مجلة الرسالة/العدد 146/عقبة على شاطئ المحيط
مجلة الرسالة/العدد 146/عقبة على شاطئ المحيط
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
من القوم أوغلوا في البيداء، يجوبون سيناء، قد أغذوا السير، وأقلوا المير؟
من القوم تسبح بهم الجمال، في لجج الرمال وتغوص منهم الأشباح والظلال، في غمرات الآل. تسيل بهم الهضاب إلى الوهاد وتفيض بهم الوهاد إلى الهضاب، لا يألون تأويباً وإدلاجا، ولا يشكون نصباً ولا كلالا؟
من القوم ترمي عزائمهم الغايات، وتطوي هممهم السبل، سيان عندهم البعيد والقريب، والعسير واليسير؟
من القوم تضيء بالإيمان قلوبهم، وتقر على اليقين نفوسهم، حداهم القرآن، وغناؤهم الأذان، رحالهم معابد، ومنازلهم مساجد، قد شروا الله أنفسهم، وأرخصوا في مرضاته أرواحهم، ورضوا بما قسم لهم. وقد سايروا الشمس مغربين، لا تصدهم الأهوال، ولا تستردهم الأوطان، كأنهم نجوم في حبك الأرض تسير بقدر إلى قدر؟
العرب المسلمون يقودهم عمرو، يتوجهون تلقاء مصر. رموا الباطل في جانب وسددوا إلى جانب، وصرعوه في ميدان وهرعوا إلى ميدان؛ وهدموا سلطان الروم والشام وصمدوا لسلطان الروم في مصر وأفريقية
بالأمس زحموا الصرح فانهار، ونفخوا زخرف قيصر فطار، وأشاروا إلى الصنم فسجد، وخلى جبروته إلى الأبد. وضعوا سلطان هرقل ورفعوا سلطان الله، وأقاموا الحرية في مصارع العبودية، وشادوا العدل على مقاتل الجور
واليوم يتبعون الباطل المهزوم، ويشرون الزور المذود. إنهم يؤمون مصر. ومصر أكرم على الله من أن تكون مباءة الباطل ومثوى الجبروت. إنهم يسرعون إلى مصر. فعفاء على الروم وسلطانهم، وويل للباطل يدمغه الحق، والظلم يصمد له العدل، والاستعباد تثور به الحرية، ويل للروم يسير إليهم العرب
- 2 - أترى المائج، واللج الهائج؟ أترى السفن على الثبج راجفة، والجموع فوقها واجفة؟ أترى الموج يتلاطم، والسفين يتصادم، والجيوش ملتحمة، والخناجر والسيف مختصمة؟ أترى جنداً يلوذون من حر الضراب إلى برد الماء، ومن ذل الإسار إلى عار الفرار، وجنداً ثبته اليقين فثبت، وآثر الموت على العار فظفر؟
واعجبا! قد أصبح فرسان الصحراء أبطال الدأماء، وصار حداة الإبل أمراء السفن، جاوزوا الكثبان البيض إلى اللجج الخضر، فاتخذوا السفين جياداً والبحر مراداً. وهل الإبل إلا سفن الصحراء، وهل السفن إلا أفراس الماء؟ فما استبدل هؤلاء إلا سفينة بسفينة وفرساً بفرس
وإنها، على ذلك، لإحدى العبر: أبناء البادية ينازلون الروم في الأساطيل. معاوية وابن أبي سرح يقاتلان قسطنطين ابن هرقل، وقد جاءهم في ستمائة سفينة تحمل جند الروم وتاريخ الروم، وثارات الروم. وأعجب العجب أن يغلب الأسطول الرضيع الأسطول المكتهل، أن يغلب ابن أبي سفيان ابن هرقل، أن يغلب العرب الروم في بحر الروم
- 3 -
ما جزيرة العرب، وفارس، والشام ومصر، وما الهند والصين، والمشرق والمغرب في همة هذه الشمس الوهاجة، وعزيمة تلك الكواكب السيارة. قد استقر سلطان القوم في مصر فلم يقنعوا، وهاهم قد غزوا برقة ورجعوا. أتحسب الأمد تطاول عليهم، والشقة بعدت بهم فملوا أو خاروا؟ تلبث قليلاً ثم انظر جيش العبادلة يزحف إلى إفريقية فيظفر ثم يصالح. وما وراء الحرب والسلم إلا المسير لإعلاء كلمة الله، وبلوغ الغاية مما أرادوا في سبيل الله
ويقف القوم سنين. وما هو إلا الجمام للسير، والتحفز للوثوب، والإعداد للجهاد، والتريث للتثبت. وعما قليل يطوون المغرب لا تعوقهم الفيافي المترامية، ولا تصدهم الجيوش الجرارة. تنظر الغد. فما بلغ القوم الأمل الموعود، ولا قاربوا الغاية المقدورة
- 4 -
عشرة آلاف تطوي الأوطان والقطان في سبيلها، وتطأ الأهوال والأبطال إلى غايتها! عشرة آلاف وفي الناس واحد كألف
تجمعت في فؤاد همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها عشرة آلاف قائدهم عقبة بن نافع قد عزموا ألا ينثنوا، وصمموا ألا يهزموا، وآلوا ألا يرجعوا ما اتسع الفتح لعزائمهم، وامتدت الأرض لأقدامهم
هاهو ذا عقبة يبني مدينة القيروان، فعل الغازي المعمر والفاتح المقيم. وسيجعلها مبدأ السير وأول الفتح، كأنهم ما قطعوا المهامة إليها، ولا ساروا عن ديارهم قبلها
في كل فج عزمهم سيار
إلى الوغى تهافتوا وطاروا
جماعة ليس لهم ديار
إلا ظهور الخيل والغبار
أرض الله، وعباد الله: أينما توجهوا فهي أرضهم، وحيثما حلوا فهي ديارهم. لا بعد عندهم ولا قرب، ولا شرق ولا غرب. (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمَّ وجه الله)
ولكن عشرات آلاف من الروم والأفريق قد ساروا إليهم. لقد أعد الروم لهم، وأزمعوا أن يحطموهم. فوا رحمتاه للأنجاد القليلين، والغرباء النازحين!
كلا لا خوف ولا حزن، ولا قلة ولا كثرة. انظرهم يديرونها على عدوهم حرباً طاحنة، ويلجئون الروم وأعوانهم من لظى النار إلى سلاسل الإسار - ألوف من الروم مصفدون
أترى الكثرة أغنت، أم ترى القلة قلت؟ ذلك آخر عهد الروم بإفريقية
- 5 -
أين الجنود البواسل، والعبَّاد الغزاة، والبداة الذين خرجوا ينشدون الحق ويردون الجبارين إلى العدل؟ أنهم ليسوا في برقة ولا إفريقية. . . . هاهم في أقصى المغرب! هم اليوم في طنجة! بل هم في إيسوس. لقد انتهوا إلى الساحل، لقد انتهت الأرض وا أسفاه للجواد المتمطر لا يجد مجالاً، والعزم المحضِر لا يجد مضطرباً. قد بلغوا البحر فكيف المسير؟ وفتحوا ما بين المدينة المنورة، وبحر الظلمات فأنى الفتح؟
انظر عقبة تضيق بعزمه الأرض، وتصغر في عينه الأقطار، فيدفع جواده في البحر ويصيح:
(والله لو علمت وراءه أرضاً لسرت غازياً في سبيل الله)
(بغداد) عبد الوهاب عزام