انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 145/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 145/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 04 - 1936



درامة من اسخيلوس

2 - المتضرعات

للأستاذ دريني خشبة

- 7 -

وصمت الأب دانوس، وغمرت الفتيات موجة أثيرية من الفرح، وتقدمن نحو الآلهة يصلين ويهزجن، وينظمن الشكران عقودا من جمان دموعهن فيجعلنه قلائد على جيد آرجوس، ويدعون للملك بالمجد، ولمدينته الخالدة بالنصر والعز والتأييد

وما يكدن يفرغن من صلاتهن وإنشادهن، حتى يثب أبوهن الشيخ المتهالك وثبة قوية. . . ويقف على شرف من حرم الآلهة المقدس، ثم يرسل في اليم المضطرب نظرات حائرة من عينيه الغائرتين. . . كمن ينظر في كتاب الغيب!!

- يا للهول! أصمتن يا فتيات. . . أصمتن! إن الزمن يسوق إليكن أحداثه فوق أعراف الثبج. . . انظرن!؟ إنها تقترب منا رويدا رويدا! واو حربا يا بناتي البائسات؟ سفينة مصرية لا ريب في ذلك! آه! إنها من سفائن اللعين إيجبتوس! لا شك! لا شك! هاهي ذي قلاعها وشراعها! كابية كوجهه، كاسفة كقلبه. . . وي! لقد طوى الملاحون الشراع، وأعملوا سواعدهم في المجاديف! إنها ما تفتأ تقترب! ولكن! لا عليكن يا فتيات! لا عليكن أبدا! إن لكن من هؤلاء الآلهة ذادةً، وإن لكن منهم حُماة أُباة! ويل لمن يستهزئ بأرباب الأولمب وأي ويل؟ إن له لساعة تشيب من هولها النواصي! لقد قدم الأوغاد يطلبونكن لمتعة الوحوش الذين لا يخشون الآلهة ولا يرعون حدود السماء. . . لا. . لن يكون هذا أبداً. . .)

فترتعد فرائص الفتيات، وتقول كبراهن:

- (أبتاه! إنا لنذوب من فرق يا أبتاه! يا للفزع الأكبر! ماذا أفاد سفرنا الطويل، وغربتن النازحة؟ لطالما انتعلنا الدماء، وضربنا غوارب الماء لنكون بنجوة، فأين النجاء! أبتاه! إنا نذوب من فرق. . .)

- (لتطمئن قلوبكن يا بناتي، فلقد صمم الأرجيف البواسل أن يحاربوا إلى آخر قطرة من دمائهم من أجل قضيتكن. . .) اهدأن! اهدأن فهذه الإلهة تحميكن!)

- (وهل يصبر الأرجيف المترفون على شياطين إيجبتوس يا أبتاه؟ انظر! لقد جمعوا اللهاذم من محاربي مصر. . . . فمن لنا! من لنا!؟)

- (إنكن لن تلبثن أن ترين الأبطال المقرنين في الحديد، المقنعين في الزرد، فلا تهلعن!)

- (ولكن. . . لتقف معنا يا أبتاه! لا تتركنا! فنحن أضعف من أن نشهد المعركة! إن هؤلاء القادمين في السفينة الغبراء وحوش يحملون قلوباً خرساء. . . ولن يثنيهم أن يشهدوا هذه الآلهة، إذ هم ضواري ليبيا، لا يعرفون قرباناً ولا مذبحاً ولا شريعة، ولا يرهبون آلهة ولا يوقرون أوثاناً!)

(يهم دانوس أن يغادر بناته، فتقول كبراهن:)

- (أبتاه! إلى أين؟ لن تغادرنا. . . لن تغادرنا يا أبتاه)

- (تلبثن يا فتيات ولا ترهبن شيئاً! إنهم لابد لهم من وقت طويل حتى ترسو سفينتهم، وينزلوا إلى البر ويربطوا أمراسها في صخرة أو جذع. . . وقد لا يجدون مرفأ هنا فيقلعون إلى مكان بعيد. . . اهدأن. . . لا تفزعن هكذا! ما هذا الفرق! تلبثن هنا حتى أعود بجيش الأرجيف أو بمدد من ببلاسجوس! لقد وعد! لقد وعد أن يحمينا، وأيده الشعب كله في ذلك. . . . . تلبثن. . . . . لا تفزعن. . . . . ولا تذهب قلوبكن شعاعا!)

(يخرج دانوس)

- 8 -

وتهلع الفتيات ويتفزعن، ويتضرعن إلى الآلهة أن تنقذهن من ذلك البلاء المنتظر، ويرسلن أنشودة طويلة حزينة. . .

والسفينة تقترب!

وهي كلما اقتربت وجفت نفوسهن، وخفقت قلوبهن، وتبلبلت أفكارهن، وتعلقن بالدمى المرمرية التي. . . تثلجت حتى ما تحس. . . وتحجرت حتى ما تعي. . .

وغابت السفينة عن الأنظار فجأة. . ولكنها غابت لترسو. .

وطفق الفتيات يهزجن. . . ويصلين. . . ويبكين. . .

- 9 -

(يدخل القائد المصري)

- (سو. . . ش. . . أصغين يا فتيات! حذار ألا تطعن! هلم إلى سيف البحر، فاركبن في السفينة معنا! أسرعن! لا تقاومن، وإلا حملناكن بالقوة! أسرعن، وي! أنتن لا تتحركن! أسرعن يا فتيات! إن لم تسرعن فستحل بكن نقمة! سنشدكن من شعوركن ونجركن على الؤى والأحجار حتى تدمى جسومكن؛ إلى البحر. . . إلى البحر!)

(وينقض الجنود فيدافعون الفتيات فتقول كبراهن:)

- (ويل لكم أيها الضواري وويل لأميركم! ليت هذا الخضم ابتلعكم قبل أن تصلوا إلى هنا!)

- (أنصح لكم يا فتيات ألا تقاومن! إنكن ضعيفات، وللقوة أن تصنع ما تشاء بكن! دعن هذه المجالس حول هذه الآلهة التي لابد أنها تسخر منكن! ستحملكن السفينة إلى أوطانكن فالحذار من المقاومة!)

- (كلا! لن نعود إلى جنة الأرض وجحيم القلوب! الفردوس الذي يفيض كل سنة دماً يصهر العاطفة ويحرق الضلوع. . . . . .)

- (وبعد، إنني مرغم إذن على استعمال القوة المطلقة التي يخوليها الأمر الذي بيدي! سأنتزعكن من مقاعدكن في هذا الحرم! سنجركن من شعوركن وخمركن، ونبحر بكن برغمكن!)

- (أنت تهرف كأن عيون السماء مغمضة عنك! كأنك إذا كنت وسط اللجة لم تخش شيئاً! أيها الكافر بالآلهة!)

- (ولو لن ما شئتن! ادعين آلهتكن، وسنرى هل تهرع لمعونتكن!! أبداً لن تهربن من يدي إيجبتوس أبدا! إنه كالهواء مدرككن أنى وُجهتن! فولولن واصخبن! وأعولن وابكين تعاستكن!)

- (ثم ماذا؟ زدنا من وقاحتك يا ابن النيل! بذاء! أيها المسخ! يا ربيب التماسيح! ليتها تطعمت بك، أو خللت ثناياها بلحمك قبل أن تجئ إلى هنا!)

- (سو. . . ش. . . كفى! حسبكن صراخاً! إن لم ترضخن. . . فشعوركن تحكم بيننا وبينكن! سنجركن منها إلى السفينة يا فتيات!)

(يهم الجند أن يجروهن!)

- (أبانا! أين أنت يا أبانا! الغوث الغوث! هذه العناكب المتلمظة! يا أمنا الأرض! يا أبانا زيوس! عونك يا آلهة! يا سيد الأولمب! نحن حفيدات يو!! أدركنا! ادفع عنا هذه الضواري!)

- (عبثاً تستصرخن آلهتكن يا فتيات؟ هي ليست لنا بآلهة! فنحن لا نرهبها ولا نخشاها! إنها لم تنشئنا، ولم تختلط بقلوبنا. . . نحن لا نباليها!)

(يجرها من شعورها)

- ويلك أيها اللئيم! يا أفعوان النيل ذا الأنياب! أغرب فلست أفعى مثلك أيها الأرقم! العون العون يا سيد الأولمب! زيوس يا إلهي! أدركني أستحلفك بأمك ربة هذه الأرض!)

- (أسرعن إلى السفينة إذن! وإلا! فسندك عظامكن فوق هذه الآطام! أطعن يا فتيات فهو خير لكن!)

- (يا سادة آرجوس! أدركننا يا أرجيف: أيها الأوفياء!)

- (بل سادة مصر! أبناء إيجبتوس الكرماء ستلقينهم وشيكا يا عذارى!)

(يا ملك آرجوس الكريم! الغوث: لقد وعدتنا! بيلاسجوس!)

- (طالما تأبيتن، فشعوركن تطيعنا، وهي أطوع لنا منكن!)

(يجروهن على الحجارة بشدة فيدخل الملك)

- 10 -

- (وي! من أولاء! من الجائسون خلال مملكة بيلاسجوس، العائثون في جنبات آرجوس، غير المبالين بحرم الأرباب! من أنتم يا هؤلاء؟ هل هانت عليكم آرجوس فأنتم تأفكون في ساحاتها غير هيابين! مالكم ولأولئك النسوة! مالكم تحركون ألسنتكم بالفحش، وتسلقونهن بالهُجْر!؟ إن هنالك لعدالة تحميهن أيها الحمقى!)

- (أي هجر وأي فحش، ماذا صنعنا بهن!) يا للآلهة؟ أنت أجنبي وقد نزلت بلاداً غير بلادك، فكيف ضللت سبيل الحسنى؟!)

- (أجل: ولكنني أجنبي قد عثر بضالته المنشودة، ورجيته المفقودة

- (وأية قوة هنا تملك، فتسندك!)

- (أنا أحتكم إلى هرمز، حامي الغرباء!)

- هرمز؟! أمرك عجب وحق هرمز؟ لقد دنست حرم الآلهة جميعا!)

- (بل أنا أدين للنيل. . . حابي!. . . وأعبد آلهة النيل!)

- (إذن فلا اعتبار لآلهة آرجوس عندك؟)

- (إذا كان منها ما يحول بيني وبين ضالتي. . . وإلا. . . فسأمضي بصيدي)

- (ارفع يدك عن الفتيات. . . وإلا. . . فسرعان ما تندم ولات حين مندم)

- (كأني بك تشيع الكرم في عباراتك!)

- (لا كرامة ولا بشاشة لمن دنس الحرم المقدس!)

- (قل ما شئت، فالجلة الأمراء من أبناء إيجبتوس. . . آ. . . أجل. . . سأذكر لهم كل شيء)

- (لا يعنيني أن تنقل إليهم أي حديث عني!)

- (عجبا! وكيف؟ إذن نبئني ماذا أقول له كرسول منه إليك! يبدو لي أن مارس وحده سيحكم بيننا وبينك، وعندها، يعرفنا أينا من يندم ولات حين مندم! هؤلاء بنات عمهن، وقد جئت من أجلهن، فكيف أعود بدونهن! لم نسمح للغضب أن يروي دماءنا! يا للأرواح البريئة! ثم. من أنت؟)

- (غداً تعرف من أنا، أنت والعصبة من رفاقك! ولكن. . . لن نسمح لك أن يصطحبك أولئك الفتيات إلا إذا رضين هن ذلك. . . فلن يذهبن معك برغمهن. . . إن مملكتنا كلها تؤيدهن وتؤازر حقهن، ولن تسلمهن لقوة مهما عتت أو لجبروت مهما طغى! إن لنا لقانوناً أقدس، لم ينقش في صخر، ولم يسطر في بردي، فاسمعه من فمي، واغرب من أمامي!)

- (ويْ! لقد ضمنت كلماتك إعلان الحرب علينا! فمن لك برجال يضمنون لك النصر؟!)

- (غدا يملأ الرجال السهل والجبل وشطئان هذا الخضم رجال. . . مذاويد. . . لم يدنسوا أفواههم بجعة الشعير ولا بنبيذ النمر. . . أغرب يا أحمق!) (ينسحب المصريون)

- 11 -

(وأما أنتن يا عذارى فلا ترهبن شيئاً في الوجود ما دمتن معنا وبين ظهرانينا! إن آرجوليس كلها ستحميكن وستكافح عنكن، فهلم إلى قلعتها العتيدة، إن لكل منكن فيها حصنا أمنع من النجم، وآمن من السماء! فقرن في غرفاتكن ثمة، فهي أخلق بكن، وأطيب إلى نفوسكن، وأروح عليكن. . . على الرحب والسعة يا عذارى! إني وشعبي نفتديكن، فقرن عينا وطبن نفسا. . .)

- (بوركت يا خدن الأرباب، جزاك سيد الأولمب عنا خيرا، وكتب لك ولمملكتك السلامة، وجعلك وجعلها بنجوة من غدرات الأيام، وبدوات الزمان!. . . أيها الملك! لقد غمرنا إحسانك فنحن ندين لك بهذه الأرواح المفزعة، والنفوس المروعة، التي أذهبت عنها الشجو وجلوت ما بها من حزن! أبانا أيها الملك! إنه رجل شيخ حطمته الآلام، وناءت على صدره الخطوب. . . ائذن له يصحبنا إلى منازلنا، ويهيئ لنا جوارنا، ويتخير لنا أولياءنا ذلك أدنى ألا يأسى أو يحزن! (ويوجهن القول إلى وصيفات الملك) أما أنتن أيها الوصيفات فرشّدننا إلى حيث يدلكن أبونا. . . وابشرن! فسيهب كلا منكن أمَةَ جزاء ما خدمتننا وسهرتن علينا)

- 12 -

(يدخل دانوس)

- (احمدن للملك، وصلين للآلهة يا بناتي! القرابين وإضحيات الخمر، إنا ندين للأراجيف البواسل بأرواحنا ما في ذلك من شك، فقرين لآلهتهن القرابين، وقدّمن الأضحيات! الثناء لهذا الملك الكريم يا فتيات، فلقد أنقذنا من الذبح ونجانا من الفضيحة. . . حمداً له، حمداً له وشكراً!!

أما أنتن، فخذن أهبتكن. . . إلى قلعة المدينة وذؤابة شرف آرجوس! ولي عنكن وصاة أرجو ألا تخيب، تلك أن تضربْن بخمركن على جيوبكن، ولا تبدين من معالم فتونكن، ما تشغلن به قلوب الرجال، وتبلبلن ببعضه أفئدة الناس، ولا تنسين أننا في كنفهم وارفون في ظلالهم. . . فالشرف الشرف يا بناتي! والعصمة العصمة!! حتى نجتاز شوارع آرجوس، فاغضضن من أبصاركن إذا ساورتكن الجماهير، وأحدقت بكن الجماعات؛ ولا تبادلن أحد نظرة. . . لا تدري إلا الآلهة ما بعدها. . .)

ويلتف العذارى بأبيهن يعطينه موثقهن، ثم يأخذن في إنشادهن الحلو، وتغنيهن الجميل، وقد انقسمن إلى جماعتين، هذه تغني. . . وهذه ترّجع. . وتمتلئ الأرجاء شدواو. . . شجوا. . . وموسيقى

دريني خشبة

(البقية - وهي خلاصة الدرامتين المفقودتين - في العدد

القادم)