مجلة الرسالة/العدد 141/القصص
مجلة الرسالة/العدد 141/القصص
درامة من اسخيلوس
محاكمة أُورست أو ربات العذاب
(الدرامة الثالثة من الأورستية)
أول كوميدية إلهية مسرحية عرفها التاريخ
للأستاذ دريني خشبة
خلاصة الدرامتين الأوليين
(ذهب أجاممنون ملك آرجوس لفتح طروادة ولكن الريح العاصف حالت دون قيام الأسطول فضحى بابنته أفجينا ليهدأ ثائر البحر وأغضب بذلك زوجه كليتمنسترا التي انتهزت فرصة غيابه واتصلت بألد أعدائه إيجستوس اتصلا شائنا ونفت ولدها أورست حتى لا يعكر عليها صفو غرامها - ويعود أجاممنون بعد عشر سنوات فتقتله زوجته وعاشقها. . . وتمضي عشر سنوات أخرى فيكون أورست قد شب واشتد عوده فيعود ليثأر لأبيه من أمه، فيلقى أخته عند قبر والده تصب عليه خمراً مرسلة من الملكة بسبب رؤيا مفزعة خلاصتها أنها رأت نفسها تلد أفعى وتضمها إلى صدرها فتنفث فيه سمها ويتعارف الأخ إلى أخته ويتفقان على الخطة ويطرق أورست باب القصر الملكي متنكراً فتلقاه الملكة ولا تعرفه مع أنه ابنها فيدعي أنه قادم من لدن الأمير الذي كانت قد نفت ولدها عنده وأن ولدها قد مات. . .! وهكذا تجوز الحيلة على الملكة فترسل في طلب ابجستوس لتنهي إليه الخبر ولكن أورست يلقاه منفرداً ويقتله، فلما تجيء الملكة وتشهد مقتل حبيبها تعرف كل شيء وتعرف أن القاتل ولدها لا غيره. . . ثم ينقض أورست على أمه فيقتلها بعد جدل طويل
ولكن أورست يكون قد ارتكب أكبر جريمة تعاقب عليها الآلهة وهي قتل الوالدين فتتمثل له هامة أمه وتفزعه وتروعه حتى يجن جنونه فينطلق إلى معبد أبوللو يتوسل إليه أن يحميه لأنه هو الذي أمره بإنفاذ هذه الجريمة. . . ومن هنا تبدأ الدرامة الثالثة)
- 1 -
المنظر: (في الأديتون - صومعة أبوللو - في دلفى)
نحن في الأديتون. . . في مثوى أبوللو الخاص؛. . وقد قامت بيثونة الإله الكبير، سيد الشمس، ورب القوس، وصاحب السهام الذهبية. . . تصلي للأرض المباركة، ولا بنتها ذيميس، ولإحدى بنات النيتان. . . فوبيه. . . التي تشبه باسمها فوبوس. . . الذي هو أبوللو. . .
والبيثونة، كاهنة أبوللو، ذات لسان رطب، وهي لا تكل من أن تستطيل صلاتها، فتذكر مينرفا وما روى الناس من أساطير عن مينرفا. . . و. . . تنتهي بعد لأي صلواتها. . .
وندخل معها إلى مثوى أبوللو؛ ولكنا نخرج مذعورين وجلين، كما تخرج هي وجلة مذعورة. . . لأننا نرى أورست المسكين راكعاً بين يدي تمثال الإله يبكي. . . ويصلي. . . ويضرع إلى أبوللو أن يحميه من ربات العذاب. . . الزبانيات الضاريات. . . اللائى رحن يطاردنه في كل حدب، ويأخذن عليه سبيله في كل صوب. . . وبودّهن لو تمكنّ منه فهرأن لحمه، وحطمن عظامه، ثم دفعنه في حميم فليجتون، بما قتل أمه وأغضب الآلهة
وتذعر البيثونة لأنها ترى إلى إحدى يدي أورست ملطخة بالدم الذي سفحه، وترى إلى يده الأخرى تحمل غصناً غضاً نضيرا. . . هو غصن الزيتون؟! وكيف يجتمع الدم المسفوك، وغصن الزيتون؟
مسكين أورست! لقد ركع بين يدي التمثال يصلي ويبكي، ومن حوله الزبانيات الضواري يتربصن به. . . هؤلاء الجرجون السفاحات. . . اللائى تتحوى الأفاعي في رؤوسهن، ويغلي السم في أنيابهن، ويضطرب الموت الأسود في أظفارهن!!
ويسقط في يد البيثونة، ولكنها تدعو لمولاها أبوللو أن يحمي بيته من هؤلاء المتمردات
- 2 -
وينفتح باب الصومعة على مصراعيه، فنرى أبوللو نفسه، ونرى أورست المعذب ما يبرح يبكي ويصلي، ونرى إلى الجرجون من حوله يكدن يبطشن به، ولكن أبوللو يكلمه ويحتفي به ويذهب عنه الروع الذي يضنيه
- (ليفرخ روعك يا أورست فأنا ربك وحارسك وسأظل آخر الدهر معك. . . قريباً منك أو بعيداً عنك. . . تراني أو لا تراني. . . دائماً معك. . . دائما. . . وسأكون أعدى أعداء من عداك. . . حتى ولو كان من أعدائك هؤلاء الجرجون آلائي ترى. . . فأنه لن يصل إليك منهن ضر، ولن يصيبك منهن أذى. . . فإني قد ألقيت عليهن غفوة، وأسكرت مقلهن بخمرة الكرى، فهن في سبات عميق حتى تكون بنجوة منهن. . . الشريرات عدوات الآلهة والناس أجمعين. . .)
ويهدأ أورست قليلا، لأنه ينظر فيرى إلى الجرجون ساكنات نائمات كما أخبر الإله، ويصل أبوللو حديثه فيقول: (. . . وليس عليك إلا أن تنطلق من فورك هذا فلا تلوي على شيء حتى تكون في معبد مينرفا فاسجد تحت قدميها سجدة تستجمع فيها نفسك وقلبك وآلامك. ثم تبثها شكواك وتتوسل إليها أن تأذن فتحكم بينك وبين الزبانيات، ربات الذعر، هذه الجرجون؛ ولا تخش عقدة في لسانك فسأكون إلى جانبك، وسأنافح عنك وأشد أزرك، ولن يؤودني أن أضع عنك هذا الوزر الذي يثقلك، مادمت أنا الذي أمرتك أن تقتل أمك الفاسقة. . . وستنطلق الجرجون في إثرك، فإذا أدركنك فلا يروعنك أن يأخذنك فيلببْنك تلبيبا، ثم لا يروعنك أن يتواثبن بك فوق الآكام ويسحبنك فوق النؤى ويطوحن بك فوق البحر اللجي. . . فانك واصل بأذني، وعلى عيني إلى حيث ألقاك في معبد مينرفا)
فيكفكف أورست عبرته ويقول: (تباركت يا سيد الشمس وتقدست أسماؤك، ولا غفلت عينك الساهرة عن عبدك المنيب. . . ولا زلت تدركني برحمتك يا أرحم الراحمين!)
فيجيبه أبوللو: (ولا زلت أوصيك بالتجمل والصبر، فلا تقذف بالروع في قلبك، ولا تدع للذعر إلى روحك سبيلا، وسأوصي بك أخي هرمز، حامل الأرواح إلى ظلال هيدز، يمهد لك، ويوطئ سبيلك حتى تكون في مُتوجَّهك)
ثم يرف أبوللو فيكون في السماء. . . ويخرج أورست
- 3 -
وتنعقد سحابة في جو الصومعة، ثم تنكشف عن شبحٍ قاتم سادر، هو شبح كليتمنسترا. وكأن نوم الجرجون يشدهه فيقول: - (يا هياهْ! يا هياه! هَياَ! هَياَ! جورجون! غطيط! تنامين وأذرع الظلمات مفضوحةً بمن قتلني! انهضن يا ربات! إنهم يصرخون في وجهي: مجرمة! آثمة! أنا؟ أنا مجرمة وقد قتلني ابني الذي حملته وغذوته؟. . . ما شغلكن إذن إذا نمتن عن هذا الوزر؟ ألم أكن أقرب لكن القرابين وأضحي الأضحيات من خمر كلها غَوْل في دجنّة الليل؟! أفهكذا تضيع إضحياتي عندكن وينجو قاتلي دون أن تمسكن به؟ انهضْن! انهضن فحسبكن ما ألم بكن من كرى! انهضن فقد لاذ بالفرار قاتلي غير مبالٍ بكن؟ أنا كليتمنسترا؟ أهتف بكن يا ربات الظلمات! أنا. . . القتيلة التي يسبح ظلها في مملكة الأحلام!)
- (خيخ!. . . خيخ. . .! خيخ. . .! خيخ. . .!)
- (خيخ؟. . . ما هذا الفخيخ يا ربات؟ إنه يضطرب في حلوقكن فيكون شخيرا، ثم يرتد في أنوفكن فيكون نخيراً! هَيا! لقد أفلت قاتلي! ولدي! لقد كلأته قدرة سماوية بينا أنا مهجورة هنا!)
- (غيط. . . خيخ. . .! غيـ. . .)
- (غيط! ما هذا الغطيط وقد انفتل قاتلي! ما أنتن هنا؟ أورست ابني. . . أطلق ساقيه للريح يا ربات، فمن غيركن يأخذه بقتلتي؟)
- (أو. . . هـ. . .)
- (أوه؟ هَيا! البدارَ البدار! يا للضنى!)
- (أو. . . هـ. . .)
- (حتى النوم والتعب يشدان أزر المتآمرين!)
- (خيـ. . . . خ. . . (وتستيقظ الجورجون) أمسكن! أمسكن! مِن هنا! من هناك! حذار!)
- (آي! أنتن تتصدين المجرم في شبكة أحلامكن! وما تبرحن متثائبات! يا للعار؟ انهضن يا ربات ولا تستسلمن لهذا الخمول! بحسب قلوبكن وخزة من ضمير حي لو يستيقظ! هَياَّ هَيا! اقصصْن أثره! ولينزع شِواه زفير من جحيم أنفاسكن هيا هيا!!)
(ويغيب الشبح)
- 4 -
وتنهض الجورجون فيروعهن ألا تجدن أورست وقد طاردنه طويلا، وكدن يبطشن به لولا احتماؤه بصومعة أبوللو. . . ويبر من ويتسخطن. . . ويشتد غضبهن على أبوللو نفسه، لأنهن يفطن إلى أنه هو الذي ألقى عليهن هذا النعاس الذي صرفهن عن واجبهن. . . (غير مبال أن تخرق قانون الآلهة، ولا مبال أن يتلطخ وحيدك بالإثم والدم، كأنك تتحدى ربات المقادير. . . ولكن هيهات! هيهات أن تستطيع حماية هذا الآثم الذي يلوذ بك. . . فأنك ستشهده بعينيك يتلظى في حر جهنم. . . وستضاعف حمايتك العمياء له عذابه. . . . . .)
وما يكدن يفرغن من برمهن، ويمسكن عن قولة السوء التي أرسلنها، حتى يبدو طيف أبوللو:
- (. . . . أغربن اغربن! آمركن ألا تبقين في صومعتي! هَلاَ! وإلا فستبيدكن نفثات الثعبان الذي يتحوى في قوسي! الأرقم! أتجهلنه؟ أغربن يا سبب شقاء الناس ونافثات السم في جراح البرايا! لا تنتهكن هذا الحرم المقدس الأطهر بظلالكن البشعة، النكراء! أغربن من هنا، وتعثرن بالموت والأرزاء في سبل الشباب الذي تذوين، والحيوات التي تشقين والأنفاس البريئة التي تحشرجن في صدور الأطفال. . .! بحسبكن أنين الموتى، وجؤار القتلى، وسكرة الموت؛ تخضض المفجوعين والمفئودين! أغربن من هنا. . . . وليكن مأواكن في مغارة ذئب أو كهف سبع ينهش فريسته التي ما تزال تئن وتتوجع. . . فصومعتي أطهر من أن تدنسها أدرانكن! أغربن قلت لكن، فما انفكت لعنة السماء عليكن وغضب الآلهة والناس أجمعين! هيا. . . هيا. . . يا هتاه!)
- (أيها الإله أبوللو! أصغ إلينا وعِ! أنت لم تكن شريك هذا المجرم الذي حميت في وزره فقط (حين قتل أمه) ولكنك كنت الآمر الموحي؛ فعليك يقع الجرم كله. . .)
- (وما برهانكن؟ هراء. . . هراء. . . .)
- (نبوءتك التي أوحيت بها. . . . تقضي أن يقتل الغلام أمه!!)
(لقد صرحت، غير متردد، لابد أن يثأر الفتى لأبيه!)
- (وها قد تقبلت الغلام، وما انفك الدم يقطر من يديه!)
- (لا. . . . ولكني أمرته أن يستغفر لذنبه هنا!)
- (ولكنه لم يأت ليستغفر، بل أتى يلوم ويعتب ويعذل. . . يعتب عليك ويعذلك يا حاميه!؟)
- (وأنتن؟ ماذا جاء بكن وأنتن غير جديرات بأن تقربن قدسي!!)
- وظيفتنا يا سيد الشمس! هذا عملنا الذي ارتضينا يوم اقتسم الآلهة شؤون الحياتين!)
- (ماذا؟ عملكن؟ وما عملكن يا ربات الذعر؟)
- (أن نقتص آثار قبلة الآباء وننفيهم من الأرض!)
- (وماذا تصنعن بمن يقتلن أزواجهن من النساء؟)
- (هذا دم لا يعنينا لأنه من دماء ذوي القربى، فلا شأن لنا به!!)
- (بعدتُن عن الشرف والنبل إذن، وعن العدالة كذلك! أن ذلك ينافي القداسة الزوجية التي تقر بها حيرا لزوجها زيوس سيد الأولمب، وينافي ما قضت به ربة الحب من وجوب الوفاق والمحبة بين الزوجين. . . إن العلاقة بين الزوج وزوجه أكبر من أن تكون قسما اقسماه! فإذا حدث أن قتل أحدهما الآخر ولم يثر ثائركن لهذا القتل فمن يأخذ المجرم بجرمه؟ وماذا تكون الحياة إذا لم يكن فيها قصاص؟! إنكن إذن تطاردن أورست ظالمات!! فبينا تأخذن بالشدة والعنف مجرماً لا تقع عليه - في الحق - جريرة ما صنع، إذا أنتن تغضين عن مجرمين ضجت الدنيا بآثامهم وتلطخت الفضيلة بأوزارهم، فما لكن كيف تقضين؟! وليكن الأمر ما يكون، فسيعرض الأمر كله على مينرفا لترى فيه رأيها!)
- (مهما حاولت فلن نعفي القاتل من أن يلقى جزاء ما جنت يداه!)
- (اقصصن أثره إذن وافعلن ما بدا لكن!!)
- (ولكن لا تستهزئ بحقنا المقدس في ثنايا كلمك!)
- (أنا لا يعنيني حقكن المقدس ولا أبالي به أو بكن!؟)
- (. . . . . . إن رائحة الدم المسفوك. . . . دم الأم المذبوحة. . . قد أتى بنا إلى هنا، ولا بد من أن نقتحم هذا المأوى ونقبض على المجرم!)
وسأحمي هذا اللائذ بي إلى النهاية! سأناضل عنه مادامت العماية تغطش أبصاركن! أنني إذا تخليت عنه، وتركته لبطشكن، غير متأب ولا ناقم فستضج السماء والأرض، وتزلزل الجبال. . . وتنقم الإلهة. . . ويسخط الأولمب. . . أغربن. . . أغربن! هيا. . . يا ربات الذعر. . . زادتكن السماء مسخاً!) (وتنطلق الجورجون. . . ويغيب أبوللو)
(البقية في العدد القادم)
دريني خشبة