين الجنون والكفر والعدم! وهذا أبو إبراهيم يضعضعه النبأ المروع فيتحامل على عبد الرحمن بن عوف، ويمشي ثقيل الخطى لهيف الفؤاد، إلى الصغير المحتضر! لو كان لمتاع العيش غناء لتقلب فيه المؤمن، ولو كان لقانون الموت استثناء لأفلت منه المصلح، ولو كان في قلب الثاكل المحزون شبهة لجلتها محنة الله لرسوله!
أخذ النبي إبراهيم من حجر أمه فوضعه في حجره، ثم نظر من خلال الدمع إلى قسماته المشرقة تغشاها ظلال الموت، وقال بصوت متهدج وفؤاد متأجج واستسلام مطمئن: (إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئاً)
يا لله لقلوب الوالدين! إن النبي الذي ولد في مهد اليُتم، ودرج في حجر العُدم، وتقسمت عمره عوادي الخطوب، فكابد أذى قريش وحقد المنافقين وكيد اليهود، وعالج مكاره الدعوة من القلة والذلة والهزيمة والفتنة، وقد احتمل كل ذلك بصبر المجاهد ويقين المؤمن وعزم الرسول، ويصيبه الله في إبراهيم وهو رضيع فيرفض عنه الصبر، ويتملكه الجزع، ويقف من الثكل الأليم موقف كل والد يرى جزءه الجديد يبلى، ورجاءه الناشئ يخيب، ثم يقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، وإنا بعدك يا إبراهيم لمحزونون: أما والله لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنّا عليك بأشد من هذا!) وينال من الصحابة حزن الرسول فيتقدمون إليه يذكرونه ما نهى عنه فيقول: (ما عن الحزن نهيت! وإنما نهيت عن العويل. وإن ترون بي أثرُ ما بالقلب من محبة ورحمة، ومن لم يُبد الرحمة لا يبدي غيره عليه الرحمة)
على أن حزن الرسل لا يكون إلا بمقدار ما فيهم من ضعف الإنسان. لذلك لم يلبث الرسول أن عاد إلى نفسه فصلى على ولده، وسوى عليه القبر بيده، ثم رش فوقه الماء وأعلم عليه علامة وقال: (إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملاً أحب الله أن يتقنه)
تعزيت يا رسول الله لأن الألم سبيل من سبل دعوتك، والعزاء أصل من أصول دينك، والأرض وما عليها أهون من دمعك. والسماء وما فيها ثواب لصبرك، ولكن ماذا يصنع البائس المحزون إذا فقد الرجاء، وليس له في يومه صبر ولا في غده عزاء؟
أحمد حسن الزيات