مجلة الرسالة/العدد 138/مديرية أسوان
مجلة الرسالة/العدد 138/مديرية أسوان
والحد الفاصل بين مصر والسودان
بقلم رشوان أحمد صادق
في الجغرافيا
أتحدث اليوم عن علاقة مصر بالأقاليم الجنوبية واهتمام المصريين بالحدود المصرية الجنوبية منذ بدء التاريخ إلى اليوم فأقول:
أول من أهتم بالجهات التي تتاخم حدود مصر الجنوبية هو الملك بيبي الأول ثاني ملوك الأسرة السادسة فأرسل القائد أونا إلى كروسكو ليجمع بعض أنواع الأخشاب فساعده قبائل تلك الجهات على أداء مهمته واعترفوا بسيطرة الملك بيبي عليهم. ثم أرسل الملك متوسوفيس (وهو الملك الثاني عشر من الملوك الأسرة السادسة) القائد هرخف لغزو بلاد بنت فعاد يحمل البخور والآبنوس والعاج والجلود حملها على ثلثمائة حمار وحمل معه قزماً من الدنقس أتى به من (بر الأظلال). فلما وصل مصر كان الملك متوسوفيس قد مات وخلفه أخوه الملك بيبي الثاني فسر بخبر القزم فكتب إلى هرخفف يأمر بإحضاره إلى منف، وهذا نص الكتاب: (واصحب معك في السفينة بعض الخفراء لحراسته كي لا يقع في الماء أو يفلت في الليل، لأني أسر برؤية القزم أكثر من جميع ما أحضرت من بلاد بنت)، فحفر هرخفف هذا الخطاب مع خبر غزوته على واجهة قبره في جزيرة الفنتين
وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أرسل (اوسرتسن) الأول ثاني ملوك هذه الأسرة القائد هونو إلى بلاد بنت بطريق قفط والقصير لجباية الجزية من أمراء تلك البلاد، فأدى مهمته ثم عاد. وقد جرد هذا الملك حملة بطريق النيل فامتدت حدود مصر الجنوبية حتى الشلال الثاني، وقد عثروا على حجر في هيكل جهة حلفا (نقل الآن إلى فلورنسا) وعليه صورة هذا الملك وبجانبه المشايخ الثمانية لرؤساء القبائل التي تغلب عليها؛ وفي عهد (اوسرتسن) الثالث خامس ملوك هذه الأسرة امتدت حدود مصر إلى شلال سمنه جنوباً، وتوجد آثار هيكل من بقايا أعمال ذلك العصر، كما وجد حجران جعلا الحد الجنوبي للبلاد المصرية مكتوباً على أحدهما ما معناه: (هذا حد مصر الجنوبي الذي عين في السنة الثامنة من حك الملك أوسرتسن الثالث الخالد الذكر، فلا يجوز لأحد من السود أن يتعداه إلا في سفن تحمل البقر والماعز والحمير)، ووجد على الحجر الثاني ما معناه: أن الملك شيد هذا الحجر في السنة السادسة عشرة من حكمه وجعله حداً فاصلاً بين مصر وأثيوبيا، وله تمثال في تلك الجهة، وتوجد قلعة من آثاره في معتوق. وفي جزيرة ارقو توجد تماثيل وأطلال من آثار الأسرة الثالثة عشرة
وفي عهد الأسرة الخامسة عشرة التي أسسها العمالقة كانت مصر في حالة اضطراب، وهاجر كثير من المصريين إلى أثيوبيا وكونوا معاقل أهمها معقل ارقو، وحملوا معهم كثيراً من طرق الصناعة والفنون المصرية وأصبحوا دولة منظمة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولم يتم الملك لأحمس الأول أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة إلا بمساعدة ملك أثيوبيا الذي زوجه من ابنته وساعده على طرد الهكسوس من مصر؛ ويظهر أن عاصمة بلاد الأثيوبيين هي مدينة نبته عند جبل البرقل بالقرب من مروى ويعرف بالهيروغليفية باسم الجبل المقدس، ودامت العلاقات الحسنة بين مصر وأثيوبيا إلى عهد تحتمس الأول ثالث ملوك الأسرة الثامنة عشرة إذ غزا الأثيوبيين وانتصر عليهم
وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة غزا رمسيس الثاني بلاد أثيوبيا وأقام هيكلاً في كلايشه تذكاراً لانتصاراته ويعرف الآن عند سكان كلايشه باسم بيت الولي. ورسم على الهيكل صورة رمسيس الثاني وهو يحارب في عربة، وعدة صور يتضح منه هزيمة الأعداء وتقديمهم القرابين له مثل الخواتم وأكياس الذهب وجلد الفهد وسن الفيل وبيض النعام. وجدد استخراج الذهب والزمرد من وادي العلاقي المعروفة قديماً باسم اكيتا وعلى هذا الطريق قلعة يظن أنها من أعمال رمسيس الثاني
ودامت سلطة مصر على أثيوبيا حتى الأسرة العشرين
بعد ذلك أنفصل أثيوبيا عن مصر، وذلك أن (سمنتوميامون) أحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين نفى بعض الكهنة المصريين إلى أثيوبيا فخرجوا عن طاعته واستقلوا تحت إمرة أحدهم وبذلك رجعت حدود مصر إلى ما كانت عليه قبل الغزو
وفي آخر حكم الأسرة الثانية والعشرين هاجم الأثيوبيون مصر وأخذت حدود مصر الجنوبية تتراجع شمالاً حتى استولى الأثيوبيون أيام الأسرة الثالثة والعشرين على صعيد مصر. على أن بمنخي ملك أثيوبيا بعد أن استولى إلى مصر فوجئ بخروج البلاد عليه وتقاسمها الأعيان لمدة خمسة عشر عاماً إلى أن قام أحدهم ويدعى (ابسمانيك) واستعان بجنود يونانية واستولى على جميع الأراضي المصرية وطرد الأثيوبيين وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان. ولقد ذكر (هيرودوت) خبر فرار بعض الجنود المصرية في عهد ابسمانيك مؤسس الأسرة السادسة والعشرين فقال انهم ذهبوا إلى أثيوبيا واستوطنوا هناك وأطلق عليهم اسم (الأوتومولي) وعرفوا بهذا الاسم حتى القرن الأول للميلاد
وفي عهد البطالسة زحف ثامن ملوك هذه الأسرة على مملكة مروى وفتحها ثم سار جنوبا ففتح مدينة أكسوم، ودون خبر فتوحاته باللغة اليونانية على حجر من الرخام في ميناء (أدولس) المعروفة الآن بميناء (زولا) على عشرين ميلاً جنوبي (مصوع وهي ميناء أكسوم) ومع ذلك فقد عادت الحدود مرة أخرى إلى المحرقة في عهد سلفه
وبعد وفاة كليوباترا آل حكم مصر إلى الرومان. وأول من تولى مصر من الرومان هو كرنيوليوس جالسن وقد ظهر من بعض النقوش على بعض الآثار أن الملك (نويا كوتاس خوانوس)، ويظن أنه ملك نوبه، أرسل رسلاً في أيام هذا الحاكم إلى فيلة ودخل في حامية الرومان. وحاولت أثيوبيا غزو مصر في عهد ملكتها (كنداكه) حينما كان الرومان مشتغلين بغزو بلاد العرب ولكنها لم تفلح. وفي عهد (نيرون) أرسل حملة للكشف عن منابع النيل فوصلت إلى إقليم كثير المستنقعات ربما كان إقليم السدود الحالي، وكانت المحرقة آخر حدود مصر أيام الرومان كما كانت أيام اليونان، فرأى الإمبراطور (دبوقلشيان) أن خراج البلاد التي بين المحرقة وأسوان لا يفي بنفقات الجند اللازمة لجمعه فلا فائدة من الاحتفاظ بهذه البلاد فاقطعها للنوبة وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان وقوى حامية الفنتين
وفي عهد الحكم العربي غزا المسلمون النوبة. قال ابن الأثير (فغزا المسلمون النوبة فرجعوا بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم فسموهم رماة الحدق) وفي سنة 21 هـ بث عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح في عشرين ألفاً إلى النوبة فمكث بها مدة ثم صالحهم وقرر عليهم الجزية ثم، استدعاه عمرو إلى مصر ثانية؛ وبعد موت عمر بن الخطاب رضى الله عنه تولى عثمان بن عفان فعزل عمرو بن العاص وولى عبد الله مكانه، وكان أهل النوبة نقضوا الصلح ووصلوا إلى الصعيد فردهم وغزاهم مرة ثانية وصالحهم على أن يدفعوا 360 رأساً من الرقيق سنوياً على إن يرسل عبد الله إليهم بعض الحبوب. ويقول المسعودي (ولمن بأسوان من المسلمين ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدون خراجها إلى ملك النوبة وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدد الأمان في دولة بني أمية وبني العباس، وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم بوفد أوفدهم إلى الفسطاط ذكروا عنه إن أناساً من أهل مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان وإنها ضياعه والقوم عبيد لا أملاك لهم وإنما تملكهم على هذه الضياع تملك العبيد العاملين فيها. فرد المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان ومن بها من أهل العلم والشيوخ
وعلم من أبتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم، فاحتالوا على ملك النوبة بأن تقدموا إلى من ابتيعت منهم من أهل النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم لا يقروا لملوكهم بالعبودية، وأن يقولوا سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم مع ملككم، يجب علينا طاعته وترك مخالفته، فان كنتم أنتم عبيداً لملوككم وأموالكم له فنحن كذلك. ولما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه مما وقفوا عليه من هذا المعنى، فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت، وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس المجاورة لأسوان. وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين: نوعاً من وصفنا أحراراً غير عبيد، والنوع الأخر من أهل مملكته عبيد هم من سكن النوبة في غير بلاد مريس). من ذلك يتبين أن الحدود الجنوبية لمصر لم تكن محددة تماماً أيام العرب، إذ أن بعض المصريين كان يملك أراضي داخل حدود النوبة. ويقول المقريزي انه في سنة 870 م وذهب أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمري إلى محاربة النوبة ورجع غانماً. ويفهم من كلام المقريزي أنه في سنة 956 م أغار ملك النوبة على أسوان وقتل جمعا من المسلمين فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل (أنوجور بن الإخشيد) سنة 957 م براً وبحراً وأسروا بعض النوبيين الذين ضربت أعناقهم بعد ما أوقع بملك النوبة، وسار الخازن حتى فتح مدينة أبريم، وقدم إلى مصر سنة 345 هـ بمائة وخمسين أسيرا. وقال أبن الأثير (في سنة 1173 م سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى النوبة فوصل إلى أول بلدهم. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر، فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فإن قووا على منعه أقاموا بمصر وإن عجزوا عن منعه ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها. فجهز شمس الدين وسار إلى أسوان ومنها إلى بلاد النوبة، فنازل قلعة اسمها أبريم فسلمت، فأقام بها ولم ير للبلاد دخلا يرغب فيه، فتركها وعاد إلى مصر بما غنم من العبيد والجواري). وقال المقريزي عن توران شاه هذا ما يأتي: (وأعطاه صلاح قوص وأسوان وعيذاب، وجعلها له إقطاعا، فكانت عيرتها في تلك السنة مائتي ألف وستة وستين ألف دينار، ثم خرج لغزو النوبة سنة 1174 م وفتح قلعة ابريم). واستمر غزو المماليك لبلاد النوبة مثل الظاهر بيبرس وقلاوون وغيرهم. ويقول ابن خلدون إن قلاوون عندما غزا النوبة أرسل السفن بالبحر. ويقول ابن خلدون (ثم انتشر أحياء العرب من جهينة في بلاد النوبة واستوطنوها وملكوها أيام الناصر بن قلاوون وملئوها عيثاً وفساداً، وذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا، ثم صاروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم وصار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم، لان أمهاتهم من بنات ملوك النوبة على عادة الأعاجم في تمليك الأخت وابن الأخت فتمزق ملكهم واستولى أعراب جهينة على بلادهم، وليس في طريقة استيلائهم شيء من السياسة الملوكية للأمة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعا لهذا العهد). إلى أواخر القرن الثامن الهجري. وبقوا كذلك شيعاً على كل شيعة منهم رئيس أو ملك إلى أن قام الفنج في سناد سنة 1505 م إلى الشلال الثالث ثم كان الفتح العثماني لمصر بيد السلطان سليم سنة 1520 فأرسل جيشاً إلى النوبة فملكوها من أسوان إلى الشلال الثالث وعرفوا (بالغز) وعرف حكامهم (بالكشاف) وهكذا انقسمت بلاد النوبة بين ملوك الفنج والكشاف إلى أن كان الفتح المصري للسودان سنة 1820م أي سنة 1236 هـ فخضعت لمصر
وفي عهد محمد علي امتدت حدود مصر جنوباً بعد فتحه للسودان وكانت تدخل أسوان في مديرية أسنا، ثم أحدث تعديلاً بأن ضم مديرية أسنا إلى مديرية قنا وصارتا واحدة، ثم انفصلتا بعد ذلك وامتدت الحدود المصرية إلى أعالي النيل أيام خلف محمد علي خصوصاً في عهد إسماعيل. واستمرت مديرية أسنا حتى سنة 1887 وكان مركزها أسنا. ولما ازدادت الثورة المهدية في السودان وكادت تمتد إلى الحدود رأت الحكومة تحصين الحدود المصرية بقوة عسكرية وجعلت البلاد هناك تحت الأحكام العسكرية فصدر قرار مجلس الوزراء في 26 أبريل سنة 1888 بقسم مديرية أسنا إلى قسمين: الأول يشمل الجهات التي بين وادي حلفا وجبل السلسلة تتكون منه مديرية الحدود ومركزها أسوان. وأما الأقاليم شمالي جبل السلسلة فتضم إلى مديرية قنا وعلى ذلك ألغيت مديرية أسنا وتكونت مديرية الحدود من مراكز ادفو وأسوان وكرسكو (الآن الدر وحلفا) وضمت بقية البلاد إلى قنا واستمرت مديرية أسوان باسم مديرية الحدود إلى أوائل سنة 1899 حينما تحددت الحدود بين مصر والسودان، وذلك أنه لما أعيد إخضاع السودان عمل اتفاق بين مصر وبريطانيا في 19 يناير 1899 بأن يصبح السودان حكومة مصرية إنجليزية واصبح خط العرض 22 شمالاً هو الحد الفاصل بين مصر والسودان وبناء على ذلك دخلت عشرة بلاد من قرى مصر العليا في حكومة السودان وهي: سرة شرق. فرس. جزيرة فرس. دبيرة. شرة عزب. اشكيت. ارقين. ادغيم. عنقش. دبروسة (وتعرف ألان بالتوفيقية) وبعد هذا التغيير أطلق على مديرية الحدود اسم مديرية أسوان ابتداء من سنة 1899.
رشوان احمد صادق