انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 146/على أبواب المدينة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 146/على أبواب المدينة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1936



ثنّية الوداع

للأستاذ على الطنطاوي

مضت ساعة كاملة، ونحن نعالج السيارة لنخرجها من الرمل، نرفعها طوراً بالآلة الرافعة وطوراً بأيدينا، ونزيح الرمال من طريقها، ثم نمدّ لها ألواح الخشب لتمشي عليها، ونجرها بالحبال، وندفعها بالأيدي حتى إذا سال منا العرق، ونال منا التعب مشت على الألواح، حتى إذا وصلت إلى نهايتها، عادت فغاصت في الرمال إلى الأبواب. . . . . .

فأيسنا وبلغ منا الجهد، وهدّنا الجوع والتعب والحرّ والعطش، فألقينا بأنفاسنا على الرمل صامتين مطرقين، حيارى قانطين

وتلفتّ فلم أر إلا الرمال المحرقة، تمتد إلى حيث لا يدرك البصر، متشابهة المناظر، متماثلة المشاهد. . .

في مَهمهٍ تشابهت أرجاؤه، كأن لون أرضه سماؤه، فرحت أفكر في هذه السبعة عشر يوماً، وما قاسينا فيها من الجزع والتعب والجوع والعطش، وأتصور الغد الرهيب الذي ينفد فيه ماؤنا وزادنا، ويلفحنا فيه سموم الحجاز وشمسه المحرقة، فأرتجف من الرعب

وجعلت أحدّ النظر في هذا الأفق الرحيب، لعلي أرى قرية أو خياماً، فلا أرى إلا لمع السراب، ولا أبصر إلا هذه الجبال التي طلعت علينا أمس فاستبشرنا بها وابتهجنا وظنناها قريبة منا، فسرنا مائة وعشرين كيلاً وهي قيد أبصارنا، تلوح لنا من بعيد كأنها بحر معّلق حيال الأفق ضائع بين السماء والأرض. . . لم تضِح ولم تقترب

فشققت هذا السكون وصحت بالدليل (محمد العَطَوى)

- يا محمد! إيش تكون هذه الجبال؟

- فقال: هذه يا خوي جبال المدينة، وحّنّا (ونحن) إن شاء الله الظهر فيها

- قلت: ما تقول؟

ووثبت وثبة تطاير منها اليأس والخمول عن عاتقي، وأحسست كأن قد صبّ في أعصابي عزم أمة، وقوة جيش، وظننت أني لو أردت السحاب لنلته، ولو غالبت الأسد لغلبتها، ولو قبضت على الصخر لفتته، وجعلت أقفز وأصرخ، لا أعي ما أنا فاعل. فقد استخف الفرح، وسرني من هذه الكلمة أكثر ما يسرني أن يقال لي: أنت أمير المؤمنين

وصحت بأصحابي فقاموا كالأسود

عالجنا السيارات حتى أخرجناها من الرمل، وملنا بها عن هذه الكثبان حتى ألقيناها عن أيماننا، وانتهينا إلى أرض شديدة درجت عليها السيارات، فاستندت إلى النافذة، وأطلقت نفسي تطير في سماء الأماني، فلم ادع صورة للمدينة إلا تصورتها، وأقمتها أمام عيني، وأفضت عليها ما أستطيع من الجمال والجلال، فلا أطمئن إليها، ولا أجدها إلا دون ما في نفسي. . . ولم يكن يربطني بالأرض إلا صوت الدليل، وهو يهتف بالسائق:

- سر يميناً، مل شمالاً، لج بين هذين التلين، دع هذه القارة على اليمين، احترس من هذا الشعب، تنكب هذه الرملة. . ثم يعود السكون

سرنا أربعين كيلاً أخرى، ولا تزال هذه الجبال تلوح في الأفق كأنها خيال حلم بعيد، يشع منها نور غريب، يومض من وراء القفر، كما يومض الأمل المشرق في ظلمة اليأس، وكنا قد شارفنا سكة الحديد فتخطيناها مستعبرين، ودخلنا في أودية مالها آخر غابت عنا فيها الجبال التي كنا نراها، فنستأنس بمرآها وقاسينا فيها من الشدائد من التواء الأرض وكثرة الأحجار وتشابه المسالك، ولم يكن فينا من ينبس، إلا أن يعرض لنا جيل أو شعب فأسأل الدليل عن اسمه لأكتبه في دفتري الذي سرق مني في آخر الرحلة. . . ثم أرجع إلى صمتي الطويل

فلما زال النهار، صاح بي الدليل:

- هيه. أنت يال كاتب. أكتب: هذا أحد!

- فصحت: إذن قد وصلنا

- فقال: ما قلت لك الظهر، هذا أحد، بقي نصف ساعة.

لم يكن يدري الدليل الإعرابي أي ذكريات انبعثت في نفسي حين قال: هذا أحد! وأي عالم تجلى لعيني، فرأيت المعركة قائمة والمسلمين ظافرين، قد منحهم الله أكتاف العدو، ورأيت الرماة إذ يزلون عن أماكنهم، يبتدرون الغنائم، وخالداً حين يرتد بخيله على هؤلاء الذين عصوا أمر الرسول وغرتهم الدنيا، ورأيت النبي صلى الله عليه سلم ثابتاً مثل أحد، وحوله صحابته الغر الميامين، يذبون عن الدين، ويحمون حمى النبوة، ثم أبصرت هنداً قائمة على جثة البطل السميذع، سيد الشهداء، وكان قد أكل من بدر كبدها، فأرادت أن تأكل كبده، فشقت عنها فاستخرجتها فلاكتها، فلما وجدت بفيها صلادة الصوان لفظتها

وأبصرت النبي وافقاً عليه يبكي، فلما رأى ما مثل به شهق، ولم يكن منظر أوجع لقلبه منه، ثم قال:

رحمك الله يا عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلن بسبعين منهم، فما برح حتى هبط عليه الوحي، فقام يتلو قول الله جل وعزّ:

(وإن عاقَبتم فَعَاقِبُوا بمثل ما عُوقبتم بهِ) فانصرف وقد عفا

ورنّ في أذني صوت أبي سفيان: أعل هبل، فتلفت، فما رأيت هبل، ولا شيعة هبل، وإذا هو قد درج مع من درج، لم يبق إلا الله الأعلى الأجل، ثم سمعت صوت أبي سفيان يرنّ في أذني مرة ثانية، يخرج من هناك من أرض الشام، التي فتحها لهم سيد العالم، قوياً شديداً، ينادي في المعركة الحمراء، بصوت سمعه كل من في اليرموك:

يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات، يا معشر المسلمين. فثبتوا وجاءهم النصر وملكوا سورية من أقصاها إلى أقصاها فهي لهم ولأبنائهم إلى يوم القيامة، ورأيت مئات من مثل هذه الصور، فأحسست كأنما انتقلت إلى العهد الأول، أشهد هبوط الوحي، وأرى جلال النبوة وعز الإسلام. . .

ونظرت، فإذا أحد لا يزال بعيداً، يعترض هذا الوادي الذي نسير فيه مشرقاً بهياً، تومض عروقه المختلفة الألوان من الأخضر البهيّ، إلى الأحمر المشرق، إلى الأزرق اللامع، فتمتزج هذه الألوان وتختلط، فيكون لها في العين أبهى منظر، وفي القلب أسمى شعور، فازداد بي الشوق، فأقبلت أحتث السائق وأستعجله، أود لو تطوى له الأرض طياً ويطير بنا إلى المدينة طيراناً، فلا أرى السيارة تريم مكانها، أوجد أحداً لا يزال بعيداً، فأعود فأستحث السائق. . . وما لي لا أسرع إلى أحد وأحبه، وقد قال رسول الله : أحد جبل يحبنا ونحبه. وما لي لا أزداد شوقاً إلى المدينة، وليس بيني وبينها إلاّ ربع ساعة؟

وأعظم ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الخيام من الخيام

ولما خرجنا من الوادي، وانتهينا إلى الفضاء الرحب، رأينا وجه أحد وعلى سفحه النخيل والبساتين، ورأينا سلعاً وهو جبل أسود عال، يقوم حيال أحد فيحجب المدينة وراءه، فلا يبدو منها إلاّ جانب الحرة، وطرف النخيل، فذكرت قول محمد بن عبد الملك وقد ورد بغداد فحنّ إلى المدينة:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بسلع ولم تغلق عليّ دروب

وهل أحد بادٍ لنا وكأنه ... حصان أمام المقربات جنيب

يخب السراب الضحل بيني وبينه ... فيبدو لعيني تارة ويغيب

فإن شفائي نظرة أن نظرتها ... إلى أحُدٍ والحرتان قريب

وإني لأرعى النجم حتى كأنني ... على كل نجم في السماء رقيب

وأشتاق للبرق اليماني إن بدا ... وأزداد شوقاً أن تهب جنوب

وكان علينا أرطال من الغبار والأوساخ، فاستحينا من رسول الله أن ندخل مدينته ونسلم عليه، ونحن على مثل هذه الحال؛ وكانت البساتين والحيطان قريبة منا، فسرنا إليها، نخب في الرمال، فلما دنونا من أحدها، سمعت غناء موقعاً على ناي، كأشجى ما سمعت من الغناء فتعجبت، ثم ذكرت أن أهل المدينة مذ كانوا أطرب الناس وأبصرهم بالغناء، وهممت بالدخول، ثم أحجمت وقلت:

لعل المغني امرأة، فلقد كان الذي سمعت صوتاً طرياً رقيقاً لا يكون إلاّ لامرأة أو غلام، ثم حانت مني التفاتة، من فرجة الباب، فإذا المغني عبد أسود كالليل، وإذا الذي حسبته ناياً ناعورة يديرها جمل، لها مثل صوت النواعير في حماه لكن صوتها أرق وأحلى، وإذا هذا السور الذي تلطمه الصحراء برمالها كما تضرب الأواذيّ صخرة الشاطئ، قد عرش على جانبه الآخر الياسمين، وأزهر عليه الفلّ، وظللته الأشجار وحنا عليه النخل، ورأينا الماء يهبط على الساقية، كأنه ذوب اللجين، ثم يجري فيها صافياً عذباً متكسراً، فجننا برؤية الماء الجاري، ولم نكن قد رأيناه منذ سبعة عشر يوماً، إلا مرة واحدة في العلا، واقتحمنا الباب، وأقبلنا على الماء نغمس فيه أيدينا، وأرجلنا، ونضرب به وجوهنا، ثم لا نشبع منه ولا ننصرف عنه، حتى أرحنا رائحة الحياة، فاستلقينا على الأرض ننظر إلى الصحراء الهائلة، التي أفلتنا منها وضرب بيننا وبينها بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب

اغتسلنا ولبسنا ثياباً بيضاء نظيفة، وتطيبنا، ثم ركبنا في السيارات إلى المدينة، فلم نقطع سلعاً حتى بدت لنا المدينة كصفحة الكف، يحف بها النخيل، وتكتنفها الحرار، وتقوم في وسطها القبة الخضراء، تشق بنورها عنان السماء، وتكتشف لنا دنيا كلها خير وحقيقة وجمال، وعالم كله مجد وفضيلة وجلال

من هنا خرج جند الله الثلثمائة إلى بدر، فدكوا صرح الاستبداد والجهالة، ورفعوا منار الحرية والعلم، أقاموه على جماجم الشهداء، وسقوه هاتيك الدماء، فأضاء نوره الجزيرة كلها، ثم قطع الرمل، فأضاء الشام والعراق، ثم قطع البحر فأضاء الهند وإسبانية، فاهتدى به الناس إلى طريق الكمال الإنسانيّ

من هنا خرج الأبطال الذين هدموا وبنوا وعلموا: هدموا الدول المتفسخة الجاهلة التي وقفت في طريق الحضارة، فلا هي تتقدم بها ولا هي تدعها تمشي في طريقها. وبنوا الدولة التي ألفت بين فلسفة يونان وحضارة فارس وحكمة الهند، وجعلتها جميعاً سِفرا واحداً فاتحته القرآن، وروحه الإسلام، ثم جلسوا على منابر التدريس في جامعات بغداد ومصر وقرطبة ليعلموا العالم، فكان من تلاميذهم ملوك أوروبا وباباواتها. . .

من هنا خرج أبو بكر وعمر، وعبد الملك والمنصور والرشيد وعبد الرحمن الناصر وصلاح الدين وسليمان القانوني

من هنا خرج أبو حنيفة ومالك وسفيان والنووي والغزالي والفارابي وابن سينا وابن رشد

من هنا خرج خالد وسعد وقتيبة وطارق وسيف الدولة والغافقي

من هنا خرج حسان والفرزدق وجرير وأبو تمام والمتنبي والمعري

من هنا خرج الجاحظ وأبو حيان حزم

من هنا خرج ألف ألف عظيم وعظيم

تقدست أيتها المدينة. . . أم المدن، وظئر العظماء؟

وكنا قد بلغنا هذا المضيق الصخري، بين هضبتي سلع، فنظرت في خريطة للمدينة كانت معي، وقلت للدليل: أما هذا ذبِاب؛ قال: بلى والله فما يدريك أنت؟

قلت: أما هذا مسجد الراية؟ قال: بلى. قلت: هذه هي ثنية الوداع، وخفق قلبي خفقاناً شديدا، وخالطني شعور بالهيبة من دخول المدينة، والسلام على رسول الله على ما في نفسي من الفرح والسرور، وجعلت أتأمل المدينة، وقد دنونا منها، حتى لقد كدنا نصير بين البيوت، وأحدّق في القبة الخضراء التي يثوي تحتها أفضل من مشي على الأرض وقد شخص بصري وكدت لا أرى ما كان حولي لفرط ما أحس من جيشان العواطف في نفسي. . . حتى غامت المشاهد في عينيّ، وتداخلت كأنها صورة يضطرب بها الماء، وأحسست كأني قد خرجت من نفسي، وانفصلت من حاضري وذهبت أعيش في عالم طلق لا أثر فيه لقيود الزمان والمكان، فسمعت أصواتاً آتية من بعيد. . . من بعيد، وسمعتها تزداد وتقوى، حتى تبينت فيها قرع الطبل، ووعيت أصوات الولائد، يضربن بالدفوف وينشدن:

طلع البدر علينا ... من (ثنيات الوداع)

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

ورأيت المدينة قد سالت بأهلها، فملأ الناس الحرّة وسدّوا الطرق، وغطى النساء الأسطحة، ولم يبق في المدينة أحد إلا خرج لاستقبال سيد العالم، وهو قادم ليس معه إلا الصديق الأعظم، لا يلمع على جبينه التاج المرصع، ولا يحمل في يده صولجان الملك، ولا تسير وراءه العساكر والجنود، ولكن يضيء على جبينه نور النبوة، ويحمل في يده هدى القرآن، وتسير وراءه الأجيال، ويتبعه المستقبل، وتحف به الملائكة، ويؤيده الله!

ثم سار وسارت وراءه هذه الجموع إلى القرية التي لبثت قروناً ضائعة بين رمال الصحراء، لا يدري بها التاريخ، ولم تسمع بها القسطنطينية، ولم تعلم بوجودها روما، فجاء هذا الرجل ليهزها وينفخ فيها روح الحياة ويجعلها أم الدنيا وعاصمة الأرض

إلى المعشر اليمانين الدين جعلوا بأسهم بينهم، فلم تمتد عيونهم إلى أبعد من هذه الحرار، ولم يطعموا من المجد بأكثر من أن يسحق بعضهم بعضاً، لينشئهم بالقرآن خلقاً آخر، ويسلمهم مفاتيح الأرض، ويضع في أيديهم القلم الذين يكتبون به أعظم تاريخ للبطولة والعلم والعدالة، فأطاعوا ولبوا، ثم مشوا إلى القادسية واليرموك، ثم أصبحوا سادة العالم، ورأيت الأنصار يستبقون إلى إنزاله والتشرف به ويصيحون به:

هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ويدعها تمشي وقد أرخى لها زمامها ما يحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً، حتى أتت دار بني مالك النجار فبركت عند باب المسجد، ثم ثارت وبركت في مبركها الأول فنزل عنها وقال: ههنا المنزل إن شاء الله، وكان المسجد مربداً لغلامين يتيمين في المدينة، فاشتراه وانطلق يحمل الأحجار بيده الكريمة ليضع أسس أكبر جامعة بثت الهدى في الأرض!

ونظرت فإذا السيارات أمام باب السلام، فاشرأبت الأعناق وبرقت الأبصار، ودمعت العيون، وخفقت القلوب، وتعالى الهتاف، وكانت حال لا سبيل إلى وصفها قط

فنزلنا ودخلنا المسجد نسلم على رسول الله . . . . . .

علي الطنطاوي