مجلة الرسالة/العدد 137/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
مجلة الرسالة/العدد 137/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
30 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية الإيجابية من مذهب نيتتشه
السوبرمان أو الإنسان الأعلى
للأستاذ خليل هنداوي
لنفترض أن هذه القوى يتفاعل بعضها ببعض تتبعاً لقانون المصادفة والتدابير المتعاقبة، وأن الترتيب اللاحق مؤثر في الترتيب السابق، فما عسى يقوم في أزلية الزمان؟ أرانا إذ ذاك مضطرين إلى القول بأن هذه القوى لم تبلغ بعد نقطة التوازن ولن تبلغها أبداً، إذ لو كان هذا الترتيب في استطاعته أن يظهر يوما ما، لاستطاع إذا أن يظهر لتطاول الزمن الغابر. والعالم - عند ذلك - يصبح جامداً ساكناً لا يتحرك، لأن من المحال أن تضل هذه القوى عن (نقطة التوازن والاستواء) بعد أن أدركتها ووصلت إليها. فنحن إذا أمام القول بأن شحنة من القوى الثابتة المعينة تولد - في هذه الآماد - تدابير لا تنبتر وحالات لا تتناهى. وبما عن الزمان لا نهاية له، وبما إن هذه الشحنة من القوى هي معينة محدودة، فسوف تأتي لحظة - مهما كانت هذه القوى عظيمة ومهما كانت آثارها الناشئة عنها كثيرة - نرى فيها هذه اللعبة الطبيعية غير العاقلة تولد (تدبيراً) أو تهتدي إلى حالة تستقر عندها وتقف عليها.
ولكن هذه الحالة أو هذا الانتقال سيجر وراءه سلسلة تامة من الحالات المتسببة عنه، من حيث أن الحركة العالية تولد ذات الأشياء وتمشي باستمرار على دائرة واسعة. كل حياة خاصة هي جزء من هذا الدور الكلي. وكل فرد قد عاش الحياة ذاتها مرات لا تحصى وسيعيشها إلى الأبد. كل الحالات التي يمكن للوجود أن يبلغها قد بلغها في الماضي مرات متعددة. قد كان مرة، ومرات عديدة سيكون وسيعود. وكل القوى السابقة متوزعة اليوم توزعها بالأمس
أيها الإنسان! إن الحياة كلها كمرملة ترش دائماً وتجمع دائماً. وكل خليقة من هذه الخلائق لا تنفصل عن الأخرى إلا بقدر تلك اللحظة الطويلة الضرورية لها حتى تعود تلك الضرورات التي كانت سبب ولادتها، فتعود إلى الظهور. والولادة حالة محلها في (الدور العالمي) وعند ذلك ستجد كل شقاء وكل غبطة، وكل صديق وكل عدو، وكل أمل وكل ضلال، وكل غرسة وكل شعاعة من الشمس، وكل نظام الأشياء، وهذا الدور الذي أنت فيه مثله مثل الحبة سينبثق من جديد
في كل دور من أدوار الوجود الإنساني، لكل إنسان - على الأغلب - ساعة تظهر فيها الفكرة القوية القائلة (بالرجعة الدائمة) لسائر الأشياء. وهذه الساعة التي تبلغها الإنسانية هي ساعة (الهاجرة)
وما إن بدأ نيتشه هذا المذهب حتى سرى في روحه، وغمر فكره، وغلب على قلبه؛ وقد عزم على أن يغامر بعشرة أعوام من عمره، يدرس التاريخ الطبيعي لكي يستطيع أن يبني مذهبه هذا على قواعد علمية ثابتة، ولكنه لاذ بالصمت وأدرك خيبته في زعمه هذا. ولكن فكرة الرجعة الدائمة ظلت تتجاذب فكره، وظل يدور حولها. وهذه الفكرة كانت إحدى هبات (زرادشت) الكبرى إلى رجاله
وقد وضح جلياً تأثير هذه الغمة التي غشيت نيتشه يوم أصبح يؤمن بهذه الرجعة الدائمة. ولن نستطيع أن نتخيل حلاً لمسألة الوجود أظلم وأبهم من هذا الحل، فالوجود لا يعني شيئاً، إنه وليد مقادير عمياء، ينتج من وراء مصادفاته الخالية من الشعور قوى يمتزج بعضها ببعض، فيخلق بعض النماذج على حسب المصادفات. أما الحركة الشاملة للوجود فهي لا تقود جزءاً منه ولا قسما. وإنما هي تدور حول نفسها بدون انقطاع في نفس الدائرة، وهذه الحياة التي نحياها سنكررها إلى ما لا نهاية، دون أن يكون هناك رجاء في التغير. وفي كل لحظة مشحونة بالكآبة والشقاء والسأم سنحياها مرات لا تحصى. فهل في الإمكان أن نتخيل ما يصنع هذا الافتراض في جماعات المنحطين والمرضى والمتشائمين، وفي كل من نرجح كفة شقائهم على كفة فرحهم؟ إن عند أغلب الناس - كما يبدو - فكرة تشبه فكرة العودة الدائمة؛ تظل وإن لم تكن مبنية على مبدأ معين - غير مؤذية ولا ضارة، لأنها تبغي فكرة مجردة خارجة عن الإدراك، لأن مخيلتنا غير قادرة على إخراج هذه الفكرة إلى حيز الحقيقة، ولأن المعارف التي يتلقاها عقلنا لا تعين إلا قليلاً من قوتنا الحاسة. ولكن نيتتشه هو الذي يهب الحياة لتعاليمه، وهو يتفلسف بكل وجوده وقد يشاهد أن الرجعة الدائمة أخذت تظهر في بعض اللحظات ككابوس شيطاني يملأ قلبك رعباً ويقف دقات قلبك، وقسوته على المنحطين والأشقياء بدأت الآن ترتدي غير رداء، وقد وضح ما يريد في صيحته هذه (ليموتوا سريعاً. ليقتلوا أنفسهم، أو ليقتلوا، هؤلاء المنحطون. . . .!! من قبل أن يتمكنوا من قياس هاوية الآلام التي غرقوا فيها، وقبل أن يفقهوا معنى القدر الوحشي الذي يقضي عليهم بان يجرجروا صلبانهم بدون أمل في نجاة، وإذ ذاك تفهم إذا كانت الإنسانية في استطاعتها أن تتحمل هذا المذهب دون أن تزل سريعاً في هاوية اليأس والخوف، أو أن تعتبر فكرة العودة الدائمة كابتلاء يهوى به من لا تصلح حيويتهم
لابد من قوة نفسية خارقة لاحتمال فكرة العودة الدائمة وهذا هو صاحب هذه القوة النفسية يستطيع أن يقول (إذا لم يكن للحياة معنى بذاتها فأنا أعطيها معنى. إنما أنا قطعة من الطبيعة تريد أن تكون دائماً جديدة، تسعى بدون سأم ولا نصب إلى ما لا نهاية في الحلقة ذاتها. إنني سأرتفع وأصعد حتى يتسنى لي أن أتأمل كفنان روعة الحياة المخصبة التي لا تفهم. وسأهتز طرباً إلى لعبة هذه القوى التي أنتجت وحصلت كثيراً من الآثار اللطيفة الرائعة. والتي ولدت الإنسان وستلد السوبرمان. سأتمنى بكل قلبي وإيماني من القوة العمياء أن تبدع شيئاً لامعاً ساطعاً يسمو على الإنسان. وسأحيا يراودني هذا الأمل، وسأجعل وجودي كله وعاء لهذه الفكرة. أريد أن للدائرة التي تتحرك فيها الحياة تحور إكليلا باهراً زاهراً. سأقضي حياتي فرحاً مرحاً، راجياً أن يؤول دوري الذي أمثله إلى نتيجة حسنة. وإذا خسرتُ - في هذا الدور - فلي رجاء كبير فيمن يليني ويأتي بعدي. وهكذا لا يتلاشى من الوجود ضياء الحياة ولا يكفهر. وهكذا الإنسان المأخوذ بهذه الفكرة التي تزيده نشوة، يصبح في حالة يبصر فيها هزائمه وانكساراته كفدية يسيرة لأفراحه وانتصاراته. يجدها كالنخس الذي يدفعه دائماً إلى التعالي والتسامي، إلى تفوقه على نفسه. وهكذا إذا رجع إلى محاسبة نفسه يرى إن مقدار سروره كان أرجح من مقدار ألمه وإذ ذاك يرضى بكل حمية وشوق فكرة الحياة الخالدة، وفكرة القبول بالحياة التي يكررها إلى الأبد
ولهذه النتيجة تسامى أولئك الرجال المسلمون الذين جمعهم زرادشت في مغارته. فحين عرض عليهم تعاليمه الجديدة وفضائله الجديدة، وفتح عيونهم على جمال الحياة وروعة الحياة، وحين شفاهم من تشاؤمهم ورفع نفوسهم التي أوشكت أن تنحني تحت أثقال الكآبة والسآمة، جمعهم تحت جنح الظلام أمام المغارة تحت قبة السماء
(جلسوا صامتين متهيبين. كلهم في سن الكهولة ولكن قلوبهم تفيض قوة وحياة، وكل منهم راضٍ بنفسه عن نفسه إذ غدا شيئاً صالحاً على الأرض، وكان سكون الليل المفعم بالأسرار يناجي قلوبهم. عند ذلك تمت أعجوبة الأعاجيب. فالإنسان الأكثر قبحاً جلس ينفخ للمرة الأخيرة، وحين دعاه داعي الكلام قال: هذا السؤال الذي خرج من فمه طاهراً نقياً عميقاً، وجميع من كان حوله يصغون إليه أحسوا إن قلوبهم تهتز وتخفق طرباً
قال: (هأنا - لأول مرة - غدوت راضياً عن حياتي
جميلة الحياة على الأرض. إن يوماً واحداً، إن عيداً واحداً مع زرادشت علماني بأن أحب الأرض
سألت الموت: هل - هنالك - الحياة؟
ألا لتأت مرة أخرى
أصحابي! ألا تريدون أن تقولوا للموت مثلي: هل هنالك الحياة؟ وفي سبيل محبة زرادشت لتكن مرة أخرى)
أفلح إذ ذاك زرادشت. فإن الرجل الأكثر قبحاً، والمسخ الذي قتل بعضه الإله، الذي يتمثل فيه كل قبح وشر وسوء في الإنسانية قد تلقى الآن جمال الحياة، وأدرك أن الألم هو فدية لا مندوحة منها للسعادة، فقال: - بلى للوجود. وبينما كان النبي محاطاً بأتباعه، يتذوق خمرة هذا النصر كان يتهادى ناقوس قديم ذي رنين حاد يعلن ببطء - مجيء نصف الليل - أن نصف الليل هو الساعة الواحدة التي يلتقي فيها النهار الذي انتهى بالنهار الذي سيبتدئ، حيث يصافح الموت الحياة. نصف الليل هو ساعة الصمت الأكبر، حيث النفس المتأملة تتفتح لها التأملات والأسرار الخفية. وبينما كان الناقوس القديم، الرسول الذي يقرع لأفراح الإنسانية وأوجاعها، يعلن بدقاته الأثنتي عشرة عن تلك اللحظة التي يجوز فيها الموت إلى الحياة؛ نرى زرادشت يترك رجاله السامين يلمحون الفكرة الكبرى للرجعة الدائمة غارقة في الألغاز كأنها مزمور رمزي ممطر بالنشوة الدينية
1: ألا احترس أيها الإنسان! 2: ماذا يقول منتصف الليل العميق؟
3: كنتُ أنام، كنت أنام
4: هأنا قد تيقظت من حلم عميق
5: الوجود هو عميق
6: اعمق مما لم يفكر فيه النهار
7: وعميق شقاؤه
8: وفرحه أعمق من ألمه
9: الشقاء يقول لك: اهلك
10: ولكن كل فرح يبتغي الخلود
11: يبتغي الخلود، الخلود العميق
(انتهى البحث في فلسفة نيتشه)
(خليل هنداوي)