انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 144/التعليم والحالة الاجتماعية في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 144/التعليم والحالة الاجتماعية في مصر

مجلة الرسالة - العدد 144
التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 04 - 1936


5 - التعليم والحالة الاجتماعية في مصر

للأستاذ إسماعيل مظهر

لقد بلغنا من البحث ذلك المبلغ الذي يهيئ لنا أن نخلص إلى النتائج، فقد شرحنا الأسباب التي أفضت بنا إلى تخريج متعلمين عاطلين لا عمل لهم، ولا بيئة يمكن أن ينتفع فيها بما تعلموا، وصورنا مجمل النتائج الاجتماعية التي تترتب على هذه الحال، وطبقنا النظريات الاجتماعية فاستنبطنا منها صورة لما سوف يكون عليه مجتمعنا في المستقبل القريب والنتائج السيئة التي ستظهر آثارها جلية واضحة في عجزنا عن الاحتفاظ بحملة اجتماعية ثابتة قوية الأركان، وعطفنا من ثم على وصف صورة من أدبنا ووطنيتنا، وعزونا كل النقائص إلى نظرية جديدة محصلها أن الانفصال عن ثقافتنا التقليدية كان سبباً في أن نصبح ككائن حي لا معدة له، يأكل ولا يهضم، فتراكمت في كيانه كل النفايات التي لا تلائم طبعه ولا تتفق ومزاجه، وأن ذلك كان سبباً في ألا تظهر له شخصية خاصة به، وأصبح كَلاًّ على غيره بأن فقد استقلاله الذاتي في الحياة

ويجدر بنا بعد ذلك أن نعين مم تتكون الثقافة التقليدية، ليتيسر لنا أن نحدد البحث تحديداً منطقياً مقبولا، فإن لكل ثقافة تقليدية اختصت بها أمة من الأمم مكونات تنتهي إلى أصول بعينها؛ وعندي أن للثقافة التقليدية عنصرين: الأول عنصر عقلي، والثاني عنصر معاشي، وكلاهما موروث؛ فالأول يتكون وراثة من اللغة والدين والتاريخ والأدب والفنون الخ، والثاني يتكون وراثة من كل ما يتعلق بالأحوال المعاشية، وهي في مصر الزراعة وما يتعلق بها من المنتجات، ومن أجل أن يكمل استقلال الفرد استقلالا عملياً في الحياة، ينبغي أن يتجه تنشيئه إلى أصل أساسي، وبالأحرى إلى سياسة عملية ترمي إلى وصله بالعنصرين وصلا وثيقاً، حتى يستطيع أن يمثل جميع ما يلقح به من مقتضيات الثقافة الحديثة، فيكفيها على حسب ما تتطلبه حاجات ثقافته التقليدية، وأن ينفي عن جسمه كل ما هو غير ملائم له، فيضل سليما؛ شأن كائن اتصف بكل ما تمده به حيوية مكتملة من الصفات الضرورية للحياة، وتتكافأ في كيانه كل الأعمال المنظمة التي ترجع إلى قدرة أعضائه على تنظيم وظائفها المتبادلة تنظيما دقيقاً يساعد الطبيعة على أن تفسح له في الحياة مركزاً جديراً بما يتصف به من صفات، وبما له من مقدرة على الاستقلال بذاته تتصل مصر بثقافتين من أمجد الثقافات التي خلفها النوع الإنساني: ثقافة العرب: ديناً ولغة؛ وثقافة المصريين: فناً وحياة؛ ولاشك في أن الثقافتين تمتزجان الآن في المصريين امتزاجاً عظيما، حتى ليتعين علينا أن نقول إن ما نعني بالثقافة التقليدية ينحصر فيما ينتج مزيج الثقافتين القديمتين من حالات تشعر بأن ماضينا مكون منها، وأن دمنا ملقح بها، وأن تصوراتنا وأخيلتنا ومشاعرنا وجماع ما فينا من صفات إنما تنعكس عنها وتنبعث منها. وكذلك إذا قلنا (المصرية) فإنا لا نعني بها شيئاً إلا مزيج تينك الثقافتين المجيدتين اللتين كونتا لنا على مرور العصور تراثاً قوياً نستند إليه، ودعامة مثلى لمجد ينتظرنا إذا نحن استوحيناهما واسترشدنا بوحيهما، واتخذناهما أساسا نقيم عليه لمستقبلنا، ولم نعزف عنهما شأننا الآن

وإذن يكون لنا من ثقافتنا التقليدية ناحيتان: الأولى ثقافة تزودنا بها اللغة العربية والدين الإسلامي؛ وهذه الناحية تكون أكثر ما فينا من نزعات الأدب والعلم؛ والثانية ثقافة تزودنا بها مصر لقديمة؛ وهذه بدورها تكون متجهنا الفني والمعاشي، ومنهما معا يتكون ذلك التراث الخالد الذي ندعوه ثقافة المصرين التقليدية

ولن يكون هذا البحث كاملا إلا إذا عرفنا قيمة اتصالنا بهذه الثقافة ومقدار ما نحتاج إليها في تكوين نهضتنا الحديثة تكوينا نضمن معه الثمرة العملية التي ترجى من جيل جديد قادر على الكفاح في الحياة، والعمل المنتج الذي يعيننا على إقرار الحالات الاجتماعية على أساس ثابت، وآمل أن أكون قد أفلحت بعض الشيء في تصوير ذلك في سياق هذا البحث

لا ريبة في أن التعليم العام هو الأداة التي تمهد لنا سبيل الاتصال بثقافتنا، ولقد وضح لنا حتى الآن أن السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا قد أضعفت من وسائل هذه الأداة أضعافا ظهر أثره جليا في كل مرافقنا، بل وفي كل نواحي حياتنا عقلية ومادية

عمد الأوربيون منذ عصر النهضة الأدبية الحديثة إلى الاتصال بثقافتين أوربيتين كانتا العماد الأول والسنادة العظمى في تلك النهضة. عمدوا إلى ثقافة اليونان وثقافة الرومان، حتى لقد غالوا في ذلك باتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية في العلم وفي الأدب وفي الفن، فأحيوا بذلك ثقافتين لم يكن لهم مناص من إحيائهما لتكونا الوصلة بينهم وبين ماض صبغ ثقافته حوض البحر المتوسط قروناً بصبغة خاصة ولون خاص؛ ولا تزال جامعات أوربا حتى اليوم تعنى العناية كلها بتلقيح عقول الناشئين بتراث الثقافتين معاً، بل وتجعل درس اللغتين اليونانية واللاتينية أصلا من أصول التثقيف العالي، فلم كان ذلك؟ ولأي من الأسباب الحيوية التي شعر بها الأوربيون في بدء نهضتهم ترجع هذه الظاهرة؟ إنها ترجع كما قلنا إلى أن الثقافة التقليدية هي الأصل الذي يجب أن يضل ثابتا في بناء الأمم الأدبي والاجتماعي، ليكون ملقحا للآراء والنظريات وضروب الثقافات الدخيلة، احتفاظا بالطابع الأصيل في الأمة، ذلك الطابع الذي هو جزء من كيانها وقطعة من وجودها، وليكون في الوقت ذاته العدة في تمثيل ما يتصل بثقافة الأمة من الثقافات المنتحلة غير الأصيلة، وتكييفها تكييفا يتفق ونزعاتها ومشاعرها وأخيلتها، وعلى الجملة يتفق وثقافتها التقليدية. فهل اتبعنا في نهضتنا هذا السبيل القويم؟ وهل كفل لنا التعليم الوصول إلى هذه الغايات العليا؟

كلاَّ. لم يكفل لنا التعليم شيئاً من هذا. وأقصد به التعليم بناحيته: الناحية التي تمثل وراثتنا عن العرب لغة وديناً، وأعني بها الأزهر، فإنه لم يلقح بشيء من الثقافات الحديثة التي يجب أن يلقح بها لتكون له بمثابة الدم الجديد يجري في العروق القديمة. وكذلك لم تعن الناحية التي تمثل ثقافتنا الدخيلة: أي الثقافة الأوربية وأعني بها ناحية التعليم الزمني، بأن تكوّن فينا تلك الفطرة التي تصلنا بثقافتنا التقليدية لتكون معملا حديثاً يتحلل فيه ما يصلنا عن أوربا، ويخرج منها مصبوغاً بصبغة مصرية أصيلة. ومثل الأزهر في ذلك كمثل كائن حي هَضمَ ولم يأكل، ومثل التعليم الزمني كمثل كائن حي أكل ولم يهضم. فناحية جائعة وناحية متخومة

لقد ظل اتصال الأزهر بذلك الجزء الذي يمثله من ثقافتنا التقليدية غير مكيف بمقتضيات العصور والحالات التي قامت خلالها وهو أقل تكيفاً بمقتضيات هذا العصر منه بمقتضيات كل عصر مضى. أما إذا كانت كلمة الثقافة تدل على تكييف الذهن تكييفاً تاريخياً أول شيء - ونقصد بالتكييف التاريخي خلق تصورات جديدة من تاريخ الأمم القديمة - فما من شك إذن في أن الأزهر لم يتصل بالثقافة التقليدية من ناحيتها التي تخلق هذا التصور، وإنما اتصل بناحية من الثقافة التقليدية صدت التصوّرات عن الابتعاث في سبيل الابتكار. وكذلك ظل تعليمنا الزمني بعيداً عن الاتصال بثقافتنا التقليدية من جميع نواحيها تقريباً. ومن هنا ذلك الصدع المتنائي الذي نلحظه قائما بين الناحيتين

ولقد يخيل إلى أن ما مضينا فيه من بحث هذه الناحية كاف للبيان عما نقصده من ضرورة الاتصال بثقافتنا التقليدية من الوجهة العقلية. أما الوجهة الفنية المعاشية، وهي الناحية التي لها الأثر الأكبر في علاج الحالات الاجتماعية التي قامت حفافينا من الناحية الاقتصادية، فتلك ما سوف أصور كيفية الاتصال بها تصوراً عملياً لأن ذلك هو الغرض الأول من بحثنا هذا

إذا كنا ما قلنا صحيحاً من أن البطالة في مصر والتعليم أمران متصلان أشد الاتصال، باعتبار أن أحدهما مرض والثاني علاج، فالواجب يقضي علينا بعد أن أظهرنا أوجه الاتصال أن نبين عن الطريق العملي الذي يجعل العلاج ناجعاً في القضاء على الداء. ولما كانت ثقافتنا التقليدية من الوجهة المعاشية هي الزراعة تحتم علينا بحكم الضرورة أن ننقل درجتي التعليم الأوليين، أي الابتدائي والثانوي، وهما الدرجتان التكوينيتان في مراحل التعليم، من المدن إلى القرى، وأن نقيمهما على سياسة تختلف اختلافاً تاماً عن السياسة التي يجريان عليها الآن

تجري سياسة التعليم الآن في هاتين المرحلتين على أساس نظري بعيد عن أن يجعل لنا أي اتصال بثقافتنا التقليدية، من وجهتيها العقلية والمعاشية. وإني لا أكون مغالياً إذا قلت إن هذه السياسة لا تصلنا بثقافة أوربا أيضاً بحيث تجعلنا قادرين على فهم ما ننقل منها فهماً صحيحاً مفيداً. وما قولك في شاب يخرج من التعليم الثانوي جاهلاً بلغته العربية وأصولها وآدابها غير متصل بآداب دينه، غير عارف بشيء من تاريخ بلاده، وبالأحرى من تاريخ العرب أو تاريخ مصر، عاجز عن التعبير تعبيراً صحيحاً بأي من اللغتين الأوربيتين اللتين يتلقاهما في مراحل ذلك التعليم؟ أضف إلى ذلك أنه بجانب هذا يخرج من التعليم الثانوي غير متصل بشيء من ثقافة بلاده التقليدية من الوجهة المعاشية، غير متصل بطبيعة الأرض التي أنشأته أو بطرق استغلالها مشحون الذهن بنظريات وأوهام يتعذر معها أن يعايش الفلاح وأن يدرك شيئاً من سر حياته وتقاليده وخطراته ونفسيته. فكأننا بهذا التعليم نخلق من حوله جواً مصطنعا وبيئة عقلية غريبة عن طبعه؛ فيصبح بذلك أداة عاطلة في جسم الاجتماع وبزرة حية للتبرم من الحالات القائمة من حوله في مرباه، بل ومنشأ للقلق ومرتعا لغرس الأفكار المتطرفة الخاطئة؛ وعلى الجملة يكون موضعا خصبا لغرس بذور الشر والفساد، والعمل على قلب النظم الاجتماعية طمعاً في الحصول على نظم تلائم كفاياته وتتفق ومؤهلاته التي أهله لها التعليم. ذلك بأن كل عقلية لها تكوين خاص تنشد من طريقه دائماً البيئة التي ترضيها، وعجز المتعلم العاطل عن الإنتاج إنما يحمله بمقتضى موحيات عقله الباطن على أن يعمل على تكوين البيئة التي تلائمه متخذاً من النظم الاجتماعية التي نشأ فيها مادة يجرب فيها مقدار ما في نفسه من قوة التحليل، لا من قوة التشييد، على خلق البيئة التي ترضيه، والنظم التي توائم عقليته وكفاياته

إن الخطوة الأولى التي ندعو إليها وهي نقل درجتي التعليم الأولين من المدن إلى القرى، لخطوة ضرورية في علاج سياسة التعليم، وهي الخطوة الأساسية في وصل التعليم بثقافة البلاد التقليدية من الوجهة المعاشية. أما الخطوة الثانية فتنحصر في إقامة مدارس الحقول، فتشيد المدرسة على أرض فسيحة تكفي لأن تكون ميداناً يتعلم فيه الطلاب طرق الزراعة العلمية على القواعد الحديثة، ويجب مع هذا أن تلغى الشهادة الابتدائية ويكتفى بشهادة التعليم الثانوي، وأن يبدأ الطالب حياته التعليمية من الثامنة، ويفرغ من تعليمه الثانوي بعد عشرين سنة، فيخرج من المدرسة وله من العمر ثماني عشرة سنة أو عشرون سنة. فإذا أراد أن يتخصص بعد ذلك في التعليم العالي فله ذلك ولكن بعد أن يكون قد اتصل بثقافة بلاده التقليدية، وقامت معلوماته على أساس عملي رشيد، يكون إليه مرد رزقه إذا تخصص وعجز عن كسب رزقه الحلال.

هذا هيكل من الرأي يحتاج إلى شرح وجيز. فأننا لا نعني أن تعليم الطلاب في تلك المدارس الزراعة العملية يجب ألا يصل الطالب بالناحية النظرية، وإنما نعني أن يكون أساس التعليم فيها الزراعة العملية وما يتصل بها من العلوم، وبجانب ذلك تعليم نظري قائم في أول الأمر على الاتصال بثقافة المصريين التقليدية من الوجهة العقلية، مع العناية بأمر اللغات الأوربية عناية كبرى حتى يتيسر لنا الاتصال بثقافة العصر اتصالاً وثيقاً صحيحاً

أضف إلى ذلك أن الطالب ينبغي أن يلقن كل ما يتصل بالإنتاج الصناعي من الوجهة الزراعية، فيخرج ملماً بطائفة من الصناعات المتصلة بمحصولات بلاده الزراعية عارفاً بسرها ووجهة الانتفاع بها. وإني لن أغلي إذا قلت إن كثيراً من الذين ينجحون من أهل أوربا في بلادنا أكثر اتصالا بثقافة بلادنا التقليدية من الوجهة المعاشية من الطالب المتخرج في كلية عليا من كلياتنا. وفي هذا سر نجاحه العملي وسر عطل شبابنا عن العمل. ولهذا يتحتم علينا أن ندعو إلى نشر الصناعات، ولكن الصناعات التي تتصل أو شيء بمنتوجاتنا الزراعية، وأن نصدف عن غيرها لأنها لا تفيدنا شيئاً في حياتنا المعاشية أو تثبيت حالاتنا الاجتماعية المرتجة الشاذة. وبخاصة إذا وعينا أن دور التعليم على اختلاف نواحيها تخرج كل عام عدداً من المتعلمين تعليما غير عملي زائداً عن حاجة البلاد.

وإنما يجب أن يتجه التعليم في الحقول إلى غاية أخلاقية، محصلها أن يغرس في طبيعة المتعلمين تصور جديد في شرف المهنة التقليدية التي ورثناها عن أسلافنا، ألا وهي الزراعة. فإن التلميذ يجب أن يضع يده في كل عمل يمكن أن يؤديه الفلاح بنفسه، وأن يتصل من طريق عضلاته بكل ما تتطلب مهنة الزراعة من أعمال جسمانية، وأنه لا يرى في ذلك شيئاً خادشاً لعزته أو مذلا لنفسه

أورثتنا الحكم التركي المشؤوم عادة احتقار الفلاح، لأن كلمة (فلاح) كانت توازي عند التركي أحط ألفاظ الشتم وأشنع كلمات السباب. ولطول الأمد الذي اعتدنا أن نسمع فيه هذه الكلمة مؤدية ذلك المعنى غرس في طبيعة المصريين أنفسهم، بطريق التكرار ومستوعيات العقل الباطن، ميل إلى احتقار الفلاح واحتقار مهنته، والاعتقاد بأن العمل اليدوي في الزراعة إنما هو عقاب نفسي مرهق للنفس خادش للذة. وأنت ترى أن الأعراب في مصر قد انتحلوا هذه العادة. فإنك إذا سألت أعرابياً أفلاح أنت؟ أجابك على الفور: (كلا! أنا عربي!) ولكن بنبرات تدل على أنه يعتبر الكلمة اعتداء على مكانته السامية، وقد يكون من خشاش الناس ومن ذؤبان العرب، مهلهل الثياب قذر المنظر والمخبر.

ولم يقف الأمر عند هذا، بل إنك تجد أن الفلاح إذا قضى خدمته العسكرية وسرح من الجيش أنف أن يعود إلى الحقل أو أن يحمل المحراث أو يقود الماشية؛ فإذا عجز عن أن يكون شرطياً، قضى وقته في القرية عاطلا أو محترفاً حرفة أخرى غير الزراعة، فتجده نجاراً أو حداداً لا يملك قوت يومه. وقد يتطرف بعضهم في احتقار مهنة آبائه فيغشى المجالس عازفاً على قيثارة، لأنه كان في موسيقى الجيش، مستجدياً بها، كأنما هو يعتقد أن الاستجداء بالعزف على قيثارة أشرف من العمل في الحقول. ولاشك في أن هذه الظاهرة قد أورثت نقصا نفسيا يمكن تعليله علمياً، ولكن ليس هنا مكان إيضاحه. ولكن ذلك لا يحول دون القول بأن هذه الظاهرة من السهل علاجها بأن نعود أولادنا الاعتقاد بشرف المهنة التي تربي جسومهم، وعليها قامت مدينتهم منذ أقدم العصور، على أن نفهمهم أولاً أن لهم مدنية وماضيا جديرين بالاحترام

والمحصل أننا لن نخلص من نتائج البطالة إلا بالالتجاء إلى إقامة سياسة التعليم على قواعد جديدة أساسها الأول الرجوع إلى ثقافتنا التقليدية، فنخرج رجالا مستقلين بأنفسهم يعرفون كيف يرجعون إلى حضن أمهم الأولى (مصر) إذا أرادوا الحياة سعيدة هنية. ومن أجل أن نصل إلى هذه النتيجة ينبغي لنا أن ننتحي أسلوباً معيناً ينحصر في تنفيذ الآتي:

أولاً - جعل مدة التعليمين الابتدائي والثانوي عشر سنوات يمتزج فيها التعليم النظري بالتعليم العملي الزراعي، وأن يغرس في الطلاب روح الاعتقاد بشرف مهنة آبائهم التقليدية، وأن يقترن هذا التعليم بتلقين الصناعات الزراعية وبخاصة ما يتعلق بالزراعة العملية منها

ثانياً - درس تاريخ العرب والمصريين درساً تحليلياً وافياً

ثالثاً - درس مبادئ العلوم والآداب العامة، وهي الجهة التي تلقح بها عقولنا من الثقافة الحديثة

رابعاً - درس آداب العرب ومبادئ الدين العليا.

خامساً - درس عقائد المصريين القدماء وطرق معيشتهم وآثارهم وأعيادهم، وعلى الجملة كل ما يتعلق بحياة الجماعة في مصر القديمة

وهنالك بجانب هذا أشياء يجب أن يهيأ الناشئ بمعرفتها ولكنها جميعاً تفاريع عمل هذه الأصول فلا محل لذكرها

فإذا تخرج الطالب وله من العمر ثماني عشرة سنة أو عشرون أصبح على الحكومة له واجباً تؤديه، هو أن تمنحه قطعة من أرضها المملوكة لها يؤدي لها ثمناً قليلاً على أقساط طويلة، وأن تمده برأس مال إن احتاج إليه يسدد مع ثمن الأرض ليكون عونه على إعداد عدته لحياة العمل والكفاح

هذا طريق الخلاص، وهو وحده طريق القضاء على البطالة، وإخراج جيل جديد منشَّأٍ على طرق عملية، جيل مكافح عامل خال من آثار الأمراض الاجتماعية، جيل يشعر بأنه مستقل في الحياة وأن له عزة الرجولة وشرف الانتساب إلى مصر الخالدة، جيل، هو جيل الاستقلال الحقيقي والعمل لمجد النيل

إسماعيل مظهر