مجلة الرسالة/العدد 140/قصة المكروب
مجلة الرسالة/العدد 140/قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
اكتشف بستور لقاحا لداء الكلب هو عبارة عن 14 حقنة من مكروبه بعد إضعافه إضعافا متفاوتا في المقدار يحقن به المريض. وجرب هذا في الكلاب فكان النجاح. فلما أراد تجريبه في الآدميين تخاذل وخشي العاقبة. حتى جاءه ولد عضه كلب مسعور فأشار عليه الأطباء بتجربة اللقاح فيه لأنه ميت لا محالة ففعل ونجح اللقاح، وكان أول لقاح نجح في آدمي
عندئذ ذهبت عن بستور مخاوفه، وفارقته وساوسه. فكان موقفه من هذا الطفل هو عين موقفه من أول كلب حقنه رُو باللقاح في مخه بغير رضا أستاذه. خشي بستور على الكلب أن تُثقب جمجمته، فلما ثَقَبها رُو بغير علمه وصحّ الكلب من بعد ذلك، أكَبّ بستور على رؤوس الكلاب تثقيباً وعلى جماجمها تخريقاً. وهاهو ذا الآن يخشى عاقبة اللقاح الجديد على الطفل المكلوب؛ فلما صح الطفل واشتَفىَ من دائه، ماتت في نفس بستور شكوكه ومخاوفه، تلك الشكوك والمخاوف التي لم تتغلغل أبدا في نفسه تغلغلا كبيرا، ومع هذا تراءت له جسيمة واضحة، أرته إياها نفسه الفنّانة وهي تكثّر القليل وتجل الغامض. ثم إذا به يصيح للدنيا يُعلن أهل الأرض أن في إمكانه دفعَ الكلَب عنهم وحمايتَهم من بلواه
وأخذت جماهير المكلوبين المعذبين تتدفع إلى معمله بشارع ألم تطلب ربّه، ربّ المعجزة الكبرى. وجاء على هذه الحُجر القذرة القليلة حينٌ من الدهر وقف فيها البحث العلمي وقوفا كاملا. واشتغل بستور وعَوْناه في فرز الخلائق التي اجتمعت عليهم من كل أمة. وتعدّدت لغاتهم، فكنت تسمع أنغاماً متنافرة، وألسنة متباينة، كلها تصيح صيحة واحدة: (بستور! أنقذنا!) فلبى نداءهم وأنقذهم؛ هذا الرجل الذي لم يكن طبيباً يوماً ما؛ هذا الرجل الذي كان يقول في سخرية يمازجها العُجْب: (هل أنا إلا كيميائي؟). نعم أنقذهم رجل العلم هذا الذي قضى حياته ينازع الأطباء ويخاصمهم خصاماً مرّاً؛ أنقذهم بأن حقنهم بتلك الأربع عشرة حقنة من مكروبه المجهول المضعَف بعضَ الإضعاف؛ تلك الأربع عشرة المعقّدة التي لم يستسغها عقل أو يألفها منطق: حَقَن تلك الأربع عشرة فيهم ثم ردّهم بعدها مُعافين إلى أركان الأرض الأربعة
وجاءه من روسيا من بلدة سملنسك تسعة عشر فلاحا من الموجيك عضهم ذئب مسعور قبل ذلك بتسعة عشر يوماً. وجرح الذئب خمسة منهم جروحاً بالغة فعجزوا عن السير فلم يكن بد من إرسالهم إلى المستشفى الكبير. وكان منظر هؤلاء الروس غريبا في طواقي الفرو فوق رؤوسهم وهم ينادون: (بستور! بستور!) وهي الكلمة الوحيدة التي عرفوها من لغة البلد الذي حلّوا فيه
وثارت ثائرة باريس - على نحوٍ لا يعرفه إلا باريس - قلقاً على هؤلاء المنكوبين الذين لا مفرّ لهم من الموت بعد أن طال الزمن عليهم مذ عضهم الذئب بنابه. وتحدّثت باريس فلم يكن لها غير هذا من حديث. وقام بستور ورجاله بحقن الألقحة في هؤلاء المناكيد الذين نضب حظهم من الحياة وقل رجاؤهم فيها. فالعشرة كان يعضهم الذئب فيموت منهم على المعروف ثمانية، فكان على هذا الحساب لابد أن يموت من أصحابنا خمسة عشر
قال الناس حيثما اجتمعوا: (من الجائز أن يموتوا جميعاً فلا ينجو منهم أحد؛ فقد مضى على عضهم أسبوعان وزيادة. مساكين والله! وستظهر عليهم أعراض الداء، وستكون شديدة فظيعة. ضاع الرجاء فيهم وحُمّ القضاء!)
ولعل الناس صدقوا فيما قالوا! ولعلهم حقا جاءوا بعد فوات الأوان! وعزّ على بستور الطعام، وعزّ عليه النوم، فأنه خاطر فأمر رجاله فحقنوا الألقحة الأربع عشرة في هؤلاء التعساء صباح مساء ليقتصدوا نصف الأيام الضائعة عسى أن يلحقوا بالداء فينفع الدواء
وأخيراً صاح بستور صيحة الفخر العالية، وصاحت باريس وفرنسا والدنيا أجمع صيحة الشكر، وأنشدت أنشودة النصر حارّة داوية. فاللقاح أنجى الفلاحين الروس إلا ثلاثة. فعاد الناجحون إلى بلادهم فاستقبلهم بذلك السرور الرهيب الذي تجده القلوب إذا هي دُعيت للترحيب بميّت منشور، للترحيب بهؤلاء الرجال المرضى الذين ودّعوا بلادهم والأمل منهم مقطوع، فزاروا لا شك حرماً قدسيا لولي من أوليا الله، ثم عادوا يسعون على أرجلهم إلى ديارهم سعي الأحياء. وبعث قيصر الروس الأعظم إلى بستور صليب القديسة حنا الماسي ومائة ألف من الفرنكات ليبدأ بها في بناء بيت لصيادة المكروب. فقام هذا البيت في شارع ديتو وهو المعمل الذي يُسمى اليوم معهدَ بستور. وجاءه غير المائة ألف مال من العالم أجمع، من كل قطر من أقطاره، وكل ركن من أركانه، حتى تكدّست لدى بابه الملايين من الفرنكات ليبني بها المعمل ليقتنص فيه مكروبات فاتكة أخرى، وليجد لها فيه ألقحة ماضية أخرى. نعم تكدست الملايين على بابه، فقد كانت عاطفة قوية تلك التي أندت أكُف هذا الخلق الكثير، عاطفة قوية كالتي تثيرها المصائب إذا نزلت بالناس فادحةً شاملة
وتم بناء المعمل؛ ولكن كان عمل بستور في الحياة قد تم كذلك. فلقد كان نصره الأخير كبير الوقع في نفسه، ثقيلا على فِقار ظهر احتملت أثقال العمل الشديد مدة أربعين عاماً في تواصل لم يُسمع بمثله أبدا، فناء جسده تحت آخر الأحمال، وانقطع وتره بآخر الأثقال، فمات في عام 1895 في بيت صغير كان على مقربة من البيوت التي حفظوا بها عندئذ كلابه المسعورة في فلنوف لياتنج ' على أطراف باريس. ولفظ آخر أنفاسه كما يلفظها الكاثوليكي العريق في كَثْلَكَته أو الصوفيّ وقد كانه طوال حياته: في إحدى يديه كان الصليب، وفي اليد الأخرى كانت يد أكثر أعوانه صبرا وأقلهم شهرة وأكبرهم خطرا - تلك مدام بستور. وكان حول سريره عَوْنه رو وعونه شمبرلاند، وأعوانه الباحثون الآخرون؛ أولئك البُحَّاث الذين براهم نشاطه الجمّ في حياته برياً؛ أولئك البحاث الذين أسلموا له المقاد فدار بهم في هجيرة العمل دوراناً مستديماً قاسياً مرا؛ أولئك الأعوان الذين أوحى إليهم من وحيه واقتبس لقلوبهم قبساً من قلبه؛ أولئك الخلصاء الذين خاطروا بأرواحهم في إنفاذ خططه الجامحة في محاربة الموت، قاموا اليوم حول سريره يودُّون أن يفتدوه لو أمكن الفداء
هكذا انتهت حياة هذا الرجل خير انتهاء. هذا الإنسان الغالي في إنسانيته، صائد المكروب ومنجي الأرواح، الثائر الوثّاب، الناقص الخطّاء!
ولكن لبستور خاتمة حياة أخرى يتجه لها خاطري أكثر من اتجاهه لهذه. كانت في عيد ميلاده عام 1892 حين استتم سبعين عاماً كاملة، فاحتفلوا به في السربون بباريس احتفالاً عاماً رائعاً كبيرا أهدوا إليه وساما. وكان لستر حاضراً، وكان رجال كثيرون مشهورون من أمم أخرى حاضرين، فاحتل هؤلاء العظماء رقعة المكان الدنيا حيث مجالس العظماء، واحتل الطبقات العليا من حولهم شباب فرنسا وطلاّب السربون والكليات والمدارس العليا؛ وامتلأ المكان بالأحاديث، واختلطت به أصوات فيها رنة الشباب. وفي برهة قصيرة انقطعت الأحاديث، وهدأت الأصوات، وخيّم على المجتمع صمت رهيب؛ ففي الممشى تراءى بستور يجر خطاه عرجا؛ وقد أخذ رئيس الجمهورية بذراعه واتجه الاثنان إلى المنصّة في رأس المكان، وصدحت موسيقى الحرس الجمهور بدور جَلْجَلَ في الفضاء، كذلك الذي يُتَحي به الأبطال العظماء وقد عادوا من ساحة النصر بعد أن روَّوْها عبثاً بدماء الأعداء، وحجبوا آثراها بغير طائل بألوف الأشلاء
بستور يموت
وكان في الحاضرين لِسْتر أمير الجرّاحين، فقام واحتضن بستور؛ وهتف الشيوخ الإجلاء من مجالسهم، والشبان الطُّلاّب من شرفاتهم، حتى ارتجت الحيطان؛ وأخيراً جاء دور الكلام لصاحبنا صياد المكروب الشيخ، وكان قد ذهب عنه صوته الحديد الرعّاد الذي كان يرفعه في الخصومات عاليا، فقام نجله يقرأ عنه خطابه؛ وكان ختام هذا الخطاب أنشودة للرجاء، لا بما تضمنته من خلاص الأنفس، بل على الأكثر بأنه دعوة دينية حارة تفتح للرجال سبيلا جديداً من الحياة؛ وكان بها يدعو شباب الجامعة وطلبة المدارس العالية، قال:
(لا تسوموا أنفسكم التشككَ في الأشياء، فالتشكك أرض قاحلة لا تُنبت، وسحاب جَهام لا يُمطر؛ ولا تحملوها على الريبة في قيم الأمور وأوضاعها فتحملوها على الزهادة وتُفقدوها الثقةَ بالله. واحذروا أن تركنوا إلى اليأس من أجل ساعات سوداوات تأتي على الأمم! ذلك أن لكل حالة غاية، ولكل كرب نهاية، والليل الأسود يعقبه النهار الضاحي. اطلبوا العيش في المعامل والمكاتب، ففي أجوائها الساكنة تجدون طمأنينة النفس وسلامها. سلوا أنفسكم: ماذا صنعتِ أيتها الأنفس بالذي كان من تعليم وتثقيف؟ فإذا تقدمت السنُّ بكم فسلوها ثانية: وماذا صنعت لهذا البلد الذي من أرضه كان غذاؤك ومن مائه كان ماؤك. حتى إذا جاءتكم الشيخوخة فلعلكم عندئذ تجدون أكبر الهناءة في الإحساس الغَمْر اللذيذ بأنكم ساهمتم مع المساهمين وعملت مع العاملين بطريقة أياً كانت لتقدم هذه الإنسانية ولخيرها. . .)
(انتهى بستور)
أحمد زكي