مجلة الرسالة/العدد 137/قصة المكروب كيف كشفه رجاله
مجلة الرسالة/العدد 137/قصة المكروب كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور والكلب المسعور
وصل الفائت
أكتشف بستور لقاحاً يحصن الشياه من داء الجمرة، وذلك بإضعاف مكروبها ثم حقنه في الشياه، فتقوى بعد ذلك على مقاومة الداء. ونجح اللقاح واهتزت الدنيا له. وبعد زمن أخذت ألقحة بستور تقتل بعض الشياه بدل تحصينها وكثرت الشكوى. فألقى بستور محاضرة في اللقاح ولم يذكر تلك الشكاوي، وتحدى كوخ وكان حاضراً إلى الحجاج فقام وقال إنه يجيبه بالقلم لا باللسان.
ولم يمض زمن طويل على هذا حتى جاء كوخ بجوابه الموعود، فكان جواباً بين الجد والهزل، شديداً فظيعاً؛ بدأ كوخ بقوله إنه أتى من بعض وكلاء بستور بشيء من هذه المادة الثمينة الغالية التي يقال لها لقاح الجمرة، ثم استطرد يسلقه بلسان سليط:
أحقاً قال بستور إن اللقاح الأول يقتل الفئران ويعفي الخنازير الغينية! إذن لقد قام كوخ بتجربته فوجده لا يقتل حتى الفئران. وبعض عينات غريبة منه قتلت الشياه!
وهل حقاً قال بستور أن لقاحه الثاني يقتل الخنازير الغينية ويعفي الأرانب؟ إذن لقد قام كوخ بتجربة هذا اللقاح أيضاً في دقة وعناية فوجده يقتل الأرانب، ويقتلها في الأغلب قتلاً سريعاً. ووجد أنه يقتل الشياه أحياناً، تلك الشياه التي أراد بستور من هذا كله أن يحصنها من الموت.
ثم أحقاً يعتقد بستور إن هذه اللقاحات لقاحات من مكروب الجمرة، ومن مكروب الجمرة وحده؟ إذن فقد قام كوخ على حذر بامتحانها، فوجدها تعج بمختلف الأحياء، فمن كل كُرَيّة ومن كل عصية دخلت إليها دخول الضيف الثقيل لا أهلاً به ولا سهلاً
وأخيرا، أحقاً إن بستور يتحرق تحرقاً إلى كشف الحقيقة خالصة؟ إذن فلم لم يخبر الناس بجميع النتائج التي جاءت من لقاحه بعد أن شاع استخدامه وذاع؟ لِمَ لَمْ يخبرهم بالحالات الفاشلة الخائبة كما أخبرهم بالحالات الناجحة الصائبة؟ ثم ختم جوابه بقاصمة الظهر، قال: (إن هذا مسلك قد يستساغ في الدعاية لبيت من بيوت التجارة، أما العلم فيجب أن يقيئه قيئاً)
فأجاب بستور على هذا النقد بنشرة تضمنت حجاجاً غريباً لا يجوز حتى على محكّمين في مناظرة بقرية في الريف. استكبر على كوخ أن يدعي أن ألقحته تحوي أخلاطاً من مكروبات. قال: (لقد كانت صناعتي من قديم فصل المكروب وتربيته خالصاً من كل شائبة. صناعة اصطنعتها عشرين عاماً قبل ميلاد كوخ في عالم العلم سنة 1876، فدعواه أني لا أعرف كيف أربي المكروب نقياً لا يمكن أن تكون إلا هزلاً وهذراً)
وأبت الأمة الفرنسية بوطنية صادقة أن تؤمن بأن كوخ استطاع أن يزحزح بطلها العظيم عن عرشه العالي، وأن يبطل ربابته للعلم، وشرك صغراء الأمة في ذلك كبراؤها، وعلى كل حال فما كان ينتظر الناس من ألماني غير هذا؟! وما أسرع ما انتخبوا بستور عضواً في المجمع الفرنسي فمنحوه كبرى المنح التي يطمع فرنسي فيها، وفي يوم جلوسه بين أعضاء المجمع الأربعين الذين يسمونهم بالخالدين قام ارنست رينان بالترحيب به، وهو العبقري الزنديق الذي جعل من يسوع الرب بشراً رجلاً غفر كل شيء لأنه فقه كل شيء؛ عرف رينان أن بستور لو كان ستر الحق لما ذهب هذا بكل فضله، ولم يكن رينان عالماً، ولكن كان له من الحكمة والفطنة ما يدرك به أن بستور أتى بشيء فخم عظيم لما أثبت أن الجراثيم الضعيفة تمنّع الأجسام فلا تنالها الجراثيم القوية، حتى ولو لم تبلغ هذه المناعة مائة في المائة
التقى هذان الرجلاًن في هذا اليوم المهيب، فالتقى منهما نقيضان: بستور المغامر المحارب الوثاب المليء بشتيت من عقائد هوشت عليه أحياناً وجه الحق، ورينان في ضخامته كالجبل يخاطبه جالساً من علٍ بنفس ساكنة مطمئنة لا تهزها الرياح الهوج، وكيف يهتز جسمه لشيء أو تتحرك نفسه لأمر، وهو قد بلغ به الشك أن أرتاب في وجود نفسه، وارتاب في قِيَم الأعمال فلم يقم لعمل فصيره طول القعود من أسمن رجال فرنسا.
رحب رينان ببستور إلى المجتمع فأسماه عبقرياً، وقرن أسمه بأسماء أكبر من عرف من العباقرة، ثم عرج يُقرّع صياد المكروب الشيخ المشلول المضطرب تقريعاً خافتاً خافياً، قال: (إن الحقيقة يا سيدي كالمرأة الغَنِجَة اللعوب، لا تملك بالعاطفة الكثيرة تُبذل لها، وكثيراً ما تأتيك منصاعة بإعراضك عنها. وقد تسلم إليك قيادها فتظن أنك ملكتها فإذا بها تُفلت من قبضتك، فإذا أنت اصطبرت عليها عادت فوضعت عنقها في يدك. ولا يمنعها وداع وما سقط فيه من دموع أن تعود إلى الظهور، ولكنك إذا أحببتها فغلوت لم يكن لك منها غير البين والقطيعة)
لا أظن أن رينان، وهو الحكيم، خال أن كلماته الجميلات هذه سيكون لها أثراً ولو قليلاً في إصلاح المعوجّ من بستور، ولكنها كلمات ترينا في اختصار علة ما لاقى بستور في حياته من فواجع، وهي تعلمنا ما يجر الرجل المجنون على نفسه من المآسي والأحزان إذ هو خال أنه يستطيع قلب العالم في السبعين عاماً التي أذن الله له أن يحياها
- 7 -
بعدئذ أخذ بستور بضع أنابيب من الزجاج في حلوق الكلاب وهي تتلوى وتتضور من داء الكلَب. وكيف استطاع أن يضع هذه الأنابيب في هذه الحلوق لهذه الضاريات؟ لا يعلم هذا غير الله. هذان خادمان قائمان على فكي كلب قوي عصيّ يفتحان فاه كَرْهاً واغتصاباً. وهذا بستور قائماً في وجه هذا الكلب تكاد لحيته تمس هذه الأنياب وفيها الموت المرير. وهذا هو يمص في أنبوبته من حلق الكلب بعض رغائه، ليأتي منه بعينة يبحث فيها عن مكروب الداء. وأحياناً يناله الرشاش من هذا الرغاء فلا يأبه له وقد جاز أن يكون فيه القضاء
أريد الآن أن أنسى ما قلته عن حب بستور للدعاية، فتصوري عينيه الزرقاوين وهما تحدقان في حلق هذا الكلب الهائج المسعور لا يتفق مع هذه الذكرى
ليت شعري ما الذي وجه بستور إلى صيد مكروب الكلَب؟ لقد كان في الوجود عشرات من الأدواء يجهلها العلماء، أدواء قتلت من الناس أضعاف ما قتل داء الكلَب، ولم يكن بها من الخطر على بحّاثة مغامر مثل الذي كان بهذا الداء اللعين الذي لا ينجو صاحبه أبداً، فما هو إلا أن ينفك الكلب من قيده فتقع الواقعة التي لا مردّ لها
يترجّح عندي أن شاعريته، والفن الخفي في نفسه، هما اللذان دفعاه إلى اختيار هذا الداء على الأدواء جميعاً. قال بستور: (لطال ما ساورتني صرخات ضحايا هذا الذئب المجنون الذي كان يهبط على الناس في شوارع اربوا لما كنت طفلاً. . .). عرف بستور من صباه كيف كانت دماء الناس تبرد لصوت كلب مسعور. وكر أنه قبل مائة عام أو دونها كان الفرنسيون يشتبهون في الرجل يحسبونه مصاباً بالكلب فيُذعرون فيقومون عليه فيَسُمونه أو يخنقونه أو يطلقون عليه الرصاص. وشاع هذا حتى سنت القوانين لحماية هؤلاء المساكين. ذكر بستور كل هذا فأعتزم أن يعيد في الناس السلام، ويمنع عنهم هذه الآلام والآثام
بدأ بستور هذا البحث الذي انتهى بأن كان أبدع أبحاثه وأصدقها، فإذا به يبدؤه على عادته بالأخطاء. جاء إلى طفل يموت من داء الكلب فأخذ بعض ريقه وامتحنه فوجد فيه جرثومة غريبة ساكنة فأسماها اسماً لا يتصل بالعلم كثيراً، أسماها (مكروبة الثمانية)، وما أسرع ما حاضر أعضاء الأكاديمية وأشار إلى هذه المكروبة بأن لها صلة بالسبب الخافي لداء الكلب، واستقر على هذا الرأي، واستمر يجري في اطمئنان وراء هذا المكروب، ولكنه لم يلبث غير قليل حتى اتضح له أنه إنما جرى وراء برق خُلّب. فإنه بمعونة عونيه وجد هذا المكروب في أفواه أناس أصحاء كثيرين لم يقتربوا من كلب مكلوب أبداً
على أن هذا الضلال لم يدم طويلاً حتى حملت بستور قدماه إلى الطريق الهادي إلى مخابئ هذه الأحياء، قال لنفسه: (لقد قلّت الكلاب المسعورة في هذه الأيام، والشيخ البيطار بوريل لا يبعث الآن لي منها إلا عدداً يسيراً، والمكلوبون من الناس أشد ندرة من الكلاب؛ فلا بد لنا من إحداث داء الكلب في حيوانات في معاملنا كي نستطيع دراسته في تواصل واستمرار)
وكان بستور فات الستين وكان مُتعباً مجهوداً
وذات يوماً جاءوا إلى المعمل بكلب سعران اصطادوه بالوهق ضربوه في عنقه ثم شدوا عليه، فأمرهم بستور فأدخلوه وهو ينذر بالشر إلى قفص به كلاب أخرى كي يعضها ويعطيها من الداء مثل الذي به، وجاء رو وشمبرلاند فأخذا من رُغاء فمه بعض الشيء ومصاه في محقن وحقنا به من الخنازير الغينية ومن الأرانب، واصطبرا ينتظران ظهور الداء فيها، فكان يظهر في بعضها أحياناً ويتخلف عن بعضها أحياناً أخرى فساءهما تخلفه، وعض الكلب المجنون أربعة من الكلاب، ومضت ستة أسابيع فإذا كلبان منها هائجان يضربان في جوانب القفص ويعويان، أما الآخران فمضت أشهر لم يظهر فيها عليهما من الجنون شيء. أمر يحير الباحث ويغيظه، فهو دائماً ينتظر النتائج الواحدة تأتي من المقدمات الواحدة، وقد اتحدت المقدمات هنا فكيف اختلفت نتائجها؟ لقد ضاع اتساق العلم وانسجامه، لا في هذه الكلاب وحدها، بل في الخنازير والأرانب كذلك، فقد يصاب من الستة الأرانب المحقونة اثنان، يمدان برجليهما الخلفيتين إلى الوراء من الشلل، ثم يموتان بعد ارتجاجات من الصرع عنيفة، أما الأربعة الباقية فتظل قائمة تقضم الحشيش قضماً، فكأنما جرثومة الكلب لم تخلط دمها أبداً
وذات يوم خطرت فكرة على بستور، فأسرع إلى رو يحدثه بها، قال: (إن جرثومة الكلب تدخل أجسام الناس بالعض عن طريق الجلد، ثم هي تستقر بعد ذلك في أمخاخهم وقفار ظهورهم. . . . إن كل الأعراض تدل على أن هذه الجراثيم التي لا نراها ولا نستطيع كشفها تغير دائماً على الجهاز العصبي. ففي هذا الجهاز العصبي إذن يجب أن نبحث عن هذه الجرثومة. .
ومن هذا الجهاز قد نستطيع تزريعها وتربيتها حتى ولو لم نرها. . . ولعلنا نستطيع أن نتخذ من مخ الحيوان طعاماً لها فننمّيها في جمجمته بدلاً من قبابة الحساء. أن نتخذ من الجمجمة والمخ قبابة وحساء أمر غريب، ولكن من يدري؟. . . ثم إننا اعتدنا أن نحقن الرُّغاء الخبيث تحت جلد هذه الأرانب والخنازير، فما أدرانا أن الجرثومات التي به لا تضيع في أجسام هذه الحيوانات قبل وصولها إلى أمخاخها، لوددت والله أن أرشق هذه الجراثيم مباشرة في هذه الأمخاخ رشقاً)
أنصت رو لهذه الأحلام، وانفتحت عيناه وسعهما ولمعتا لهذه الخيالات. . . لو أن رجلاً غير رو سمعها لظن بستور أصابه مس من جنون. يريد أن يتخذ من مخ الكلاب والأرانب بديلاً من الأحسية! ويريد أن يتخذ من جماجمها بديلا من القبابات! أي عبث هذا وأية خرافة تلك! أما رو فكان أفهم لبستور من أن يظن به خبالاً. قال: (وما منعك من وضع المكروب في مخ الكلب مباشرة يا سيدي الأستاذ؟ أنا أستطيع أن أثقب لك به ثقباً صغيراً لا يؤلم الكلب ولا يفسد مخه. وهذا أمر علي يسير. . .)
فصرخ بستور في وجه رو حتى أخرسه. ولم يكن بستور طبيباً، فلم يدر إن الطبيب يستطيع أن يفعل هذا حتى في الإنسان وهو آمن. لهذا أجزعته الفكرة جزعاً كبيراً. (ثقب يخترق جمجمة الكلب إلى مخه! يا للفظاعة! والكلب كيف يكون ألمه؟ والمخ بعد هذا كيف يكون صلاحه، إن الكلب يشل حتما! لا، لا آذن بهذا؟)
حنان قلب بستور كاد يفقده أكبر كشف أتاه، ويضيّع عليه بل على الإنسان أثمن تحفة أهداها إياه. وأمام هذه التجربة القاسية الغريبة خارت من بستور قواه، ولكن رو، رو الأمين لسيده، رو الذي نسيه اليوم الناس أو كادوا، رو هذا قام يحمي سيده من خور نفسه، فنجاه بأن عصاه. ذلك أنه اصطبر أياماً قلائل حتى غادر بستور المعمل لبعض حاجته، وعندئذ قام إلى كلب سليم فشممه قليل من الكلوروفورم حتى أفقده الإحساس، ثم ثقب رأسه ثقباً كشف عن مخه الحي، فكان يدق بالنبض دقاً بيناً، ثم أتى بقليل من مخ كلب كان قد مات مكلوباً فسحقه وحقن سحيقه في مخ الكلب النائم برفق شديد وهو يقول لنفسه: (لا شك إن سحيق هذا المخ مليء بمكروب الكلَب، فلعله مكروب دقّ فلم يكن باستطاعتنا أن نراه)
وأصبح الصباح فأخبر بستور بالذي كان. فصاح بستور فيه: (ويلك ماذا صنعت بالكلب المسكين! أين المخلوق التعيس. . . لا شك إنه شل. . . لا شك أنه يموت. . .)
ولكن رو كان سبق فنزل بسرعة على السلم، وفي لحظة عاد والكلب ينط أمامه، وإذا بالكلب يتمسح بساقي بستور، ثم يدور يتشمم بين قبابات الأحسية القديمة تحت مناضد المعمل. عندئذ أدرك بستور قدر رو ومبلغ ذكائه. وأدرك كذلك أن طريقاً جديداً للتجربة أنفتح أمامه. ولم يكن بستور يغرم بالكلاب، ومع هذا فإن اغتباطه بالذي سمع ورأى أغراه بملاعبة هذا الكلب خاصة. قال لسانه: (أهلا بكلبي العزيز! أهلا بسيد الكلاب). وقالت أحلامه: (إن هذا الكلب سيثبت أن فكرتي عن هذا الداء صائبة)
ولم يمض أسبوعان حتى تحققت أحلامه، فسيد الكلاب أخذ يعوي عواء أليماً حزيناً، وصار يمزق فراشه ويعض قفصه، ثم مات بعد أيام، نعم مات هذه الميتة القاسية، ولكنه ماتها ليحيا من بعده على نحو ما سنعلم ألوف من الناس كانت تموت مثل ميتته
بهذه الطريقة اهتدى بستور ورو وشمبرلاند أخيراً إلى نقل هذا الداء إلى الحيوانات نقلا أكيداً؛ أعني إنهم إذا حقنوا المكروب في مائة كلب أو خنزير أو أرنب أصاب الداء المائة كلها، وكأني بك تستمع إلى بستور يقول لصاحبيه: (إنّا لا نستطيع أن نرى المكروب ولا بأقوى العدسات، فلا بد أن هذا يرجع إلى شدة صغره. ولسنا نعرف طريقة واحدة لتربيته في الأحسية بالقبابات، ولكن في استطاعتنا أن نبقيه حياً في مخ الأرنب، فهذه هي الطريقة الوحيدة لحفظه ونمائه)
أوجِد أو يوجَد أعجب من هذه التجربة في كل الذي كان ويكون من صيادة المكروب، أو في أي علم آخر من العلوم! أم هل مارست تلك العلوم أمراً أبعد ما يكون عن المألوف فيها مثل الذي مارسه بستور وصاحباه: مكروبةٌ غير منظورة، كل الذي يعلمونه عن وجودها أنهم يستطيعون نقلها في الأمخاخ والحبال الفقرية في سلسلة طويلة من الأرانب والخنازير والكلاب، وكل برهانهم على كونها، وأن للكلب مكروباً هي مكروبته، موت تلك الأرانب المحقونة في تشنج وارتعاص، والعواء المزعج لتلك الكلاب التي أعملوا في رءوسها المثقاب
ثم أخذ بستور وأعوانه يحاولون أمراً عجباً لا يقول عاقل بإمكانه، ذلك تأنيس تلك المكروبة الفتاكة التي تُرى. وتعطّلوا في محاولتهم هذه بعض التعطل، فذهب رو وتويييه إلى مصر يدافعون مرض الكوليرا ومات تويييه في سبيل ذلك على ما علمت، وذهب بستور إلى بعض زرائب الخنازير في الريف يبحث عن مكروب داء كان تفشى فيها ويطلب لها لقاحاً منه، ولم يطل هذا التعطل طويلاً. واجتنب بستور تلك المنازعات والحجاجات الوضيعة التي كانت تنتهي على الأغلب بذمه والنيل من اسمه وكرامته. وحبس نفسه مع عونيه والحيوانات الشلاّء الخطيرة في معملهم بشارع أُلْم وفي هذه الحبسة أتوا على عدد لا حصر له من التجارب
ووضع بستور رقباء على مساعِدَيه الشابين وأنزلهما المعمل على منضدتيهما فكنت تراهما مكبّين عليها صباح مساء كأنهما بعض الأرقّاء. وكان ينظر ما يصنعانه بإحدى عينيه، وينظر بالأخرى الباب الزجاجيّ للغرفة التي كانا يعملان فيها، فإذا هو رأى أحداً من أصحابهما جاء يدعوهما إلى كأس ببيرة في شُرفة مقهى قريب، أسرع فخرج إلى الدخيل فقال له: (لا، لا، ليس هذا وقته. ألا ترى أنهما مشتغلان؟ إنها تجربة في غاية الخطر ليس في الإمكان أن يقطعاها!)
ومضت على هذه الحال أشهر غبر حسبوا جميعاً عند ختامها أنه لا سبيل إلى إضعاف هذه الجرثومة التي لا ترى، فالمائة من الحيوانات التي يحقنونها بالمكروب بعد محاولة إضعافه كانت تموت كلها، ومن ترى كان أقرب إلى اليأس في ختام هذه الأشهر؟ أضنك تقول الشيخ العجوز بستور، وأن عونيه الشابين، وقد ملأهما دم الشباب الحار، كانا أعصى من أن يثنيهما هذا الخذلان. إذن لقد أخطأت الحسبان يا سيدي، فالأمر كان على نقيض ذلك
(يتبع)
أحمد زكي