مجلة الرسالة/العدد 14/محمد
مجلة الرسالة/العدد 14/محمد
للشاعر الفيلسوف جيته
بقلم الأستاذ الجليل معروف الأرناءوط
أولع جيته شاعر ألمانيا الأكبر وأديب الإنسانية الأعظم في شبابه بأشعار الشرق وأقاصيصه، وبلغ من ولعه بمحاسن الشرق حداً جعله يتهافت على دراسة ماضي شعوبه، وفي سنة 1772 قرأ جيته للمرة الأولى ترجمة القرآن للأستاذ ماغرلين فسحرته بلاغة سورة إبراهيم، كما استهوته طفولة محمد، هذه الطفولة البارعة التي أمضاها في بيت حليمة السعدية مرضع الرسول اليتيم، وكان جيته على نصرانيته يشعر بصفاء الإسلامية وطهارتها، فعكف على دراسة حياة محمد وخرج من هذه الدراسة التي وهب لها عواطفه واحساساته بروايته التمثيلية (محمد) وهي مأساة في ثلاثة فصول أودعها جيته أرق أشعاره وأعذبها، وكان أمتع فصول هذه الرواية التي لم تنقل لسوء الحظ الى اللغة العربية ذلك الفصل البارع الذي صور فيه شاعر ألمانيا الأكبر محمد معتزلاً قومه ليعيش في الريف، وفي هذا الفصل يتحدث الرسول الى الكواكب، ثم يفتح صدره لله فيغمره بنوره الخالد، ويخرج يتيم مكة بعد ذلك الى العالم نبياً ورسولاً.
ومما هو جدير بالذكر أن رواية محمد لم تكد تظهر في ألمانيا حتى راح خصوم جيته يتهمونه بالكفر والخروج على النصرانية فنشر جيته على أثر ذلك رسالته المشهورة وعنوانها: لماذا آمنت بمحمد، وذكر فيها أنه أحب محمد كما أحب عيسى بن مريم، وانه يرى في الإسلام ديانة الخلق السامي الصحيح.
وقد نقلنا بعض فقرات من هذه الرواية العظيمة ليقف القراء على رأي سيد أدباء العالم في سيد أنبياء العالم.
الفصل الأول - المشهد الأول
(محمد ينظر الى الكواكب. . .)
أواه! لا أستطيع ان أفرق بينك يا أشعار السماء، الا ترين الى نفسي وقد برح بها شجن بليغ عنيف، لقد كان من أرضى أماني هذه النفس أن تهب احساساتها لكل كوكب؟ فما قدرت على ذلك؟ فأي هذه النجوم الفواتن يسلفني السمع ويسترق صلاتي؟ أي هذه النجو ينظر الى طرفي الدامع الضارع؟
أي كوكب العشية الساجية الرخية الظل، أنك لتجوز نواحي الأفق، في حاشية من بروق فتانة، ثم تواريك هذه الغلائل الرقيقة فتنأى عني فأناديك، ألا عُد الى مسفرك وأنظر اليّ، فأنني أولعت بك أشد الولع، وهمت بفتونك وإشراقك.
أثابك الله أيها القمر، أنك لأفضل من يرشد هذه الكواكب، ويقودها الى عوالم الضياء والبهاء، فأنر طريقي ولا تذرني هائماً في هذه الظلمات مع شعبي السادر الحائر!
وأنت أيتها الشمس التي تخلع ظلها على الأشياء والناس، ظلليني بنورك البهي وقودي خطواتي، ولا يحجبك عني سحاب أو ضباب!
أواه! أتتوارين عن عيني في الأسداف البعيدة أيتها الشمس، يا من غدا أمرها فتنة لجميع الناس.
من يجذبني إليك أيها القدير العظيم، من يقربني منك يا من خلق الأرض والشمس والقمر والسماء وخلقني أنا في لحظات، من يقربني منك فأغسل قلبي بنورك الذي لا يغيب.
المشهد الثاني (محمد، حليمة)
(محمد): أي حليمة! لماذا جئت في هذه الساعة الهانئة الصافية؟ أكان وفودك عليّ لأثارة حياتي الراكدة الساجية؟
(حليمة): جنّب نفسك الخوف يا بني فأني ما زلت أبحث عنك منذ غارت الشمس واطفل النهار، ناشدتك الله الا تعرض شبابك الرقيق الناعم لأسواء الليل ومخاطره.
(محمد): يفرق الرجل الرديء الخبيث من متوع النهار كما يفرق من سحر الليل، وذلك لأن الرذيلة تجلب التعاسة، أما أنا فلست ذلك الرجل الذي يعاف متوع النهار وبهاء الليل، فلقد غمر الله نفسي بضوئه، وخلق من حولي عالماً يزهر شبابي ويريق عليه سحره وفتونه.
(حليمة): ولكني أخاف عليك وأنت في عزلتك في هذا الليل البهيم أن يدهمك اللصوص والسراق.
(محمد): ألا ترين إليّ؟ أنني لم أكن وحدي في هذا الريف الضحيان فلقد أبى الله سيدي ومولاي وخالقي إلا أن يصاحبني في هذه الوحدة.
(حليمة): أرايت الله يا بني؟ (محمد): وأنت ألا تبصرينه؟ أنه غير بعيد عني، ولا يبرح يتراءى لي عند الينبوع الدافق الهادر، وتحت السرحة الغناء، وفي الظل الرقيق البهي. . لقد توافى إلي من عليائه فأحسست حرارة حبه، وشق صدري وأنتزع من قلبي حوباته حتى يتاح لي أن أفهم معنى حبه!
(حليمة): ولكنك تحلم! إذن كيف يقدر لك أن تحيا وقد شق الله صدرك؟
(محمد): سأصلي صلاتي لله فلعله يضيء عقلك فلا يبدو لك حديثي غامضاً مبهماً
(حليمة): وأي اله هذا الذي تعبد؟ أهو اللات أم هو هبل؟
(محمد): أي شعبي التعس! أنك لتظل السبيل وتنزع الى الحجارة والأصلاد فتجعل منها الهاً يعبد! ولكني ما زلت أحبك على شديد تعسك، وهذا الحب الشديد العنيف هو الذي يحفزني الى مصارحتك بأن هذه الحجارة التي تصلي لها لا تستطيع أن تستمع لك، وليس في ميسورها أن تفتح لك ذراعيها.
(حليمة): أين يسكن الهك؟
(محمد): إنه في كل مكان يا حليمة!. .