مجلة الرسالة/العدد 146/مصر تحمي الإسلام والمدنية في عين جالوت
مجلة الرسالة/العدد 146/مصر تحمي الإسلام والمدنية في عين جالوت
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
استهل القرن السابع الهجري (وذلك في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي) وقد ترامى إلى القاهرة نبأ النضال الدموي الذي ثار في الشرق فيما بين نهري سيحون وجيحون بين جنود التتار وبين جنود الملك محمد خوارزم شاه؛ وكان المسلمون إلى ذلك العهد لا يعرفون للتتار دولة ذات خطر، فإنهم إنما كانوا يعرفون قوماً من البدو يعيشون في فيافي الشرق التي تمتد إلى اكناف الصين طالما حاربتهم جيوش المسلمين فلم يجدوا في بلادهم مطمعاً، إذ كان هؤلاء الحفاة كلما أوقع بهم جند الإسلام وقعة لاذوا بكبد الصحراء يضربون فيها ويبعدون فلا يجد قواد المسلمين لهم مدنا ولا ريفاً، ولا يستطيعون أن يقبضوا منهم على ناصية. فإذا القرن السابع الهجري يحمل معه اجتماعا عجيباً لهؤلاء التتار لم يسبق له مثيل إلا في أحوال نادرة، إذ قد نبغ من بينهم الزعيم الداهية (ثيموجين) الذي يعرفه التاريخ باسم (جنكيز خان)، فوحد لهم دولة وأقام لهم ملكا بعد أحداث يطول بنا وصفها لو تعرضنا لذكرها. وما كان لهذا الحدث أن يكون له ذلك الأثر البالغ في تاريخ الإسلام والمدينة لولا ما لابسه من ظروف العصر وما كانت عليه حال الدولة الإسلامية المتاخمة للتتار. فلو كانت الدولة الإسلامية في عصمة هارون أو المأمون، أو لو كانت في قيادة المعتصم أو المتوكل، لما زاد الأمر على قيام دولة تترية تلمع حيناً كما يلمع الشهاب ثم يندثر، فكانت تجتمع لهم كلمة وينبسط لهم سلطان على من في فيافي التركستان وما يليها من الكرج والديلم، ثم تمضي تلك الدولة الناشئة بعد حين كأن لم تكن، ويسدل عليها التاريخ ستاراً كثيفاً، وتحجب ذكراها وراء الكثبان المترامية البعيدة
غير أن مجرى التاريخ في هذه المرة قد اتجه اتجاهاً لا يزال ماثلا في أذهان الإنسانية؛ ومازالت أصداء اجتماع التتار على زعامة جنكيز خان تتردد إلى اليوم في الأقطار جميعها شرقيها وغربيها؛ ومازالت آثار ذلك العهد تنعب فوق أطلال بخارى وسمرقند ومرو، بل مازالت جاثمة فوق بغداد العظيمة يشهد العالم منها إلى اليوم كيف يقوض التخريب أسس المدينة التليدة، وكيف تذهب كنوز القرون ومخلفات الأجيال على يد الهمجية بين عشية وضحاها. وما اتخذ التاريخ ذلك المجرى إلا لسبب واحد، قد يبدو صغيرا ضئيلا لا خط له. غير أن أجل حوادث التاريخ طالما نبعت من أمثال هذا السبب الصغير
كان الجزء الشرقي من العالم الإسلامي يئن من حكم طائفة من الأمراء قد وثبوا إلى الحكم وهم أشبه شيء بقطاع الطرق يثبون على غنيمة آمنة في قافلة عزلاء غريرة. وإنك إذا تدبرت الأمر كله في تاريخ الإسلام لم تجد نكبة أصابت المسلمين إلا كانت آتية من مثل هؤلاء الأمراء المفسدين. تراهم وقد حكموا البلاد لكي يبتزوا ثرواتها لا لكي يقوموا بواجب الحكم فيها، وتراهم يبطشون بالناس بطش الأسد بالصيد لا يعاقبون أحداً لأنه أساء، بل لأنه تنفس بكلمة حق، أو فرج عن نفسه بأنة مصدور. وتراهم قد أحاطوا أنفسهم بشراذم من جنود مرتزقة، لا هم لها إلا أن تشترك في الغنيمة، فهي تساعد الطغيان على أن يطغى، وتشترك معه بأن تستعلي في الأرض وتطغى، وهؤلاء الملوك وأولئك الجنود لا حد لاستعلائهم مادامت مسألة الحكم مقصورة على ضبط الرعية العزلاء؛ فإذا ما جد الجد، واحتاج الأمر إلى الحماة كانوا أحرص الناس على الحياة، وأخوفهم من التعرض لبلاء الجهاد ومحنة الجلاد
ولقد كان محمد شاه خوارزم أحد هؤلاء الطغاة المستكبرين الضعفاء. كان أشد الناس بطشاً وأحدهم شوكة في سيرته مع الأفراد والضعفاء، وكان من أحرص الأمراء على الثروة والسلطان مادام لا يعالج إلا شعبه المسكين، فقد سلط عليه طوائف أعوانه فكسروا أنوفه، وخضدوا شوكته، وأذلوا نفوسه؛ وقد أراد القضاء أن يتعدى أذاه إلى طائفة من تجار التتار كانوا قد جاءوا إلى بلاده مسالمين في تجارة فأوقع بهم ونهب متاعهم، فاستجار هؤلاء بصاحبهم، وكان عند ذلك (جنكيز)، فرأى من واجبه أن ينصرهم، فبدأ من ذلك الاصطدام الذي أعقب الدمار والبلاء ببلاد المسلمين
لم يشهد التاريخ مثل ذلك الصراع الذي بدأ عند ذلك بين التتار والمسلمين. فتيار أتىّ من جموع الهمج يصدم هيكل الدولة القديمة المبجلة، فإذا بذلك الهيكل يصدع عند اللمس وينهار بعد قليل. حتى أن التتار أنفسهم ترددوا حيناً ووقفوا مبهوتين لا يكادون يصدقون أنهم قد هدموا ذلك الهيكل الهائل، ولكن الهيكل لم يكن سوى جدار أجوف قد نخره الظلم واستل منه الحياة
لم يثبت الأمراء الطغاة إلا مقدار لطمة قصيرة المدة ثم عرفوا أنهم لا يستطيعون أن يرعبوا عدوهم كما كانوا يرعبون رعيتهم، ولن يقدروا على تحطيمه كما كانوا يحطمون أهل بلادهم، ومنذ تحققوا ذلك طارت نفوسهم خوفاً، وغلب الحرص كل غرائزهم فقلبوا الفكر في مصيرهم، وعرضوا ما كان منهم وما يكون. أتذهب عنهم أموالهم، ويضيع سلطانهم، ويضطرون إلى مقاساة الأهوال في الدفاع والنضال؟ أيقاسمون اليوم رعيتهم ضيق الحياة وضنك العيش في القتال؟ أينزلون عن السعة والعزة والمنعة في سبيل دفاع المستميت؟ أيمدون أيديهم إلى الرعية أن هلمي إلى صف واحد نبذل فيه الحياة معا فنحيا حياة كراما أو نموت وقد أعذرنا؟ ثم جالت بخيالهم ذكريات ما سبق لهم أن أجرموا، وما كان لهم في الحكم من السيئات، وعادوا إلى أنفسهم يسائلونها: أيستطيعون اليوم أن يقفوا مع الرعية كتفا إلى كتف؟ وهل يجدون من أنفسهم الجرأة على أن يخاطبوها خطاب الأنداد الأكفاء؟ أيستطيعون أن يستنهضوها لبذل المال والنفس في سبيل الخلاص من العدو المخيف؟ وهل يستطيعون أن يخيفوا الناس من عدوهم المقبل وقد كانوا بالأمس لا يجندون الجنود إلا لكي يحكموهم بالقسر والعسف؟ جالت هذه الأفكار في رؤوسهم وهم مترددون بين الثبات والانهزام، وبين النضال والهرب فخذلتهم قلوبهم إذ رأوا أن الرعية التي آذوها بالأمس لن تجيب نداءهم لو نادوا. ولن تخلص لهم اليوم بعدما نالها من شرهم وطغيانهم؛ ولئن أجابت الرعية وتناست كل ما كان، أبقيت فيها بقية للنضال؟ إن ظلم القرون إذا أفلح في إزالة القلوب الحرة الأدبية التي تنفر من الظلم، وتأبى الاستعباد، فقد أفلح كذلك في إماتة الرجولة والنخوة، وأحال الناس إلى لأشباح مرتعدة خوارة لا تستطيع شيئا في الدفاع ولا تغني غناء في النضال. فلن يستطيع شعب أذهب الطغيان إباءه وعصف بنخوته أن يصمد في نضال البقاء في الحياة
ولم يستطع محمد شاه خوارزم عند ذلك إلا أن يعمد للهروب بما استطاع استخلاصه من أمواله وذخائره التي استلبها من دماء رعاياه وابتزها من عرق كدهم، ودموع أعينهم، ورجفة العراة منهم والجائعين، وبقى الناس بعد أن هرب ذلك الطاغي وهم كالغنم المبعثرة إذا دهمتها الذئاب، وقد هرب عنها الرعاة الجبناء. فلنسدل الستار عن نضال غير متعادل بين الشاة والذئب، ولنغمض العين عن منظر شعب من شيوخ أهل علم، وشبان أهل تجارة، وكهول أهل صناعة، ومن عمال فقراء لا يملكون ما يسدون به الرمق وزراع لا دراية لهم بشيء بعد المحراث والفأس، وهم يخرجون ألوفا إلى خارج المدن والقرى، لا يدرون كيف يفعلون، ولا أنى يتجهون، فلا تكون إلا ساعات حتى يحصدهم العدو حصداً، أو يحصد بعضهم بعضا في فزع حرب لا عهد لهم بها. لا بل إنهم كانوا يستسلمون كما يستسلم الدجاج ليذبح واحدة بعد واحدة، وهي تستسلم للهلاك خوفا من رهبة الدفاع عن أنفسها
لقد سلبهم الطغاة ما كان فيهم من رجولة بالعسف المتواصل جيلاً بعد جيل، وبالخنوع والإذلال يتوارثونه ابنا عن أب عن جد. ألا فليحمل الطغاة وزر هذه المخازي، ولتلطخ ذكراهم بإثم هذه المجازر لا براءة لأحد منهم منذ بدأ الحجاج جريمته في تذليل الأمة الإسلامية لحكم الطغيان. وترامت أنباء هذه المجازر إلى مصر فلم تجد من نفسها فراغاً إلى أن تملأ آذانها بها إذ كانت تناضل نضال الأبطال في دفاع الصليبين عن أرضها. إذ بينا كانت مذابح التتار تفتك بالمسلمين فيما بين نهري سيحون وجيجون، كان الصليبيون يفدون ألوفاً مؤلفة إلى شواطئ مصر يريدون أن يرموا بفتحها قلب دولة الإسلام. وكان بمصر بقية الدولة الأيوبية، فكان ملوكها يردون من ذلك الفتح موجة بعد موجة، فالملك الكامل يدفع حملة دمياط الأولى، والملك الصالح يقف لجيش فرنسا وحلفائها ويموت وهو في ميدان الحرب فيخلفه ابنه الملك طوران شاه فيقضي على جيش لويس التاسع، ويتم الفتح بأسر الملك الصليبي المتحمس. وهكذا علمت مصر دول أوربا أنها لن تكون هينة في النضال إذا شاءوا نضالاً
ولما تنفست مصر من حملات الصليبين راعها ما سمعت من دوي التخريب في مدن الشرق، وكان قد علا وصار مرعباً فظيعا. وكان أعلى ذك الدوي ما جاء من بغداد إذ فتح هولاكو عاصمة الخلافة وألحقها بالخراب الذي خلفه جده بين سيحون وجيجون، وسمع من بمصر أن خزائن العلم وآثار المدنية في دار السلام قد صارت كلها أثراً بعد عين، وأن دولة الإسلام العظيمة قد تحطمت وانهارت كأنها لم تكن من قبل ملاذ الحضارة والفن والعز منذ قرون. فاختلط في نفسها الحزن على مجد الإسلام الضائع والخوف من أن ينالها من ذلك التيار المدمر ما نال سائر معاقل الإسلام
واندفع التيار المدمر بعد اجتياح بغداد فسار في سبيله إلى الغرب حتى بلغ الشام، وكانت قلاعها عند ذلك عواصم الحدود للدولة المصرية الكبرى التي ورثت دولة بني أيوب وهي دولة الأتراك المماليك
وكان صدى أنباء تلك الغارة في مصر غير صداها في سائر الأقطار، فإن صوت التتار الذي أفزع العالم الإسلامي فأخرجه عن رشده وأفقده إرادته وجعل أهله يستسلمون للموت لا يكادون يحركون يداً، لم يزد على أنه أثار حفيظة أهل مصر، وحملهم على الاستعداد للنضال. وذلك أن مصر لم تكن كسائر البلاد الإسلامية فإنها لم تفقد كرامتها ولا رجولتها. ولم تنس معنى العزة والإباء. حقا لقد كان يحكمها أمراء من الترك، وكان قبل ذلك يحكمها بنو أيوب والفاطميون وغيرهم، ولكن هؤلاء لم يكونوا في يوم من الأيام إلا حكاما يقومون بخدمة الجماعة. ولم تزل مصر على توالي المحن عليها سيدة أمرها والمسيطرة على قانونها وحقوقها. ولو كان الأمر عند ذلك أمر جيش وسلطان لانتهى النضال على ما انتهى إليه نضال ملوك الشرق وجيوشهم؛ فنضال مصر مع التتار كان نضال أمة بأسرها محسة بوجودها، شاعرة بما يجب عليها أن تبذله وأن تدبره؛ وإن شئت مصداق ذلك فهاهو ذا وصف مجلس حربي اجتمع عند ذلك لينظر في أمر التتار والاستعداد لملاقاتهم
كان في ذلك المجلس ممثلوا الشعب المصري وأهل الرأي فيه من مشايخ العلماء وأئمة القانون. كما كان فيه كبار الأمراء والحكام والأعيان. وكان سلطان الوقت شابا غرا جاهلا وهو علي بن معز الدين أيبك. فتذاكر المجلس غارة العدو وما تحتاج إليه البلاد من وسائل الدفاع من مال وجند، وما لابد من بذله من مجهود جامع شامل، فكان أول ما نظروا فيه أن تساءلوا: هل السلطان للبلاد أم هي البلاد التي للسلطان؟ وهل يليق بنا في مثل هذا الوقت أن نفيم شابا غراً جاهلاً يتصرف في شؤون الدولة لا لشيء إلا لأنه ابن السلطان الذي حكم من قبل؟ ولم تطل بهم المناقشة في ذلك فاختاروا رجلاً من أكبر قواد العصر فأقاموه سلطانا بدل ذلك الصبي الصغير ودلوا بذلك على أن نظر مصر إنما هو لمصالح الدولة، وإنها إنما تختار حكامها ليقوموا بواجبهم لها لا ليكونوا سادة متحكمين فيها. ثم نظروا بعد ذلك فيما يجب جمعه من المال للاستعداد للحرب، فلنسمع الآن قول أحد مشايخ مصر وهو الشيخ عز الدين ابن عبد السلام لنعلم منه كيف كان يخاطب نواب المصريين قادة الحرب في بلادهم، وهل كانوا يرونهم سادة أم خداما: قام ذلك الشيخ الجليل عند ذلك فقال شيئا مثل هذا: (لقد جئتم أيها القواد والأمراء من بلادكم جنوداً صغاراً لا تملكون شيئاً، بل كنتم مملوكين أرقاء. ولقد صارت لكم أموال وعقارات، وأصبحت في أيديكم النعم الجزيلة والخيول المطهمة، والجواهر والحلي التي لا يستطاع تقدير قيمتها. فهلموا فابذلوا كل ما عندكم من تلك الأموال حتى إذا ما صرتم كالناس لا تملكون إلا ما يملكه أوساطهم، كان الواجب على الأمة أن تبذل كل ما تملك في سبيل الجهاد من ورائكم. وليست العامة بمعزل عن الحرب ولا هي مترددة في خوض غماره. فهلموا! اسألوا سهول فارسكور عن الألوف من أهل الريف الذين حاربوا الفرنج، وأبلوا في حربهم أحسن البلاء. وهلموا فنادوا أن النفير عام تجدوا الناس جميعا عند ندائكم مسارعين إلى الجهاد والنضال)
ولقد انفض ذلك المجلس على اتفاق وثيق، فخلع السلطان علي ونودي بالسلطان الجديد: الملك المظفر قطز، ونودي على الناس جميعا أن النفير عام إلى الغزو في سبيل الله
وهكذا كانت الحركة حركة مصر، والجهاد جهادها لا جهاد أمرائها
وخرج السلطان بموكبه في أواخر شعبان سنة ثمان وخمسين وستمائة، وبلغ الشام في رمضان ونزل على جانب الأردن في أواخر شهر الصيام
وكان إلى جانب وهدة الأردن واد من الوديان الكثيرة التي تهبط من جبال فلسطين أو تلالها، تخرج فيه عين من مرتفع لا يزيد علوه على مائتي متر وتسمى عين جالوت، وذلك الوادي على مقربة من بيسان التي اشتهرت بابنها النجيب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني. وقد اجتمع جند مصر عند ذلك الوادي، آتيا من علايات فلسطين. وكان جند التتار قد توافوا في وهدته آتين من دمشق بعد أن جروا عليها ذيل تخريبهم وتدميرهم
وجال التتار في السهل وهم يتضاحكون ويمرحون، ينظرون إلى جنود مصر بلباسهم الزاهي، وسلاحهم الثمين، وحليتهم الرائعة، ولعلهم كانوا إذ ذاك يقول بعضهم لبعض: هاهي ذي غنيمة لم يسبق لنا عهد بمثلها، ولا عجب فهي كنوز مصر
واجتمع جند مصر من أتراك وعرب، وبرزوا على عادتهم صفوفا من الفرسان لا تكاد ترى فيها ميلا ولا عوجا، كل فارس منهم على فرسه كالجبل الراسي إذا تحرك، فكأنما إرادة واحدة تتحرك، فالفرسان إذا تحركت فهي خيل مقبلة، والخيل إذا أقبلت فهي فرسان مهاجمة، وانتظم السلك فإذا الجيش سلسلة تطوق جوانب الوادي، أعلاها نحاس براق وحديد صقيل، وأسفلها حوافر الخيل المتوثبة تضرب الأرض وهي قلقة إلى النضال؛ ثم دقت الكؤوس، وأمر القائد بالهجوم، فإذا بهذه السلسلة المستوية تنحدر إلى الوادي صاخبة داوية راعدة، ولكنها مع ذلك متماسكة مستوية حتى بلغت الجانب الآخر من الوادي، وكانت جموع التتار عنده تنتظر الهجوم لتجد عنده النصر الذي اعتادته في مصافها؛ واهتزت صفوف السلسلة المستوية عند الاصطدام كما تهتز الأسطوانة الطاحنة إذا صدمها حجر صلد؛ غير أنها لم تقف وأبطأ سيرها وخفت جريتها؛ ولكنها لم تنشعب ولم ترتد
وعلت قعقعة الحديد، واختلطت ضجة الأصوات، وارتمى البعض عن البعض، وتدحرجت الأجزاء عن الأجزاء
وكانت ساعة تشيب لهولها الولدان؛ ثم ازدادت سرعة السلسلة كأنها قد اجتاحت العقبة التي عاقت سبيلها؛ واندفع جيش مصر مرة أخرى وراء فلول منهزمة من التتار تجري فزعة في غير نظام نحو بيسان في أسفل الوادي
فلقد حطمت الجيوش المصرية جموع التتار المخيفة لأول مرة في تاريخها منذ خرجت على العالم تذيقه العذاب والويل؛ وكانت وقفة مصر في عين جالوت حماية للإسلام والمدنية والإنسانية
محمد فريد أبو حديد