مجلة الرسالة/العدد 143/بين شكسبير وابن الرومي
مجلة الرسالة/العدد 143/بين شكسبير وابن الرومي
للأستاذ عبد الرحمن شكري
ليست هذه المقالة موازنة بين شاعرين، وإنما هي صلة بين قصيدتين لتقارب موضوعهما، وأعني قصيدة رثاء مارك أنطونيوس ليوليوس قيصر، وحث الجمهور على الأخذ بثأره، وقصيدة ابن الرومي في رثاء أهل البصرة عندما دخلها صاحب الزنج وفتك بأهلها وسبى نساءهم ومثل بهم أشنع تمثيل، وفي هذه القصيدة يحث ابن الرومي جمهور المسلمين عامة وأصحاب الشأن في الدولة العباسية تعريضاً على الأخذ بثأر أهل البصرة والنفير لقتال صاحب الزنج، وتقاربت القصيدتان في نظري أيضاً لمهارة ما أرى فيهما من الأسلوب الخطابي والقدرة على السيطرة على الجماهير بمختلف الأساليب الخطابية، فينتقل القائل فيهما من باعث للشعور إلى باعث، ومن عاطفة إلى عاطفة، ومن حيلة في إثارة النفوس إلى حيلة أخرى، ومن حجة إلى حجة، ومن ترغيب إلى إرهاب، ومن حنان إلى استفظاع، ومن رقة الذكرى الماضية إلى هول الكارثة، وتقرأ القصيدة منهما فتحس كأنها قطعة موسيقية توقع على مختلف الأوتار والآلات والأصوات لتعبر عن مختلف الأحاسيس، وتمتاز قصيدة شكسبير في أنها أبرع ما قرأت في شعر الغربيين من هذا النوع من التأثير الخطابي، كما تمتاز قصيدة ابن الرومي في أنها أروع ما في اللغة العربية من هذا التأثير الخطابي وأكثره تنويعاً لأساليب التأثير، ولا يقتصر تأثير القصيدة على كثرة وسائل إثارة النفس كما ذكرت، ولكن الشاعر فيها يستخدم تكرار بعض الأساليب والعبارات تكراراً يراد به زيادة التأثير الخطابي، والقصيدة لا تمتاز في ألفاظ أو عبارات منمقة فخمة، ولكنها تشعر القارئ كأنها قيلت ارتجالا أو أن إحساس الشاعر كان أسرع من أن يدع له مجالاً للأغراب في اللفظ والتنميق الصناعي، ففخامتها فخامة الشعور المتدفق، وعندي أن القصيدة خطبة أكثر منها قصيدة تقرأ في دعة وسكون، فيكون أثرها أتم وأعم إذا تخيل القارئ كارثة البصرة وما حل بها، وشارك الشاعر في شعوره وفي رغبته في إثارة أهل بغداد. ثم إذا هو قالها على أسلوب الخطباء متتبعاً اختلاف أساليب الشاعر في إثارة النفس مغيراً من صوته ولهجته في إلقائها حسب تغير تلك الأساليب، فإنه يجد فيها روعة لا مثيل لها في نوعها في اللغة العربية وقصيدة شكسبير تختلف من أجل أن الخطيب كان مضطراً أن يداهن الذين يريد إثارة الرومان عليهم، فحمدهم على أن سمحوا له برثاء يوليوس قيصر، ونفى عن نفسه العداء لهم كما نفى عن نفسه القدرة تمهيداً لإظهار قدرته، وكي يظن السامعون أن أثر المأساة هو الذي أثارهم لا قدرته الخطابية. ثم جعل يمدح قتلة يوليوس قيصر ومزج مدحه إياهم بالسخر الخفي، ثم ذكر فضل يوليوس قيصر على الرومان وكشف لهم عن جثته وأراهم جروحه الدامية وجعل يستدرجهم من طريق الرحمة والإقرار بفضل المقتول إلى النقمة على القتلة ومجاهرتهم بالعداء والتشنيع، وابن الرومي لم يكن في حاجة إلى مداهنة صاحب الزنج فكان يسميه اللعين من أول الأمر، ويكيل له الهجاء صاعا بعد صاع، ولكن انظر كيف يتدرج من التوجع لما حل بالبصرة إلى وصف دقيق لما أصابها من الزنج، ويبدأ وصفه بدخول الزنج المدينة فيقول:
دخلوها كأنهم قطع اللي ... ل إذا راح مدلهم الظلام
ثم يذكر كل ما حدث من قتل وذبح وهتك للأعراض وسبي وإحراق وتخريب وتمثيل حتى يأخذ الفزع بالقارئ مأخذه ثم يلتفت إلى الذكرى فيتذكر رخاء أهلها ونعيمهم وعمار المدينة وبهجتها، ثم يتوجع ويظهر الحياء من خذلانهم، ويذكر الناس بمحاسبة الله ومخاصمة النبي إياهم
ثم يلوح للناس بالعار اللاحق بهم ويحضهم على الأخذ بثأر أهل البصرة. والقصيدة طويلة تقع في أكثر من ثمانين بيتاً، ولما كان أثرها الخطابي يزداد من تراكم قول على قول وإثارة على إثارة لا من بيت القصيد أو من قطع ممتازة. فكل اقتطاف منها لا ينصفها، ولاسيما أن أسلوبها ليس بالأسلوب الذي يقرأ في دعة لديباجته بل يقال جهراً مع تنويع الصوت حسب مرمى الشاعر الخطيب
ويخل لي أن حافظ إبراهيم كان متأثراً بروح هذه القصيدة عندما نظم قصيدته في رثاء قصر الجزيرة وقصيدته في زلزال مسينا
ومن تكرار ابن الرومي المطرب المؤثر ترديده اللهف في قوله:
لهف نفسي عليك أيتها البص ... رة لهفاً كمثل لهب الضرام
لهف نفسي عليك يا فرضة البل ... دان لهفاً يبقى على الأعوام لهف نفسي لجمعك المتفاني ... لهف نفسي لعزك المستضام
أو ترديدكم في قوله:
كم ضنين بنفسه رام منجى ... فتلقوا جبينه بالحسام
كم أخ قد رأى أخاه قتيلا ... تَرِبَ الخد بين صرعى كرام
كم رضيع هناك قد فطموه ... بشبا السيف قبل حين الفطام
أو ترديد من في قوله:
من رآهن في المساق سبايا ... داميات الوجوه للأقدام
من رآهن في المقاسم وسط ال ... زنج يقسمن بينهم بالسهام
من رآهن يتخذن إماء ... بعد ملك الإماء والخدَّام
أو ترديد أين في قوله:
أين ضوضاء ذلك الخلق فيها ... أين أسواقها ذوات الزحام
أين فلك فيها وفلك إليها ... منشئات في البحر كالأعلام
أو ترديد أفعال الأمر في أخريات القصيدة، وهذا الترديد ما هو إلا ناحية من نواحي أسلوبها الخطابي ومثل من أمثلته وطريقة من طرقه المؤثرة، والأسلوب الخطابي نفسه ما هو إلا ناحية من نواحي الإجادة الشعرية التي تتعدد وسائلها في القصيدة، وفي القصيدة ناحية تزيد ألمها في النفس وهي إعادة الشاعر عرض فظائع القتل والتخريب والتمثيل بعد أن ينتقل بالقارئ أو السامع في هدوء إلى ذكرى نعيمها الزائل، وبعد أن يهدئ من روعه بعرض مناظر أمنها وسعادتها ودعة أهلها الماضية فكأنه ينكأ القرح بعد أن يضمده، ويضرب القلب بعد أن يربت عليه، ويجذب الأعصاب بعد أن تسكن
عبد الرحمن شكري