مجلة الرسالة/العدد 143/على شواطئ الآستانة
مجلة الرسالة/العدد 143/على شواطئ الآستانة
ساعة في متحف (طوب قبو)
للأستاذ كمال إبراهيم
وقصدت إلى دار السلطان، ومنازل الخلائف من آل عثمان، وقد أصبحت بما فيها متحف الزائر، ومُجتلَى الناظر، ومطاف المتفرج، بعدما كانت تطاول السماء في رفعتها، وتُصاول العُصم في منعتها، وكانت في حمّى كبطون القلاع، ومن يحم حولها يوشك أن يقع في شراك الموت
أجل، وكانت هذه المغاني التي نطيف بها اليوم، تفيض بالنعيم، وتختال في جلال الملك، وتزدهي بأبهة السلطان، وكان الزمان قد بسم لها بسمة الإقبال، ثم أغفى عنها حيناً، ولكنها إغفاءة اليقظان، فما لبث حتى بعدها حتى اهتاجت هوائجه، وانباجت بالشر بوائجه، فأحال حالها، وأهلك أهلها، وأباد سلطانها، وتركها عبرة للمعتبر، وعظةً للناظر:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
وكانت كجنة الخلد، موشيَّة الأديم، رفّافة النسيم، دانية الظلال، زهراء ناضرة، وعرائس القصر في مقاصيرهن، يصورن مباهج الحياة، وإشراق السعادة، وفتنة الوجود، فإذا ما خطرن في مطاف وشبهن، وسرن متثاقلات بحَلْيهن وحُللهن، خلت السعادة حيث كُنَّ، تقيم إذا أقمن، وترحل حيث يرحلن
من الهيف لو أن الخلاخل صُيرت ... لها وُشُحاً جالت عليها الخلاخل
مها الوحش إلا أن هاتا أوانسُ ... قنا الخط، إلا أن تلك ذوابل
وجنبات القصر موّاجة بالحشم والعبيد، والأبواب قائمة بالحجاب، والجميع ناكسة أبصارهم، عانية رقابهم، لعزة الملك، ورب الصولجان، وظل الله على الأرض. .
واليوم، واهاً لها اليوم، قد أقفرت من ذويها، وثكلت ساكنيها، وأصبحت خبراً يروى، وكتاباً يقرأ ويطوى
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
دخلت إلى تلك القصور المعروفة بـ (طوب قبو) وقد باتت متحف المتفرجين، وملهى الزائرين، يرودون الأبصار في آثار السلطنة الماضية، ويطوفون بين الأركان الباقية، ويتقلبون فيما خلفه الخلفاء، من عروض ومتاع، وحلل ونفائس، يقابل الداخل عن شماله، غرفة السلطان تصاقبها أخرى لمجلس وزرائه، وقد أبقيتا على ما كانتا عليه، وفي أعلى المجلس روشنٌ أعدّ لجلالته، يُشرف منه على جلساته، فإذا خرجت منه أفضى بك الطريق إلى قصور متفرقة جعل في كل منها صنف من العروض والأثاث، واللباس والحلل، والحلي والشارات، مما كان في بيوت السلاطين، وقد نسقت في معارضها أبدع تنسيق، ونمقتها يد الفن أجمل تنميق، وما هي غير نفائس العصور، وتحف الحياة ومعجزات الصناعة، وبواكير البراعة، التي أنفق حذقة الصناع فيها حياتهم، وحبسوا في نمنمتها جهودهم وأوقاتهم، فجاءت تخطف الأبصار بروائها، وتذهل الألباب بأناقتها وزخرفها. .
ينتهي الطائف بعد هذا إلى بيوت السلاطين، وقد أبقى كل منها على ما كان عليه في عهد من عاش فيه، وهي متصلة متداخلة، يفضي بك بعضها إلى بعض، ويسلمك منها مجاز إلى مجاز، حتى تضلك السبل، وتنفذ معك الحيل في تعرج الموالج والمخارج، ولولا دليل معنا خرِّيت لعمي علينا القصد، وأنفقنا الزمن في أخذ ورد
سرت في هذه القصور، وصور الماضين تمر من أمامي صامتة ناطقة، فصرت أقيم في كل ركن مشهداً، ومن كل حجر معبداً، وفي كل لوح منظراً مخلداً، حتى توزعتني الصور والرسوم، وغشيتني الأشباح والطيوف؛ وازدحمت في خاطري الأخيلة والذكريات؛ هاهي ذي الآثار الصامتات قد انتصبت لناظري حزينة تتوارى كأشباح الموتى، وهذه قواعد البيت كأنها بعض قواعد الأهرام، تفيض بعبر الدهر، وتنطق بغوائل الزمن وفجاءات القدر كل يوم، ومن يدري ما تخبئ لها الأيام بعد حين، وقد أصبحت بين عشية وضحاها كما تراها
عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك مني وليست الدار داري ... في اقتراب منهم ولا الجنس جنسي
أجل سرت في تلك القصور، وكأني بمواكب السلاطين الحافلة، غادية راحة في أيام الجمع والأعياد، وكأني بخليفة المسلمين قد خرج من قصره، في طلعة الخلافة، وأبهة الملك محفوفا ببطانته، مزفوفا من رعيته، تستره عن الناظرين، صفوف الحجاب، وهياكل الحرس، وقامات الشرطة بملابسهم المفوفة، وأوسمتهم المزخرفة، ومن ورائهم جماهير الشعب المحتشدة على طواري الدرب الكبير متدافعة، وقد استطالت الأعناق إلى اجتلاء تلك الطلعة المباركة، وأنفاس المصلين تملأ الجامع القديم (أياصوفيا) بالدعوات الصالحات، والكلمات الطيبات والابتهال إليه تعالى، أن يمد في حياة خليفة المسلمين، وينصره على القوم الكافرين
ويصاقب تلك القصور إلى شط البحر، جنة لفّاء، روحاء زهراء، يخترقها درب عريض، قامت على جانبه أشجار فينانة، وارفة غيدانة، مبسوطة الأمليد، ملتفة العساليج، وقد عقدت فروعها من فوقها سماء من الأوراق، تزري بزرقة السماء، حجبت شمسها إلا خيوطاً منها، فكانت كما قالت بنت زياد في وصف واد:
حللنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
تصد الشمس أنّى واجهَتنا ... فتتحجبها وتأذن للنسيم
وذكرت حين سرت هناك غريب اللسان، قول أبي الطيب في شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان
سرت في ذلك الدرب الظليل، ونواسم البحر الندية تجوس خلال أدواحه، وتتقلب بين أزهاره وأوراقه، فعبق شذاها، وطاب رياها، تلامس الوجه، فيتفتح لها الصدر، وتخلص لها الروح، أفضى بي السير إلى مسالك تنشعب من ذلك الدرب، تكتنفها ملاعب وميادين، ودارات ورحب، فإذا أمعن السائر في السير بدا له البحر متسع الأفق، وتزاحمت الآستانة لناظريه متعالية على ضفاف البسفور، وقد احتضنت الماء، وعانقت السماء، فكانت فتنة العالم، وسحر الوجود. فإذا ما بلغ شط البحر، وقد شطت بخياله تلك الصور والذكر، لاح له ذلك التمثال الفخم، وسط رحبة من الأرض، لرجل (تركيا) اليوم، فيعود به هذا المشهد الحديث، إلى الحقيقة بعد خيال، والى الحاضر بعد غياب، والى الساعة التي هو فيها بعد استغراق طويل
كمال إبراهيم
المدرس في دار المعلمين ببغداد