انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 139/أندلسيات:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 139/أندلسيات:

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 03 - 1936


2 - ابن بسام صاحب الذخيرة

والشاعر أبو مروان الطبني

للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي

قال ابن بسام: كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، من أهل بيت اشتهروا بالشعر، اشتهار المنازل بالبدر. أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة، وانتثار شمل الطاعة، وأناخوا في ظلها، ولحقوا بسروات أهلها. . . وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطبني هو أول من بنى بيت شرفهم، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم. قال ابن حيان: وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثاً ومشاهدة وأنصعهم ظرفاً، وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة، وآخذهم بقلوب الملوك والجلة، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة، وابخلهم بدرهم وكسرة، وأذبَّهم عن حريم نشب ونعمة، له في ذلك أخبار بديعة من رجل شديد الخلابة يضحك من حضر، ولا يضحك هو إذا ندر، رفيع الطبقة في صنعة الشعر، كثير الإصابة في البديهة والروية. انتهى كلام ابن حيان. قال ابن بسام: وشعر أبي مضر ليس من شرط هذا المجموع لتقدم زمانه؛ فأما ابنه مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية ورحل إلى المشرق وسمع من جماعة المحدثين بمصر والحجاز، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة. . إلى أن قال: وجدت في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال: لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضرباً موجعاً وأقر بذلك أعين مطاليبه، قال أبو مروان الطبني فيه:

شكرت للعامري ما صنعا ... ولم أقل للحذيلمي لعا

ليث عرين غدا بعزته ... مفترساً في وجاره ضبعا

لا برحت كفه مُمَكَّنَةً ... من الأماني فنعم ما صنعا

وددت لو كنت شاهداً لهما ... حتى ترى العين ذل من خضعا

إن طال منه سجوده فلقد ... طال لغير السجود ما ركع وابن رشيق القائل قبله:

كم ركعة ركع الضبْعان تحت يدي ... ولم يقل سمع الله لمن حمدهْ

والعرب تقول فلان يركع لغير صلاة إذا كنوا عن عهر الخلوة. .

قال ابن بسام: ولما صنفت كتابي هذا عن شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء، أجريت ههنا طرفاً من مليح التعريض، في إيجاز القريض، مما لا أدب على قائليه ولا وصمة على من قيل فيه. والهجاء ينقسم قسمين: فقسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، ولا هجراً مستبشعاً؛ وهو طأطأ قديماً من الأوائل، وثل عرش القبائل. إنما هو توبيخ وتعيير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره منعتني عن ذكره. واستَعْدَوا عليه عمر وأنشدوه قول النجاشي فيهم فدرأ الحد بالشبهات. وفعل مثل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة وسأله أن ينشده ما قال فيه فأنشده قوله:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فسأل عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أودّ له بما قال حمر النعم. . . وقال حسان لم يهجه ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشُبْرُم. . فهمّ عمر بعقابه ثم استعطفه بشعره المشهور. . وقد قال عبد الملك بن مروان يوما: أحسابَكم يا بني أمية فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال فيّ:

تبيتون في المَشْتىَ مِلاَءً بطونكم ... وجاراتكم غَرثى يبتن خمائصا

ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنحن نفعل بجاراتنا هذا؟ ودعا عليه. . . فما ظنك بشيء يبكي علقمة بن علاثة وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال: حس!. . . وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها. ولما قال جرَير:

فَغُضَّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا

أطفأ مصباحه ونام - وقد كان بات ليلته يتململ - لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه. . قال الراعي: فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون قبحكم الله وقبح ما جئتمونا به. . والقسم الثاني هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول إذا هجوتم فأضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتاً ولا عبرت به قبيلة، وهو الذي صُنّا هذا المجموع عنه، وأغفيناه أن يكون فيه شيء منة، فإن أبا منصور الثعالبي كتب منة في يتيمته ما شابه اسمه، وبقي عليه إثمه.

وحكى أبو عامر بن شهيد عن نفسه قال: عاتبت بعض الأخوان عتاباً شديداً عن أمر أوجع فيه قلبي، وكان آخر الشعر

الذي خاطبته به هذا البيت:

وإني على ما هاج صدري وغاظني ... ليأمنني من كان عندي له سر

فكان هذا البيت أشد عليه من عظ الحديد؛ ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي منه بالدموع. وهذا الباب ممتد الإطناب، ويكفي ما مر ويمر منه في تضاعيف هذا الكتاب. ومن شعر أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن زيادة الله الطبني مما أخذته عنه قولة:

كم بالهوادج يوم البين من رشأٍ ... يحفو علية وشاح جائر قلق

وكم برامة من ريم يفارقها ... لهفان يثنيه عن توديعها الفرق

ونرجس كفرند السيف ساومني ... ممللاً بنسم عَرقُه عبق

نادمته وشباب الليل مقتبل ... والنجم كَفٌّ يحيينا به الأفق

وفتية كنجوم السعد أوجههم ... في أوجه الحادثات الجُوزِ تأتنق

نلهو برقراقة صفراء صافيةٍ ... يكاد ينجاب عن أضوائها الغسق

يسعى بها مرهف كالغصن نعَّمه ... ماء النعيم عليه النوُر والورَق

وأنشدني أيضاً:

يا سالياً عاشقِيهِ ... وعاشقاً كل تِيهِ

ومَن مدامي ونقلي ... بوجنتيه وفيه

هلا حزبت فؤادي ... ببعض مالك فيه

وأنشدني أيضاً لنفسه:

عجباً أن يكون ساكن قلبي ... راتعاً منه في بساتين حبي

ويجازي على الوفاء بِغَدرٍ ... حسبي الله ثم حسبي وحسبي جازني كيف شئت لا أترك الذن ... ب إذا كان فرط حبك ذنبي

وهذا كقول أبي بكر بن عمار:

لئن كان ذنبي للزمان محبتي ... فذلك شيء لست منه أتوب

وقول عباس بن الأحنف:

إن كان ذنبي في الزيارة فاعلمي ... أني على كسب الذنوب مجاهد

(يتبع)

عبد الرحمن البرقوقي

منشئ البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب