مجلة الرسالة/العدد 139/تلخيص كتاب:
مجلة الرسالة/العدد 139/تلخيص كتاب:
الحاكمون بأمرهم
تأليف جاك بانفيل
بمناسبة وفاته في 10 فبراير سنة 1936
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
(أيها العظماء! هل تريدون المجد؟ موتوا)
فكتور هيجو
وهذا أيضاً رزء فادح نزل بفرنسا، إذ لم يكد جاك بانفيل يتبوأ مقعده بين الخالدين في كرسي الرئيس بوانكاريه في مارس الماضي حتى اختطفته يد المنون من مجلسه الرفيع؛ وهكذا فقدت فرنسا والمجمع في ثلاثة أعوام متعاقبة ثلاث كفايات متقاربة. فذهب بوانكاريه (الذي لا يرتشى ' ثم ذهب (لويس بارتو) صاحب (ميرابو) وصاحب (دانتون) وأخيراً مات بانفيل
كان الثلاثة دعاة كبار لمجد فرنسا؛ ولكم شنوا الغارة على موجة الاشتراكية التي انداحت على أرض فرنسا فردتها خطوات واسعة إلى الوراء
كان بوانكاريه في الحرب وفي السلم، وفي قصر الأليزيه أو في (الكي دورسيه) أو في (المحكمة) فرنسيا وفرنسيا فقط؛ وهكذا كان الشهيد (بارتو) حتى في (مصرعه) أما بانفيل فقد كان قلمه قوة فوق القوى. . . ولما استقبله (دوناي) عميد الأكاديمية في 7 نوفمبر الماضي قال له: (إن المجمع يخلي بينك وبين مقعد الرئيس بوانكاريه، فلقد استطعت أن تقول للملأ الأعلى وللعالم أجمع ما كان يمنعه مركزه السياسي من أن يقول)
مات رجل كان فرنسياً من قمة رأسه إلى أخمص القدم. . مات رجل كم حمل على إنجيل (سنت هيلين) ذلك الإنجيل الذي دعا فيه بونابرت إلى خلق الدول التي زلزلت من بعد إقدام فرنسا في الوجود. . مات أكبر أعداء ألمانيا
في كتابه عن (نابليون) وفي كتابه (تاريخ ثلاثة أجيال)، وفي كتابه (تاريخ فرنسا)، وف (الجمهورية الثالثة)، وفي (تاريخ أمتين)، وفي حملاته الكبرى مع شارل موراس وليون دوديه أبطال الحكم الملكي كانت توضع (مقايسة) جديدة لإنشاء جيل جديد
كنت اقرأ له منذ أيام آخر كتاب أخرجه للناس وكان يقعدني العمل أو الكسل عن أن أنقل عنه كلمة للأدباء قراء (الرسالة)، فلما مات وضجت لموته فرنسا، ووقعت معارك (الاكسيون فرانسيز)، وكان الاعتداء على زعيم الاشتراكيين (ليون بلوم) كان علينا أن نلخص كتابه للناس
وضع الناشر على الكتاب عبارة تنبئ عن غاية الكتاب قال: (لا تحكموا عليهم قبل أن تعرفوهم) وقدم المؤلف له بقوله (. . . الدكتاتورية ككثير من الأشياء قد تكون أسوأ نظم الحكم وربما كانت خير نظام؛ ولئن كانت خيراً أو شراً فان الظروف تلجئ إليها أحياناً فيخضع الناس لها دون أن يكون لهم حق الخيار. . . فعلى الشعوب ألا تضع نفسها في مثل هذه الظروف. .) ويناقش المؤلف ما يظنه البعض من أن الدكتاتورية اختراع ابتدعه العصر الحديث، فما هي إلا سيرة معادة من سير العصور الغابرة؛ ثم يعبث عبثاً مريراً بأحد الساسة الذي أطلق على أول دكتاتور معاصر لقب (قيصر الكرنفل) فلربما كانت الدكتاتورية سداً يقام أمام طوفان الشيوعية الحمراء أو الديمقراطية الرعناء؛ ولطالما كانت نداءاً حاراً للمساواة بين الناس، أو لتهذيب شِرة رأس المال؛ وكثيراً ما كانت لإقرار نظام النقد إذا شالت به كفة الميزان
يهبط بانفيل ببحوثه إلى أعمق أغوار التاريخ قبل الميلاد فيفتتح الكلام ببحث عن (طغاة الإغريق وأولهم أول مشترع عرفه التاريخ (صولون) ثم (بركليس) ثم يسرع المؤلف بنا إلى روما وأبطالها الأربعة (ماريوس) و (سيلا) و (بومب) و (يوليوس قيصر)، وفي عجالته عنهم يضرب الأمثال ويذكر العبر. فهذا (ماريوس) يجشم جيشه مخاطر الحرب في (توسيديا بأفريقيا) ليثبت أقدامه في روما تماماً، مثلما يغامر (موسوليني) في الحبشة ليقوي أسبابه لدى الطليان. . . وهذان القنصلان (سيلا وبومبي) يخوضان إلى الحكم في بحار من الدم. وهذا (قيصر العظيم) فاتح الغال ومصلح القضاء وعدو الترف في أساليب فشستية تذكر به أحفاد الرومان في القرن العشرين فيديرون أعينهم نحو ذلك الطود الذي يسيطر على مصائر روما منذ أعوام ثم يطوى التاريخ طياً ليقف كل أمام أول دكتاتور في التاريخ الحديث فيسترعي نظره أن يكون (كرومويل) أول الدكتاتوريين ويكون في نفس الوقت أبرَّ أبناء أمة تسمى (أم البرلمانات)، وكأن الدكتاتورية ظاهرة تبدو مع الثورات دائماً أو مع الديمقراطية أو مع النظام النيابي
نائب كمبردج في سنة 1628 وقائد الخيالة في معترك الثورة سنة 1644، ذلك الفيلق الذي اشتهر بأنه (الشاطئ الحديدي) والذي ارتفع على صهواته كرومويل إلى ذروة الزعامة المطلقة، ذلك مثلما عبر هتلر على أكتاف القُمُص السمراء، وكما وصل موسوليني بقمصان سود؛ فلما قتل شارل الأول واستتب الأمر للدكتاتور أعلن أن الحكم يومئذ للدين، وفي 30 إبريل سنة 1653 ذهب إلى دار النيابة يقول: (هيا يا قوم. . . كفانا سفسطة) وحل المجلس وانفرط عقد المساكين وعلق بيده على باب البرلمان لوحة مكتوباً عليها (. . . غرفة غير مفروشة للإيجار!!!) لكن الأيام مضت وألفى الطاغية نفسه وحيداً فأعاد البرلمان، وأخيراً بعد 14 عاما من الحرب الأهلية مات كرومويل وعاد شارل الثاني بعد أن تعلمت الأمة أن الملكية خير وأبقى، ولكن بعد أن تعلم الملوك درساً
وهذا هو الكردينال العظيم: أبو فرنسا وأبو الأكاديمية يضع يده على مقاليد الحكم فهي فوضى مالها من قرار. فمن ملك حدثٍ في أكناف أم طائشة يهدد ملكه أمراء طامحون، إلى أمراء يمكنون لسيادتهم في الأرض كأنهم رؤوس تعلو مفارقها التيجان، إلى نزاع ديني بين (الهيجنوت) والدولة. . كل ذلك في الداخل، أما في الخارج فيت هيسبورج تقدح عيناه بالشرر؛ لكن الأب (ريشيليو) لا ينهزم، فيسلخ السنوات الأولى من (وزارته) في أخلد كفاح سياسي عرفه التاريخ لوزير، ويضرب الأمراء ضربات ليس فيها إشفاق، ويقتلع نفوذ الهيجونت من الأعماق؛ وبعد أن يوطد دعاماته في الداخل، يبعث إلى النمسا بفيوض الحماسة الفرنسية لتنتصر عليها في معارك دامية!. . كم يرسم المؤلف من رائع الصور وأسماها لهذا الأب وهو محموم ومحمول على محفة متواضعة يتنقل فيها بين أطراف الدولة ليستولي على قلعة أو ليخضع أميراً أو لينازل النمسا. . .! كل ذلك وهو في (جفن الردى وهو نائم) فان الأمراء لم ينصبوا له أقل من عشر مؤامرات دموية جهلاً منهم أن الفزع لا يعرفه قلب كهذا القلب، بل التهديد يكسب في أمثاله فيضاناً من الحياة، فلا يتردد في أن يستل من أحضان الملك صديقه (ساتمارس) و (دي ثو) ليقدمهما إلى المقصلة لأنهما وإضرابهما (مجرد خونة من الطراز المبتذل) ثم لا يتردد في أن ينفي من فرنسا أم ملك فرنسا، وبمرسوم من الملك! وبينما يلقاه الهيجنوت فظيعاً في الحرب، يراه زعيمهم (دي روهان) بديعاً في السلام. . . هذا هو حاكم فرنسا المطلق ريشيليو
بعد ذلك صفحات مشرقة عن (الملك الشمس) الملك القائل (أنا الدولة) لويس الرابع عشر الذي حكم حكماً مطلقاً أكثر من نصف قرن ليله أزهى عصور الملكية في فرنسا أو في التاريخ.
ثم يعقد المؤلف فصلاً للكلام عن (وسائل الطغيان المستنير) فعنده أن أصحاب الانسكلوبيديا ومنهم (ديدزو) لم يكن فيهم جمهوريون، وحتى فولتير كما كان يسميه فريدريك الأكبر كان يفضل سلطة الفرد. أما صاحب العقد الاجتماعي الذي كان يُفتي ويشير في النظم والدساتير فكان يرى الحكم الجمهوري صالحاً للدولة الصغيرة، أما الدول الكبرى فلم يكن يراه نافعاً لها بل في العقد الاجتماعي دفاع غير قليل دافع به (روسو) عن الحكم المطلق. وفي القرن التاسع عشر فلاسفة كبار كانوا يعتذرون عن الحكم المطلق حكم الفرد المستنير (نصير الإصلاح) الذي كان يسميه رينان أي الطاغية الطيب، وإذا كانت الثورة قد قضت على هذا النظام فان فرنسا عبدته في شخص نابليون. . وفي الحق أنك لا تستطيع أن تنسى - في عصرنا هذا - مقدار ما تحظى به من التأييد نظرية المفكرين الممتازين (المفكرين الأرستقراطيين) وفحواها أن التقدم لا يمكن أن يأتي من الجماهير بل هي تساق إليه وراء طائفة من (الأفراد) الكفاة. . . وكثيراً ما يكونون منها
وفي الثورة الكبرى طغى (روبسبير) فصار قطعة من طغيان الثورة الدموية أو المجزرة، لكأني به جملة من اسمها أو مقدمة من منطقها فلولاه ما أنتجت الثورة نابليون. . . وما أدراك ما نابليون! ابن الثورة في فرنسا، وابن الجماهير في كل الدنيا؛ النجم الذي تلألأ في الأفق على غير ميعاد، والحلم الذي طاف بأجفان الإنسانية حيناً من الليل ثم صحت تتفقده؛ اللاعب الذي كان يحرك الملوك والشعوب على رقعة الدنيا كرقعة الشطرنج؛ الفاتح الذي كان ينثر الحرية، ويبذر المساواة، ويعلم العلم، في المشرق والغرب أني أسال دم الفتوح؛ المنشيء الأمم والجامع الأجناس، واضع تصميم أوربا الحديثة لقد كان المستبدل الهائل، أو المستبدل العادل، أو الطاغية
كانت كل السلطات في يديه، وكان الخير يتفجر منهما والشر والجريمة أحياناً
كان مشرعاً يضع بنفسه (قوانين نابليون)، وكان يدير دفة السياسة في الدنيا، وكان يحيط بالجحفل اللجب في أسترلتر ويكتب إلى جوزفين!! وكان يصدر مرسوم الكوميدي فرانسيز وهو يتفجع أمام حرائق موسكو، وينظر إلى صورة (النسر الصغير) نابليون الذي سماه ألد عداته وهو (شاتوبريان): (شاعر يعمل)؛ أو كما قال أوكتاف إوبري: (ابن الثورة الأكبر الذي أنشأ الدنيا الحديثة على أنقاض ما هدمته الثورة من الدنيا القديمة) والذي بنى الدول حتى بعد أن مات!! فبعث إنجيل سنت هيلين من الموت: إيطاليا وألمانيا وغيرهما في القرن التاسع عشر، ويوجوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ودول البلقان في القرن العشرين!! حتى إذا فقد إمبراطوريته في قلب القارة دانت له إمبراطورية القلوب في كل الدنيا فاصبح أغنية في فم التاريخ وطنيناً في سمع الزمن
أوليس من الفرنسيين كما قال (دوناي) من يقول اليوم: (ليته يعود!) وهو هو الذي أجهد فرنسا وأضناها؟ وهو هو الذي عبر عن نفسه بقوله: (أفلم يكن أفضل ألا أكون ولدت؟)
هكذا استهلكت فرنسا القرن الماضي بأروع دكتاتورية عرفها البشر. ولما انطفأت شعلة (المارد القرشقي) وبعث من أعلى الصخرة إنجيله في سنت هيلين كانت من آياته (نظرية الجنسيات) التي أوسعها المؤلف تجريحاً في كتاب (تاريخ ثلاثة أجيال) لأنها أنشأت الدول التي زعزعت فرنسا في القارة، أما هنا فهو لا يناقش وإنما يعرض ويترك القارئ للاستنتاج، فيقدم إليه معجزة أخرى من معجزات الإنجيل تلك هي تسنم ابن أخي نابليون رياسة الجمهورية، ثم تتويجه نفسه مثل عمه إمبراطوراً بالقوة في ديسمبر سنة 1851 ولا يحمل على (نابليون الصغير) كما سماه هيجو، فهو قد شرحه في كتابه (تاريخ ثلاثة أجيال) بما نقله عن بسمارك لما أن قابله نابليون الثالث في ييارتز فقال: حالة عجز كبرى لا يعرفها الناس!
وهنا يعني بانفيل بأن يلفت قارئه إلى طريقة إحداث الانقلاب السياسي، فيقول أن الانقلاب الذي أحدثه نابليون الصغير كالانقلاب الذي أحدثه نابليون الكبير ليجعل نفسه قنصلاً عاماً، كان يقوم على أيدي رجال في يدهم الحكم لأن الانقلاب الناجح تجب له قوة حكومية ليستقر وليستمر
أما دكتاتورية نابليون الصغير فظلت في الداخل طويلاً، ولكنها أم تنجح، وفي الخارج أهدر الدم الفرنسي في المكسيك وأنشأ مبدأ الجنسيات خصوصاً لفرنسا، وكان الإمبراطور نفسه يقول (كيف تظن أن الأمور تسير على قاعدة؟ إن الإمبراطورة ملكية! وأنا جمهوري!! وليس هنالك بونابرتي إلا برزيني)
وجاءت حرب السبعين؛ وانتهت قصة الإمبراطورية، وحاول في سنة 1889 أن ينشئ دكتاتورية على أكتاف الباريسيين فلم ينجح لأنه نسي أن الانقلاب يجب أن يكون بمعرفة رجال في دست الأحكام
بعد ذلك يرتحل بنا (بانفيل) إلى أمريكا اللاتينية رحلة تشبه المغامرات، فيستعرض طغاة غلاظ الأكباد كمصارعي الثيران أو أشد فروسية وعجباً!! ويشرح لك عمل الماسونية وعمل القسس في التدمير والتعمير في دقة تفوق حلاوة القصص وتسمو إلى حكمة التاريخ. وينتقل من المكسيك إلى أمريكا الجنوبية وبطلها (بوليفار) تلميذ الثورة الفرنسية وصاحب خطة (الولايات المتحدة الجنوبية) على نسق اتحاد الشمال؛ هذا الجمهوري الواقعي الذي كان يقول (إن الديمقراطية المطلقة كالاستبداد المطلق، كلاهما طغيان). ثم يتحدث المؤلف عن دول أمريكا الجنوبية وطغاتها، ففي كولومبيا، وفي أورجواي، وبورجواي وشيلي والبرازيل طغاة في كل عشر سنوات، وفي بوليفيا التي خلعت على نفسها هذا الاسم تمجيداً (لبوليفار)، ثم في الأرجنتين التي طغى فيها (ردزاس) المصلح الفظيع، دنا أحد المارة يوماً من بائع متجول يصيح: كَسْتنا! كستنا!) فلما هم بالشراء منه خر الشاري صعقاً لأنه لم يجد في سلته إلا (رؤوس رجال)، لكن الإصلاح والتقدم المادي كان يشفع لهؤلاء الجبابرة، بل ولمثل (بلانكو) طاغية فنزويلا في سنة 1875 الذي قال كلمته المشهورة وهو على سرير الموت يستدبر الدنيا ويستقبل الله
القسيس: يا بني سامح أعداءك
بلانكو: لا أستطيع يا أبت
القسيس: كيف يا بني؟
بلانكو: ليس لي أعداء. . . لقد قتلتهم جميعاً.
(البقية في العدد القادم)
عبد الحليم الجندي