مجلة الرسالة/العدد 146/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 146/البريد الأدبي
عبرات جوار لا حرار
سألني السيد (محمد حصار) من فضلاء المغرب الأقصى في العدد (144) من (الرسالة) عن رأيي في قول الخنساء:
(من كان يوماً باكياً سيدا ... فليبكه بالعَبرات الحِرار)
فقد وصفت الخنساء دموعها بالحرار مع أنه سبق مني القول في مقالتي (تعريب الأسالب) المنشورة في الجزء الأول من مجلة مجمعنا المصري أن العرب يصفون الدمع والعين بالسخونة، ولا يصفونهما بالحرارة كما يفعل الإفرنج
وأنا إنما أردت أن العرب ليس ذلك الوصف من شأنهم، أي غير شائع في أساليب بلاغتهم: أن يصفوا الدمع بالحرارة لا أنه لا يقع ذلك منهم أحياناً، والشاهد الصحيح على وقوعه في كلامهم قول الشاعر
بدمع ذي حرارات ... على الخدين ذي هيدب
راجع ذلك في اللسان والتاج مادة (حرّ) وهيدب السحاب ما تراه كأنه خيوط عند انصباب مطره
أما ما ذكره المعترض الفاضل من شعر الخنساء فلا يصلح شاهد لسببين:
(الأول) أن (حرارا) لا تكون جمعاً لحارة حتى يصخ أن تقول في (عبرة حارة) عبرات حرار، ولم ينقل هذا الجمع أحد من أرباب المعاجم، ولم يذكروه في جملة ما شذ من الجموع، وإنما صرحوا أن (حرار) تكون
جمعاً للحّرّة: وهي الأرض ذات الحجارة السود
وجمعاً للحَرّان: وهو الشديد العطش
وجمعاً للحر: وهو ضد العبد (وهذا الجمع حكاه ابن جني) يعني يكون شاذاً
(ثانياً) لا يجوز أن يقال: أن أرباب المعاجم قد يهملون ذكر كلمات لغوية فصيحة وردت في أشعار العرب: من ذلك فعل (تبدى) في قول عمرو بن معدي كرب
(وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى)
فليكن جمع (حارة) على (حرار) من هذا القبيل ويكون الشاهد عليه قول الخنساء المذكو وكفى به حجة
لا يقال ذلك لأنه يجب قبل كل شيء الاستيثاق والتثبت من صحة ألفاظ الشاهد، وأول طرق هذا الاستيثاق عدم احتمال تحريف كلماته
فكلمة (الحرار) تحتمل احتمالاً قريباً جداً أن تكون محرفة عن (الجوار) بفتح الجيم وبعدها واو أي (العبرات الجواري) جمع (جارية) اسم فاعل مؤنث من فعل (جَرى) الدمع إذا سال على الخدين
ووصف الدموع بالجواري صحيح من حيث قواعد العربية، فصيح من حيث شيوع استعماله في كلام البلغاء
أما كلمة (الحرار) فليست بهذه المثابة: لا من حيث القواعد ولا من حيث شيوع الاستعمال
ونسخة ديوان الخنساء التي بين أيدينا إنما هي من طبعة الأب لويس شيخو اليسوعي وهو - رحمه الله - لم يشتهر بالدقة في ضبط نصوص ما ينشره من الآثار الأدبية، ولا في تحقيق كلماتها اللغوية
فلعل الفاضل (محمد حصار) وقعت إليه مثل هذه المطبوعة أو مخطوطة قديمة أخرى يسرع إلى مثلها هذا التحريف
وفي مكتبتي نسخة شرح مخطوط على ديوان الخنساء كتبت سنة 1145هـ لمؤلف مجهول؛ وما لي لا أقول إن هذا الشرح لثعلب كما يمكن استنتاجه من خاتمة المخطوطة؟ وقد سقط منها بعض أوراق فلم أجد قصيدة (العبرات الحرار) فيها. فلعل القصيدة برمتها غير موجودة في رواية تلك النسخة أو هي في ضمن الأوراق الساقطة
وتوجد نسخة من هذا الشرح نفسه في دار الكتب المصرية كتبت سنة (620هـ) كما يفهم من الفهرس العام (جزء 3 نمرة 203)
فلعل أحداً من قراء (الرسالة) ممن تهمهم أمثال هذه البحوث وهم كثيرون - يزور دار الكتب المصرية ويراجع لنا بيت الخنساء ويتثبت من قافيته: أهي (الحرار) أو (الجوار)
أو يراجع ما هو أوثق من ذلك كله وهو نسخة ديوان الخنساء بخط اللغوي الكبير المحقق العلامة الشنقيطي التركزي رحمه الله، وإن له على نسخته تقييدات كالشرح لها. وهذه النسخة أيضاً من نفائس ما حوته دار الكتب المصرية. راجع فهرسها العام (جزء 3 ص 128)
(دمشق)
عبد القادر المغربي
المكتبة العربية في الاسكوريال
تشتمل المجموعة العربية بمكتبة الاسكوريال بمدريد على مجموعة نفيسة جدا من الكتب العربية والإسلامية في مختلف العلوم والفنون، يبلغ عددها 1952 مجلداً، ومعظمها كتب أندلسية هي التراث الأخير لآداب أسبانيا المسلمة؛ ولم ينشر إلى اليوم من هذه المجموعة سوى بضع عشرات من الكتب قام على إخراجها جماعة من المستشرقين، ومنها المكتبة الأندلسية التي تضم عدة مجلدات، وأخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر، والحلة السيراء لابن الآبار، وبضعة كتب أخرى؛ وكان آخر ما نشر من هذه المجموعة النفيسة مجلد من تاريخ الأندلس لابن حيان، أخرجه الدون انتونيو مدير مكتبة الاسكوريال وهو يتناول قسماً من عصر بني أمية بالأندلس
وقد لفتنا الأنظار غير مرة إلى هذه المجموعة النفيسة، وتمنينا على دار الكتب المصرية أن تبذل وسعها لتصوير أو نسخ أكبر عدد من هذه المجموعة، ولكنها لم توفق حتى اليوم إلى تحقيق هذه الغاية بصورة مرضية؛ وكل ما استطاعت أن تحصل عليه حتى اليوم هو صور لخمسة كتب فقط من مجموعة الاسكوريال، هي كتاب البديع لابن المعتز، ومختصر طبقات الشعراء له أيضاً، وطيف الخيال للشريف الرضي، وكتاب الفلاحة لابن العوام، ومجموعة فلسفية في شرح بعض كتب الفارابي؛ وتسعى دار الكتب منذ حين في الحصول على صور أو نسخ لعدة كتب أخرى من هذه المجموعة، ولكن الظاهر أنها تجد في ذلك السبيل عقبات مالية لا تستطيع تذليلها
وفي ذلك ما يبعث إلى أشد الأسف، ذلك أن مجموعة الاسكوريال هي بلا ريب من أنفس المجموعات العربية المعروفة، هذا فضلاً عن أن لها فوق نفاستها العلمية صفة خاصة، فهي في الواقع بقية التراث الإسلامي في الأندلس، وتكاد تحظى في نظر العالم الإسلامي بنوع من القدسية المؤثرة ويوجد بين محتويات هذه المجموعة عدة كتب فريد في بابها، في السياسة والفلسفة والأخلاق والطب، مثل كتاب أدب الفلاسفة (رقم 760 من المجموعة) وكتاب عن سياسة الأمراء وولاة الجنود (رقم 719) وكتاب في السفارات النبوية عنوانه المصباح المضيء (رقم 1742)؛ هذا إلى عدة كتب من تأليف أكابر العلماء المصريين مثل كتاب الشهاب القضاعي (رقم 752) وكتاب القول التام في فضل الرمي بالسهام، للسخاوي (رقم 765) وكتاب في تاريخ المعز لدين الله (رقم 1761)، وكتب نفيسة أخرى يضيق المقام عن ذكرها
وقد حصلت الجامعة المصرية على صور عدة كتب أخرى من هذه المجموعة النفيسة، ولكن ما حصلت مصر عليه حتى الآن لا يعتبر شيئاً مذكوراً
ولهذا نعود فنتمنى على دار الكتب المصرية وعلى مكتبة الجامعة، وعلى ولاة الأمر جميعا أن يشملوا هذه المجموعة الفريدة بكثير من عنايتهم وألا يدخروا في سبيل الحصول على نفائسها جهداً أو مالا