مجلة الرسالة/العدد 139/الجوع الروحاني
مجلة الرسالة/العدد 139/الجوع الروحاني
لأستاذ جليل ينم عليه أسلوبه
أتحفنا الأستاذ المازني منذ أيام بمقال ممتع (في الحب)، ثم أعقبه بمقال آخر تحدث فيه عن (الحب الأفلاطوني) و (الوفاء في الحب)
فقال عن الحب أنه (ضرب من الجوع، أو هو إذا شئت نوع من التنبيه تلجأ إليه الطبيعة لتغرينا بما يكفل المحافظة على النوع)
وقال عن الحب الأفلاطوني والوفاء: انهما لا يوجدان مع الصحة والسلامة، وإذا كان من الممكن أن يشبع الجائع بالنظر إلى الطعام في أطباقه على السفرة، فانه يكون من الممكن أيضاً إرضاء عاطفة الحب عند الرجل السليم المعافى بالنظر إلى المرأة والاستماع إلى حديثها، والتمتع بابتسامتها، ورشاقة وقفتها، وحسن جلستها؛ والذي يقنع من المرأة بذلك يكون أحوج إلى الطبيب المداوي منه إلى المرأة)
وقال الأستاذ عن الوفاء: (أما الوفاء فأكرم به وأنعم! ولكن أين في دنيانا من يصبر على طعام واحد وفي وسعه ألا يفعل؟ وإني أسأل القارئ وأعفيه من الجواب العلني: أي رجل لم ينقض عهداً بالوفاء؟. . . والمرأة كالرجل، وشأنها كشأنه، وكذاب من يقول - وكذابة من تدعي - غير ذلك، ولست أدعو إلى شيء. وحاشى أن أفعل، ولكني أصف واقعاً وأقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن ينتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة)
وأورد الأستاذ في هذا المعنى بيتين من الشعر قالهما قبل أن يهجر القريض - مأسوفاً عليه من مقدري فضله:
يا عقيدي طامن الله حشاك ... لن تراني شاكياً وهي حبالك
أين من (طينتنا) أين الفكاك ... أنت إنسان على فرط جمالك
وإني مع فرط احترامي لآراء الأستاذ وإعجابي بها دائماً، بل وعلى الرغم من إعجابي بأفكاره هذه التي عرضها في مقالة الأخير، أقول إني أحسست بأني شخصياً قد سُببت. وكلما مر نظري على قوله: (كذاب من يقول، وكذابة من تدعي انتفضت وأحسست بالدم يصعد إلى رأسي شأن من يكون مقبلاً على شجار والعياذ بالله! وكلما أعدت البصر في قوله أنه (يقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن يفعل كذا وينتحل كذا)، أحسست كأنم تتحشرج في حلقي عبارة: (اختش يا رجل) أو: (أحفظ مقامك يا أخينا أنت وإلا. . . .) أو غير ذلك من العبارات التي تسبق التماسك عادة بين الغريمين!
ذلك باني أنا أومن بالحب الأفلاطوني، وأومن بالوفاء؛ وإن كان الأستاذ قد قال في معرض الكفر بهذين المذهبين: (وأنا لا أدعو إلى شيء وحاشاي أن أفعل)؛ فهأنذا أقول باني أدعو إلى الإيمان بالحب الأفلاطوني وبالوفاء.، وقصاراي أن أفعل!
ولأبدأ أولاً بأن أقول مع الأستاذ أن الحب اشتهاء؛ فإلى هنا نحن متفقان. ولكن يبدو لي مع الأسف أن هذا هو كل ما بيننا من توافق، فانه يقول بعد ذلك رأسا إن الحب تنبيه للجسم ليعمل على حفظ النوع. بينما أنا أتابع الحديث بأن الجوع أنواع، وأن الأصل فيه جوع المعدة إلى الطعام، وأن لكل حاسة من حواس الجسم نوعا من الجوع تكابده وتعمل على إشباعه، وان الأذن مثلاً تجوع وغذاؤها الموسيقى؛ ويحس الجائع في هذه الحالة باشتهاء مُلِح إلى استماع الألحان. والعين كذلك تجوع ولكنها تجوع إلى الجمال، وقد يبلغ من جوعها أن تضطرب أعصاب صاحبها وتفسد عليه شؤونه إلى أن يمن الله عليه بصورة جميلة تقر لها عينه وتطمئن بها نفسه، مع أنه لا يبغي من هذه الصورة أكثر من أن يجلو بها عينيه. وأجهزة الجسم جميعها تجوع. ولعل الحب الذي كتب عنه الأستاذ هو جوع الجهاز التناسلي، وهو الجوع إلى المرأة وليس الجوع إلى الجمال، فأن جميع (الأعراض) البادي في ذلك المقال (تشخص) هذه الحالة
وإذا كنت موفقاً في التعبير فأني أعتقد أن هذا القول فيه ما يكفي لفتح الطريق أمام الحب الأفلاطوني الذي سد الأستاذ في وجهه الأبواب ووقف من دونها يقول: (أين الكذاب الذي يقول أن شيئاً يقوم وراء هذا الباب؟! وأنت أيها المكابر يا من تريد أن تنتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة: يا منافق. . يا بن الـ. . .) إلى أخر تلك الثورة التي لا سبيل لي مع الأسف إلى اتقاء أذاها غير أن أنشر هذه الكلمة بدون توقيع، وأترك الفضل بعد ذلك في انتحالها لمن شاء وأمري إلى الله!
أن الحب الأفلاطوني نوع من المغناطيسية الآدمية. وكل متعة المحب فيه أن يكون قريباً من حبيبه. لأن حبه هو حب الروح التي تعمل على حفظ (المزاج) لا حب اللحم والأجهزة السفلية التي تعمل على حفظ (النوع) ولعل من أبرع الأمثلة على هذه الحالة قول قيس في بعض أشعاره:
تعلقت ليلى وهي ذات تمائمي ... ولم يبد للنظار من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... صغيرين لم نكبر ولم تكبر البهم
فأنت ترى أن هذا الصبي المحب كان محباً قبل أن يتنبه فيه جهازه الجنسي، ولم يكن يصلح مطلقاً للمحافظة على النوع، بل أن ليلاه لم يكن قد تفتح في جسمها شيء من منبهات ذلك الجهاز. أفلست تسمعه إذ يقول: ولم يبد للنظار من ثديها حجم!
وأنا إذ أقول بوجود الحب الأفلاطوني لا أنكر حب (النوع) ولا أعيبه - وحاشاي أنا أيضاً أن أفعل - بل إني لأقول بإمكان اجتماعهما في نفس واحدة، ولكن الذي يعنيني هنا أن أثبت وجود هذا الحب الأفلاطوني الروحاني البريء الذي أحسه أحياناً، والذي يهمني جداً أن أطمئن غيري على وجوده ليتعلم كيف يحسه هو الآخر عند اللزوم. ذلك لأنه ضرورة من ضرورات الرجل المهذب الذي يريد أن يشعر أحياناً أنه ليس حيواناً دائماً، وأنه قد يسمو في بعض الأوقات فوق اعتبارات هذه المادة المظلمة التي هي جسمه وأجهزته الدنيا
يروى عن (المهدي) أنه لما هرب من المأمون ذهب إلى عمته فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت هذه غاية في الحسن فاحبها المهدي - أعني على طريقتي أنا لا على طريقة الأستاذ المازني - فكره أن يحدثها حديث (النوع)، وأنه قد حصل لجسمه تنبيه ليعمل على بقاء السلالة البشرية في دولة أمير المؤمنين، ولكنه تسامى بحبه إلى الغناء، فبينما هي قائمة على رأسه ذات يوم تَغَنى بهذين لبيتين:
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
أنا ضيف وجزاء الض ... يف إحسان إليه
فلما انصرفت الجارية من عنده أخبرت سيدتها بما سمعت من مولاها، فوهبتها له؛ فلما رجعت الجارية إليه بعد ذلك أعاد غناءه، فاكبت الجارية عليه، فدفعها عن نفسه قائلاً: كُفي! ما أنا بخائن! فقالت له أن سيدتي وهبتني لك، فقبلها قائلاً: أما الآن فنعم!
هذه هي كلمتي عن الحب الأفلاطوني وعن الوفاء. وأرى أن القول بأن (طينة) الإنسان لا تتفق مع هذا الخلق العظيم كما يقرر الأستاذ في شعره إنما هو محاجَّة بالأساطير، وتدليل بشيء لم يقل أحد أن له قوة الدليل. ونظيره أن يتقدم الشاهد إلى المحكمة مثلا ليقول أنه سمع (بالإشاعة) أن فلاناً قتل فلاناً، فان كان مثل هذا الشاهد يجد المحكمة التي تقيم لشهادته وزناً، فسوف يجد حديث (طينتنا) من يستمع له!
وبعد. فما هي مهمة الكاتب الاجتماعي؟ أهي أن يقرر الأمر الواقع أمام الأشهاد الذين يشهدونه، فإذا فرغ من ذلك انصرف عنهم يقنع نفسه بأنه أدى رسالته؟ أم هي أن يتسامى بقرائه إلى المُثل العليا التي تملأ أحلامه وتتجسم في تفكيره حتى ليعتقد فعلاً بوجودها ولو لم تكن موجودة؛ فيبشر لها في كتاباته، ويصبح بذلك أهلاً لحمل هذا اللقب الكبير.
لقد قال فولتير: (إن الله لو لم يكن موجوداً لوجب على الناس أن يوجدوه)، والمعنى أن الناس لا تستقيم لهم حال إلا على أساس أن الله موجود، وانه من ورائهم محيط، يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وهذا ما يصح أن نقوله الآن عن الحب الأفلاطوني وعن الوفاء، فان شيئاً من هذا إن لم يكن موجوداً لوجب علينا أن نوجده
أن المغريات المادية أصبحت تحيط بالإنسان من كل جانب، وهي تعمل دائبة على أن تعلق بأقدامه وتهوي به في القرار. فما لم يكن له نصيب من تلك المثل العليا ليحتفظ له بمستواه الآدمي العالي ينحط إلى الدرك الأسفل الحيواني
فالأفلاطونية والحالة هذه مزاج لابد منه للمذهب المادي الذي يطغى الآن على المجتمع، ويكاد يوقعه في شر أعماله. فمن لهؤلاء الناس باليد التي تنتشلهم مما هم فيه إن لم يجدوها عند الأستاذ المازني - وأضرابه - وهم كما يحس الأستاذ نفسه قليلون؟
(أفلاطوني)