مجلة الرسالة/العدد 14/صور من التاريخ الإسلامي
مجلة الرسالة/العدد 14/صور من التاريخ الإسلامي
عمر بن عبد العزيز 62 - 101 هـ
للأستاذ عبد الحميد العبادي
3
ود الحكماء من قديم لو أن ملوك الأرض كانوا فلاسفة أو لو أن الفلاسفة كانوا ملوكاً؛ أذن لاقترنت السياسة بالأخلاق على أساس ثابت مطرد. وتعاونتا جميعا على النهوض بالمجتمع الإنساني، ولاستحال علمنا المضطرب جنة راضية ونعيما مقيما.
وكثيرا ما كتب الحكماء في نظم عامة ابتدعتها أخيلتهم وزعموها توفر على الناس في هذه الدنيا اللذة والسعادة، وتنفي عنهم الألم والشقاوة: فعل ذلك أفلاطون في (الجمهورية) والفارابي في (أهل المدينة الفاضلة) وتوماس مور في (اوطوبيا) كما فعله كثير غير هؤلاء ممن ترسم آثار أفلاطون ونسج على منواله.
هذا الحلم الجميل تحقق أو كاد في التاريخ مرة واحدة على ما نعلم، وذلك على عهد الخليفة العربي المسلم عمر بن عبد العزيز، فهو رجل ألقت إليه المقادير بزمام أعظم دولة في الأرض في زمنه، ومع ذلك استطاع أن يقدع شهوته حتى كاد يميتها، وأن يروض نفسه حتى ردها إلى الرضا بالقليل الأقل. ثم تجرد لإصلاح رعيته من طريق العدل والرفق والرحمة فأذاقهم لذة الأمن واليسر والرضا. وفوق هذا وذاك قد ترامت همته إلى ما وراء قومه وبلاده، فطمع أن يجمع شعوب الأرض طراً في نظام واحد يقوم على مبادئ الاخوّة والعدالة والمساواة. وقد وفق ابن عبد العزيز في هذا المطمع البعيد توفيقاً حدَّ من مقداره يا للأسف، أن عجلت إليه المنية وهو لا يزال في ميعة العمر وعنفوان الحياة.
قد اجتمع في تكوين هذه الشخصية العجيبة عاملا الوراثة والبيئة معاً، فأبوه عبد العزيز قد ولي مصر عشرين سنة دلَّت على ثقافته العالية واضطلاعه بأعباء الحكم، وبصره بتآلف القلوب، وجده مروان بن الحكم هو ذلك السياسي الجريء العارف بنفسية الأفراد والجماعات، والخبير بانتهاز الفرص عند إمكانها. وأما نسبه لأمه، فأمه أم عاصم بنت عاصم بن
عمر بن الخطاب، وكفى بانتسابه إلى تلك الشخصية العظيمة تعريفا بسبب من أسباب ورعه وجراءته في الحق على نفسه وغيره.
وليس أثر البيئة في تكوين بن عبد العزيز بأقل من أثر الوراثة فقد ولد بالمدينة عام 62هـ وشب بها على أصح الروايات. فلما ولى أبوه مصر عام 65 هـ حمل إليه، ولبث بمصر زمنا ما، نعم فيه بصحبة أبيه ومشاهدة آثار الحضارة المصرية والبيزنطية، وهنا رمحته دابة فشج شجته التي عرف من أجلها بأشج بني أمية، فلما بلغ سن التأديب بعث به أبوه إلى المدينة ليتأدب بها وينشأ نشأة إسلامية مدنية، وكانت المدينة إذ ذاك بيئة مركبة غير بسيطة، يعرف فيها من يحللها الروح الديني الصحيح ماثلا في نفر من بقايا الصحابة وكبار التابعين، أمثال أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، كما يعرف فيها الجانب الأرفه من الحياة ممثلا في مثل عبد الله بن جعفر أول نصير لصناعة الغناء العربي، وطائفة من المغنين والقيان يتقدمهما معبد ومالك بن أبي السمح المغنيان المدنيان الشهيران. ثم أن المدينة كانت إذ ذاك من الناحية السياسية موطنا للمعارضة التي تستند إلى الكتاب والسنة في مقاومة الحكومة الأموية. في هذه البيئة تخرج أبن عبد العزيز، فروى الحديث عن حملته ورواته، ولقف صناعة الغناء وأعانه على المساهمة فيها صوت ندي عذب. كما أشرب روح الحكومة الإسلامية القديمة التي كانت تختلف عن الحكومة الأموية اختلافا كبيراً. إلى ذلك كله كان أبن عبد العزيز فتى مليح الخلقة ناعماً مترفاً كعادة فتيان بني أمية. يروى أنه أبطأ يوماً عن الصلاة فسأله مؤدبه صالح بن كيسان عن سبب إبطائه فقال (كانت مرجلتي تسكن شعري) فكتب مؤدبه بذلك إلى أبيه، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق شعره.
في عام 85 هـ توفي عبد العزيز بن مروان بمصر، وكان أبنه عمر قد تم تأدبه بالمدينة، فأجتذبه الخليفة عبد الملك بنمروان إلى الشام وزوجه من أبنته فاطمة، ثم ولاه (خناصرة) وهي بليدة من أعمال حلب واغلة في البادية. فلبث والياً عليها سنتين كانتا من أنعم سني حياته وحياة زوجه. وقد أعجبته خناصرة حتى أنه عندما استخلف اتخذها منزلاً على عادة ملوك بني أمية في إيثارهم سكنى البادية على الحاضرة. وفي عام 87هـ اختاره الخليفة الوليد بن عبد الملك لولاية المدينة بدلا من هشام بن إسماعيل المخزومي الذي أساء السيرة في أهلها، ولا شك أن الوليد إنما اختار عمر للمدينة لما يعلم من المشاكلة القوية بينه وبين هذه الولاية، ثم أنه بعد قليل ضم إليه مكة والطائف فاصبح عمر بذلك أميرا على الحجاز كله.
كانت حكومة عمر ابن عبد العزيز بالحجاز (87 - 93) حكومة شورية أبوية يمازجها من ناحيته الشخصية مقدار غير قليل من الحرص على الترف والتنعم. فلأول قدومه المدينة اصطفى عشرة من العلماء اتخذهم نصحاء ومستشارين يصدر في الأمور عن رأيهم، ثم عكف على إصلاح شؤون الحجاز فهدم المسجد النبوي وأعاد بناءه على نحو أوسع وأروع، وأصلح الطرق، وأكثر من الآبار وتيسر بذلك الماء في ذلك القطر الظميء، كما أنه عمل بالمدينة فوارة يستقي منها أهلها، وقد اعجب الخليفة بتلك المنشآت عندما زار المدينة سنة 91هـ وأمر للفوارة بقوام يقومون عليها، وأن يسقى أهل المسجد منها، ففعل عمر ذلك. ومن مظاهر بساطة عمر في إمارته بالحجاز انه جلس مرة في المسجد يرتِّل القرآن بصوته العذب فتأذّى بذلك سعيد أبن المسيب على غير علم منه بصاحب الصوت، فلم ير عمر بأساً بان ينتحي ناحية أخرى من المسجد. وبلغه أن قاضيه على المدينة استخفه الطرب عندما سمع جاريته تغني حتى أخرجه من وقاره، فعزله عمر، ولكن القاضي المعزول تحدى الأمير لسماع الجارية، فسمعها عمر وكاد هو أيضا يستخف فعذر القاضي وردَّه إلى عمله. وعندما قدم الفرزدق الشاعر المدينة وكانت السنة ممحلة وخاف أهل المدينة لسانه رفعوا أمرهم إلى عمر فأخرجه من المدينة ونهاه أن يعرض لأحد من أهلها بمدح أو بهجو. أما من حيث حياة عمر الشخصية في تلك الفترة فكان مترفا مسرفا في الترف، يرخي شعره ويسبل أزراره ويلبس الثوب تبلغ قيمته مئات الدنانير، ويكثر من الطيب حتى لتقصف ريحه إذا مشى مشيته (العمرية) وهي مشية كان يتبختر فيها ويختال، ولملاحتها كانت الجواري تأخذها عنه.
حادث واحد نغَّص على أبن عبد العزيز إمارته على الحجاز: ذلك مصرع خبيب بن عبد الله بن الزبير فقد نقم الخليفة الوليد من خبيب أشياء بلغته عنه وكتب إلى عمر أن يضربه فضربه عمر ضرباً كان فيه هلاكه. وقد جزع عمر لذلك جزعا شديداً، ويقولون انه لبس المسوح سبعين يوما حدادا على خبيب، ثم أقلع عن ذلك. فلما استخلف دفع ديَّة خبيب إلى أوليائه، ومع ذلك كان يرى أن الله لابد مؤاخذه لذلك الذنب، فكان إذا بشره أحدهم بالجنة قال: (وكيف بخبيب!).
وغدا الحجاز ينعم بأمن وعافية مما ابتليت به الأمصار الأخرى ولا سيما العراق من الفتن والقلاقل، ولذلك أخذت فلول ثوار العراق والخوارج تفد على الحجاز فراراً من وجه الحجاج وسيفه المسلول، فكان بن عبد العزيز يجيرهم ويحميهم. ثم لم يكتف بذلك فكتب إلى الخليفة يندد بعسف الحجاج وبطشه. فاضطغنها الحجاج عليه وكتب إلى الخليفة يشكو من أن أمير المدينة يجير (مراق) العراق وان ذلك موهن له. وقد نظر الخليفة في الأمر ملياً، ثم رأى أن يشدُّ أزر الحجاج في هذه الخصومة، فالعراق أخطر من الحجاز والحجاج أولى بالمصانعة من عمر بن عبد العزيز، فصرف عمر عن الحجاز بأميرين أحدهما للمدينة والآخر لمكة. فكان أول ما صنعاه أن أخرجا من الحجاز إلى الحجاج كل عراقي في الجوامع والأغلال، وتوعدا كل حجازي أنزل عراقيا أو آجره داراً.
خرج ابن عبد العزيز من الحجاز إلى الشام مغاضبا للخليفة الوليد، وقد ساءه أن عزل عن إمارة المدينة حتى قال لمولاه مزاحم وهو ببعض الطريق: (أخشى أن أكون ممن تنفيه المدينة) إشارة إلى الحديث الوارد في أن المدينة تنفي خبثها. فلما حصل بالشام شغل نفسه بالغزو فراراً من وجه الوليد والتماس الأجر والسلوى. فلما توفي الوليد عام 96 هـ وولي سليمان بن عبد الملك لزمه عمر، وكان أثيراً عنده يستشيره سليمان وينزل على رأيه في كثير من الأمور، على إن عمر نفعه أن عزل عن الإمارة على النحو المتقدم فقد دفعه ذلك في السنوات الست التي قضاها بالشام قبل أن يستخلف (93 - 99) إلى النظر في حال الدولة العربية في أواخر القرن الأول الهجري.
نظر فإذا الدولة الإسلامية قد أبعدت في التخلي عن الصفة الدينية التي كانت لها قديما وأسرفت في الاصطباغ بالصبغة الزمنية المتطرفة، أليست حكومة عبد الملك والوليد والحجاج ويزيد بن المهلب حكومة تجبر وطغيان؟ أليست حكومة سليمان حكومة الشهوة العطشى والجسد المنهوم؟ لقد أصبح السلطان يعتمد في شد أركانه وتقوية دعائمه على القوة الغشوم والسيف المرهف. أما العدل وأما الرفق وأما الرحمة فلم يعد لكل ذلك عنده محل ولا حساب. ونظر فإذا أموال الدولة قد عراها الخلل والاضطراب من كل نواحيها. فنحو ثلث أموال الدولة قد استحال ملكا خاصا لبني أمية وأكثر الضرائب يجبى من غير وجوهه، ويصرف في غير مصارفه الشرعية. فكثير من الأراضي الخراجية التي لا يصح تملكها قد استحالت أرضاً عشرية يتملكها أفراد من المسلمين يؤدون عنها الزكاة التي مقدارها أقل من مقدار الزكاة. وكثير من الموالى أو مسلمي الأعاجم لا يزالون مع إسلامهم يؤخذون بالجزية لغير ما سبب سوى أن العمال لحظوا في إسلامهم معنى الفرار من الجزية فأبوا أن يعفوهم منها. هذا فوق أن هؤلاء الموالي لم يكونوا والعرب سواء في الحقوق، فكانوا يغزون إلى جانب العرب دون أن يكون لهم عطاء. ثم إن عدم إنفاق الزكاة في مصارفها الشرعية قد ادى إلى كثرة الفقراء والمساكين والمرضى والزمنى ممن جعل لهم الشرع حقا في الصدقات العامة ثم نظر فرأى بأس الأمة الإسلامية بينها شديد، قد توزعت الفرق المتباغضة والأحزاب المتناحرة، فمن شيعة يطوون الصدور على الإحن لما نالهم به بنو أمية من أذى ومساءة، ومن خوارج يتحينون الفرص لهدم النظام القائم وإحلال نظامهم محله، ومن موال قد ساءهم إلا يسوى بينهم وبين العرب في الحقوق العامة، ومن مضرية ويمينية وربعية كل يحاول أن يكون له النفوذ السياسي من طريق الولاية على الأقاليم والتأثير في السلطان نفسه. هذا في الداخل أما في الخارج فرأى عمر إن الجهاد الذي شرع على عهد النبي (ص) لمنع العدوان على النفس والعقيدة والذي كان على عهد الشيخين ضرورة اقتصادية ملحة قد استحال في زمن الأمويين أداة للتوسع في السلطان وجر المغنم الوافر والسبي الرائع حتى قال الشاعر:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
نظر عمر في كل ذلك فرده إلى سبب جوهري واحد هو انحراف الجماعة الإسلامية عن الأساس الذي قامت عليه، أساس الدين. والدين عند عمر هو الدين المتصل بالحياة العامة يمدها ويغذيها بقوته المعنوية والممسك لشؤون الجماعة أن تضطرب وتصبح فوضى، هو الدين الذي أثره في الحاكم شعور قوي بالمسؤولية وعمل صادق على إسعاد العباد والترفيه عنهم والذي أثره في المحكومين اقتضاء للعدل إذا حرموه وأنفة من الضيم والذل إذا ما أريدوا عليهما، الدين عند عمر بن عبد العزيز: هو الحق والإنسانية عبر عنهما بلفظ واحد.
وبينا عمر يرسل الفكر في أنحاء الحياة الإسلامية العامة متعرفا عللها إذا به في الوقت نفسه قد أخذ يخضع لتطور نفساني عنيف. لقد أخذ حرصه على الترف والتنعم يضعف رويدا رويدا وميله إلى الزهد والتنسك يقوى شيئا فشيئا وأصبحت نظرته إلى الحياة نظرة إلى متاع قليل زائل لا يعدل شيئا بجانب طمأنينة النفس وراحة الضمير كما أصبح دائم التفكير في الموت وفيما بعد الموت، فالموت آت لا ريب فيه؛ والموت برزخ مؤد إما إلى جنة وأما إلى نار والمنتهى على كل حال رهين بما يكون عليه المرء في العدوة الدنيا من ذلك البرزخ الرهيب.
ما سر هذا التطور العجيب الذي جعل من ابن عبد العزيز الناعم المترف ناسكاً زاهداً متصوفاً؟ نتبين ذلك السر في نفسية ابن عبد العزيز من جهة؛ وفي مقدار تأثره بالحياة الإسلامية العامة لذلك العهد من جهة أخرى.
لقد كان في عمر نزوع طبعي إلى الزهد فهو كما رأينا من سلالة عمر بن الخطاب؛ وكان في طفولته يحاول التشبه بخاله الزاهد عبد الله بن عمر ولما تورط في أمر خبيب لبس المسوح سبعين يوما يأسا من غضارة ولذاذة الحياة فلما نصح بالإقلاع عن ذلك أقلع. ثم أن الحياة الإسلامية قد ألمت بها في أواخر القرن الاول نزعة زهد جاءت كرد فعل للمادية التي طغت عليها إذ ذاك. هذه النزعة التي تحولت بعد ذلك إلى الحركة الصوفية المشهورة نتبينها في طبقة العباد والنساك التي يتكلم عنها صاحب العقد الفريد طويلا. وقد خضع عمر لتأثير هذه الطبقة وهو في المدينة فكان من أشد الناس تأثيرا فيه عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة. فلما صار بالشام خضع لتأثير رجلين يعتبران بحق من أقطاب عصرهما علما وزهدا وورعا. هذان هما الحسن البصري ورجاء بن حيوة الكندي. أما الحسن فقد اتصل به عمر من طريق المراسلة ولعله قد أخذ عنه كراهية القول بالقدر الذي ينسب إلى الحسن خطأ. وأما رجاء فقد كان مستشار سليمان بن عبد الملك وكان لذلك أقرب إلى عمر وأقوى به اتصالا.
وبعد فلئن كان النظر في الأحوال العامة قد انتج لعمر ضرورة الرجوع إلى الدين في إصلاح غيره؛ فقد انتج له مزاجه الخاص وتأثره بالزهاد من أهل عصره ضرورة الزهد من اجل إصلاح النفس وتهذيبها. الدين والزهد، هاتان هما الخلتان اللتان كانتا تعمران فؤاد عمر وقلبه عندما أخذ صلحاء الشام يرشحونه للخلافة.