مجلة الرسالة/العدد 14/العبقرية علم وأدب وفن
مجلة الرسالة/العدد 14/العبقرية علم وأدب وفن
للأستاذ الحوماني
أمامك ما تحسبه في الطبيعة كائنا ومكيناً من عظمة وقفت عقولنا دون حدها أو تصورها، فكنا أمامها ولا نزال حائرين لا إلى الرشد كل الرشد فنتبين مصدرها، ولا إلى الجهل كل الجهل فنصدف عنها بطبعنا. لأن الحي لا يستطيع أن يفكر فيما وراء حياته. فهو يريد أن يقيس ما خفي عنه على ما بدا له، ولعل ما يبدو له هو خلاف الحقيقة التي ينشدها من وراء ما يحس إذ يمكن أن يكون ما يتراءى له اليوم حقيقة ينكشف عنه الغد خيالا، نتيجة كذب في حس أو خطأ في فكر.
وربما كان ما يأتيه العقل في يقظته وهو قيد الحواس حلماً يبدو له بعد تحرره من رق هذه الحياة الدنيا، فتكون نسبة ما نأتيه اليوم إلى ما ندركه بعد الموت كنسبة ما نأتيه في الحلم إلى ما ندركه في اليقظة.
فإذا ثبت لدينا أن في الأثر لا محالة جزءاً من روح المؤثر ثبت بداهة إن هذه النفس جزءا من القوة المسيطرة على الكون أو القائمة به ضرورة، إنها (أي النفس) إحدى جزئياته الداخلة في مفهوم كلياته.
فالإرادة كما يبدو لنا هي أول خصائص النفس وقد كانت الكنز الأولى في خزانتها ولكن هل هي الجزء الذي ينم على الفكرة التي ابتدعتها في الكون؟
قد تكون كذلك إذا ثبت لنا أنها هي جماع ما في النفس من جمال، ولكن أنّى لها أن تكون كذلك وليست هي المثل الأعلى في الإنسان بله الحيوان بداهة أن مناطها في النفس حب البقاء والسيادة والاستمتاع؟ فالمرء يريد بطبعه ألا يتناول من الخارج إلا ما يتصل ببقائه وسيطرته واستمتاعه.
فإذا كان ذلك مناطها ورأينا أن الصلاح كثيرا ما يكون في كتبتها وصدها عما تأتيه، علمنا إذ ذاك أن المثل الأعلى في النفس الذي يشير إلى حكمة الصانع الاول هو غير الإرادة.
ثم إذا استعرضنا ما تأتيه هذه الإرادة من عمل بعد تنفيذه أو في طريق هذا التنفيذ، نحس بشيء يشعرنا بصحة هذا العمل أو فساده. فما هو أذن ذلك الشيء الذي نشعر به في أنفسنا غير الإرادة؟ هل هو ذاتها، فيصبح كون الشيء ضداً لنفسه أم غيرها فيثبت لدينا أن الحي مركب من إرادة تفعل، ونفس تفعل، وتنفعل وشيء آخر يشرف عليهما فيكوّن من الفعل والانفعال مثلا أعلى هو ذلك الجزء المنبعث من الحكمة المبدعة الأولى؟
ثم على فرض وجود هذا الثالث، فهل وجد مع النفس كالإرادة ثم نمّاه فعل الإرادة في الخارج إلى حد أصبح معه ذا سلطة عليها في كثير من الأحيان؟ أم هل تكون في النفس من تصادم الإرادات ضرورة بقاء المجموع ليضمن بقاء الفرد فيكون وجوده متأخرا؟
وهذا إنما يتضح في إجماع العقول الناضجة مثلا على استحسان أمر له علاقة في بقاء المجموع واستقباح أمر آخر يتعلق بفساد المجتمع فيربِّي هذا الإجماع المستمر في النفوس ملكة كبت الإرادات والمحاكمة بينها فتكون هذه الملكة أم هذا الموجود الثالث الذي نسميه فكراً تارة ومعقولا تارة أخرى، إن صح تعاقب هذين اللفظين على معنى واحد كما سيمر بك.
وعلى كلا الأمرين فأنا نشعر أن في ذواتنا نفوسا تتدافع وتتصادم في الحياة فتحرك هذه القوالب بأمر من الإرادة أو تتحرك هي بإرادة أخرى تتصادم وإرادتها، ذاتية كانت أو عرضية.
ثم نشعر إن ضمن هذه النفوس إرادات تسيِّرها إلى ما خلقت له طبعا، فهي تريدك على الطعام والشراب والمتعة ضرورة أن هذه من مقومات حياتك.
ونشعر بعد ذلك أن هنالك ما يستعرض هذه الأوامر الإرادية ثم يعرضها على الحياة فيصل بها إما إلى صلاح فيستمر معها وأما إلى فساد فيصدها. ذلك هو الفكر قبل الحكم وهو يستعرض ويقيس، وهو نفسه العقل والهوى بعد الحكم متسلطاً على الإرادة أو خاضعاً لها.
ومن الصعب جدا تحديد أي الثلاثة في طريق تحديد الآخر منها لشدة تمازجها والصلات المتأصلة بينها.
وربما كان أصدق تأويل لها هو أن النفس إنما هي الوسيلة الأولى لتنفيذ أوامر الإرادة والأعضاء هي الوسيلة الثانية. على أن العقل هو الحاكم الأعلى المشرف على المجموع، ينتهي الحكم عنده سلبا أو إيجابا. فالإرادة في الطبع تأمر والعقل يوقع والنفس تنفذ مباشرة، في الداخل أو بواسطة الأعضاء في الخارج. والنفس تنفرد دونهما في النوم والجنون والإغماء ونحوها، إذا صح أن لا إرادة للمجنون بناء على إن الإرادة مناط أمر النفس بما يعوزها طبعا لا اجتماعا، والمجنون قد يفعل ما يضره في الطبع بله الاجتماع. فالإرادة لا تحمل الحي إنساناً كان أو حيواناً على أن يلقي بنفسه من شاهق كما يفعله المجنون أحيانا، من اجل ذلك تتحقق فيه النفس دون الإرادة والعقل.
وهكذا هي في النائم دونهما إذا صح أن العقل الباطن الذي هو زعيم الأحلام ليس إلا خيال العقل الظاهر الذي هو زعيم اليقظة وحقائقها كما اعتقد، لا أنه حقيقة مستقلة تتكون من تجاريب العقل الظاهر التي أخفق معها في حاضره أو ماضيه. ولكن العقل اليقظ المتخيل الذي ينتزع من الحقائق خيالا غريبا ينطبع خياله هذا في مرآة النفس فيفعل فعله منتزعا من أخيلة الحقائق في اليقظة أخيلة غريبة في النوم: وإذا لم يكن العقل الباطن هو نفس العقل الظاهر يبدو ضعيفا لضعف مركزه العصبي المتأثر بالنوم إلى حد يختل معه نظامه، فيكون تناهي العقل بالحدة إلى درجة التخيل المبتدع. وتناهيه بالضعف إلى درجة خرافات الأحلام. وكلاهما ينتزع من بين حقيقتين أو حقائق خيالا مزعجا في الحلم أو رائعا في اليقظة، وكما يصيب في يقظته المغيبات أحيانا كذلك هو في حلمه. . . إذا لم يكن كذلك فهو خياله المنطبع على مرآة النفس يتضاءل لبعده عن الحقيقة فيظهر مبتراً منقطعا.
وأما الإرادة والعقل فملزومان للنفس لا انفراد لهما دونها، فحيثما وجدت الإرادة والعقل كانت النفس ولا عكس.
ماذا وراء النفس بعد الإرادة؟؟
يقولون أن هنالك عقلا وفكراً وخاطراً وضميراً، ان هنالك ذهنا وفطنة وذاكرة وذكاء، إن هنالك شعورا وعاطفة وخيالا. وليست العبرة في تعداد هذه الخصائص في الإنسان ولا في نسبتها إليه وإنما العبرة في تحديد كل منها وبيان ما يميزها من غيرها من الخلال ولغموض هذه الفروق نرى الكثيرين يخلطون في الكلام عليها، من أجل ذلك يجمل بنا قبل تحديدها إن نتمثل فيما يعرضها واضحة الحدود.
لنفرض أن لك صديقا حميما قد كثر غشيانك إياه في منزله الذي يضمه وأجمل فتاة قد اقترن بها، وفي كل زيارة ينمو في جسمك حب هذه الفتاة، لما ترسل إليك من نظراتها الساحرة ويملأ نفسك من ورائها جمال نفس يفيض على فمها رقة وابتساما، والى جانب هذا الحب تنمو في نفسك صداقة الزوج لما يغمرك به من فضل وإحسان إلى رقة طبع ودماثة خلق وليس ما تربي في نفسك من ولاء أخيك وحب فتاته بأقل مما يحمل الزوج لك من ولاء. وتشعر به الزوجة نحوك من غرام.
تبادلتما هذا الحب وبدا لك جليا واضحا هيامها بك وشوقها لك من عينيها الشاخصتين إليك ونظرها المسبغ عليك، ثم بدا لك أن تزور صديقك في وقت كنت مضطراً معه إلى أن تراه، وكان هو مضطراً فيه إلى ان يغادر مكانه، فكنت والزوجة خليين في منزل واحد وعلى مقعد واحد يناجي كل منكما الآخر بما يجول في نفسه، فيبدو جليا على عينه رقة وفي حديثه تقطعا وفي حركاته اضطرابا. ثم امتد الأمر بكا إلى أن هم كلاكما بصاحبه فكانت هي أشد ثورة منك، فأول ما تتحرك فيك الإرادة والرغبة؛ ولكنك قبل أن تنفذها أو تباشر بتنفيذها تلحظ ما يحف بهذا العمل الذي أقدمت عليه بدافع قوة الإرادة الحيوية، تلحظ ما يحف بهذا العمل (وهو إشباع نفسك من جمالها) من أمور خارجية منها ما يدفعك إليه ومنها ما يردعك عنه. فمن الاول التمتع بالجمال الماثل أمامك والذي هو في متناول يدك، ثم أمان العاقبة وشيوع الأمر المفضي بك إلى العار ثم إشباع نفسها من جمالك لتأمن مكرها فيما إذا هي أخفقت منك.
ومن الثاني خيانة صديقك البار بك والتعدي على جمال ليس لك فيه حق، وتشويه هذا الجمال بما تخفيه من دخيل داء.
لابد من ملاحظتك هذه الأمور واستعراضها جملة أو متفرقة في زمن واحد أو أزمنة مختلفة تتخللها فترات قصيرة. فأي العوامل كان أقوى أثرا في نفسك لقوته في الخارج كانت له السيطرة عليك داخليا فكان قائدا لك.
فأما أن يكون الاول فيجذبك إليها وتلبث زمنا ما تعبث بجمالها والشهوات تقيمك وتقعدك بين يديها. وأما أن يكون الثاني فيصدك عنها وتخرج ناصع الجبين مطمئنا إلى راحة الوجدان.
تجري هذه المحاكمة بناءاً على سلامته بذلك واستقامة نظام الحياة فيك وإلا فلضعف الأعصاب. وهي بعض مراكز هذه الخصائص تأثير قوي في صرف الإرادة وتعضيدها.