مجلة الرسالة/العدد 135/رسائل حاج
مجلة الرسالة/العدد 135/رسائل حاج
من ربوع الغرب إلى بلاد العرب
للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس
أستاذ التأريخ بجامعة بودابست
لثلاثين عاماً خلت وأمنيتي الوحيدة الاشتراك في موكب الحجيج والذهاب إلى مكة، حيث بزغ فجر الإسلام، وانتشرت دعوة النبي الكريم وتعاليمه المقدسة. وقد انبثق في نفسي هذا الشعور أثر مشاهدتي رسوماً فوتوغرافية نشرت في إحدى الصحف الأوروبية الكبرى عن سياحة قام بها أحد الرحالين وتحدث فيها عن عجائب الشرق حيث تسطع الشمس طول النهار، ويريق القمر أشعته الفضية فوق رمال الصحراء في الليل.
وكان الأثر الذي تركته هذه الرسوم والمناظر الفتانة عميقاً في نفسي وباعثاً لإقبالي على تعلم اللغة التركية، وعلى زيارة الشرق مهد الديانات الحديثة ومهبط الوحي المقدس.
ولكن الأمور جرت في شيء من البطء، أي أكثر مما تخيلته في البدء، فمشاغل الحياة والواجبات اليومية الملقاة على عاتقي وقفت عقبة في سبيل تحقيق تلك الأحلام الذهبية التي تطوف بذهني وتجذبني نحو الإسلام. . . وأخيراً دعيت إلى زيارة الهند حيث قضيت بين ربوعها سنوات ثلاثاً لإلقاء محاضرات عن التأريخ في جامعاتها، وهناك اعتنقت الدين الإسلامي في مسجد دلهي العظيم، ومن تلك الساعة أحسست من أعماق روحي بأنني أقترب من الغاية التي أرنو إليها بحيث يصبح في مكنني الطواف بالبقاع الإسلامية المقدسة في مكة، والتعريج على المدينة مقر القبر النبوي الطاهر ومثوى سيد الحق. . . .
ولكن كيف أذهب إلى الحج وأنا لا أعرف من العربية حرفاً واحداً؟. . . . كيف أدرس (أم اللغات) وأنا في أوربا وبالأخص في بلاد نائية كالمجر لا يوجد بها من يتكلم بهذه اللغة التي هي في نظري أصعب من تعلم أربع لغات أوروبية معاً!!؟ وتلك لعمري كانت من أقوى العقبات التي وقفت حائلاً بيني وبين تنفيذ رغبتي أو تحقيق أمنيتي في حينها.
على أنه كان لي من قوة الأيمان وثبات اليقين ما دفعني إلى الإقبال على تعلم هذه اللغة مهما بلغت العقبات وقامت الصعاب، فبدأت أولاً أدرس العربية بدون معلم وبواسطة كتب حصلت عليها من المكتبات الأوروبية، ثم عكفت على قراءة القرآن الشريف بمساعدة المعاجم اللغوية، وحفظت عن ظهر قلب معاني الكلمات المبهمة والألفاظ المعقدة. وتابعت السير على هذه الخطة عدة شهور إلى أن أصبحت بفضل الله ورعايته ملماً بأصولها. وفي خلال شهور الصيف أخذت أطالع قصص (ألف ليلة وليلة) والمعجم إلى جانبي، وكثيراً ما لاقيت صعابا كادت تفت في عضدي وتوهن من قواي، كالشعر الجاهلي الذي كان يبدو على الرغم من جماله وموسيقاه مبهما معقدا، فكنت من حين لآخر أقذف بالكتب جانبا وقد قر في عزمي ألا أعود إليه مرة أخرى ليأسي من التقدم
وبمرور الزمان انتصرت على جميع الصعاب، ورحت أتفهم العربية في شيء من السهولة واليسر، مع إنني لم أسمع في حياتي صوت متكلم بها؛ ولما أيقنت مقدار ما تبطنه الظروف وأن هناك بعض النقص في إلمامي بالأدب العربي والشريعة السمحاء صممت قبل الشروع في زيارة البقاع الإسلامية المقدسة إلى أن أقيم فترة طويلة من الزمن في مصر حيث الأزهر الشريف مركز الثقافة الإسلامية ومحط العلماء.
وفي الواقع كنت أسعد مخلوق في العالم عند ما ألفيت نفسي أدخر مبلغاً من المال يساعدني على أن أطيل إقامتي على ضفاف النيل السعيد مهد المدنية والسلام.
وعندما وطئت قدماي أرض القاهرة قوبلت بحفاوة عظيمة من جانب أدباء مصر وصحفييها وغيرهم ممن مهدوا السبيل أمامي لاستكمال نواحي دراستي في الأدب العربي، والتعمق في شعاب الدين الحنيف، بحيث أصبح قادراً على صد هجمات كل من تسول له نفسه الاقتراب أو التشويه من عظمة الإسلام في أوربا.
وكانت فكرتي مقترنة دائماً بأن أدرس العربية دراسة جامعية لا دراسة هواية، شأن الكثير من المترفين ممن يعكفون على تعلم اللغات لغرض السياحة أو بقصد القراءة الخفيفة المسلية؛ وكنت أرمي من وراء دراستي إلى القيام بخدمة الإسلام والمسلمين الذين وقعوا تحت نير الاستعمار الأوربي منذ قرون؛ وقد كانت هذه الغاية من أقوى العوامل التي دفعتني للتقرب من المسلمين في الهند وتركيا ومصر. وإن أنس لا أنس الظروف التي لاقيت فيها كثيراً من فقراء المسلمين الهنود، وهم يعيشون في بطون أكواخهم المشيدة من القش، ويستضيئون بأنوار الإسلام فتتحول تلك الأكواخ في أنظارهم إلى قصور وجنات بحيث يحتقرون مظاهر الجاه والثروة ويطئونها تحت أقدامهم
فالقرآن هو المثل الأعلى لتوجيه الإنسان إلى الطريق السوي الذي يحتم على كل مسلم غيور ألا يحيد عنه قيد شعرة؛ والمسلم الذي لم تعم بصيرته عن تلك الحقائق ويفقه تعاليم دينه فقهاً صحيحاً يرى أن القبس الروحي يتأجج في قلوب المسلمين جميعاً ممن لا ينكصون من التضحية وبذل الواجب، والذين يفنون ذواتهم في ذات الغرض الأسمى، ويأخذون على عواتقهم التغلب على كل أمر والتجول في أنحاء العالم لنشر الدعوة وإظهار فضائل دينهم ومحاسنه
والواقع أننا قد نجد بعض مظاهر هذه القوة في الأيمان عند بعض الأمم الأجنبية الأخرى، لكنني ألفيت في قلوب إخواني المسلمين كنوزاً تفوق في قيمتها الذهب والأحجار الكريمة؛ ولقد عاشرت مسلمين فقراء كانوا لا يحجمون عن أن يقاسموا رفاقهم آخر كِسرة يملكونها من الخبز. . . كم استضافوني في بيوتهم المتواضعة وأعطوني أعظم شيء في الوجود!. . إنهم منحوني إحساس الحب والتآخي، ولقنوني عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما أطلقوني من ضيافتهم فاهوا بحكمة نبيهم الكريم: (اطلبوا العلم ولو في الصين)
وعقب وصولي القاهرة قصدت فوراً للإقامة في الحي الوطني المعروف (بسيدنا الحسين)، لكني لم أوفق للحصول على سكن ملائم
لقد كنت من خلال إقامتي الطويلة بتركيا أقطن في غرفة رحبة مؤثثة بالطنافس الوثيرة والرياش الفخم، وكنت أتناول أفخر المآكل الشرقية وأشهاها؛ فمن مظاهر الحياة الإسلامية فن الطهي، إذ يؤثر على النبي الكريم أنه كان يحث الناس على العناية بمسائل الطعام وبالذبيح المحلل، ولا تخفى الفائدة من وراء ذلك، فاتباع الطرق الصحية ووسائل النظافة والعناية باللحم مما يزيد في صحة الأجسام ومناعتها
كانت آمالي إذن قبل القدوم إلى القاهرة أن أقيم في بيت من تلك البيوت العربية الطراز، وبين قوم يرتدون اللباس الشرقي الفضفاض ويتناولون الطعام بأيديهم، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، فأنني لم أوفق في الحصول على سكن ملائم، فاضطررت إلى الإقامة في نزل أوربي.
ولكم تألمت إذ ألفيت أهل القاهرة لا يلبسون الثياب الشرقية المزركشة، ويستبدلون بالقفطان والعمامة شعار الإسلام - الأزياء الأوربية، كما راعني في البيوت المصرية التي زرتها خلوها من الأثاث الشرقي، وأن أجد الشباب المصري يوجه عناية خاصة للإلمام بأنواع الثقافات الأوربية المتعددة، ويفرطون في جانب لغتهم وقوميتهم ودينهم!!
ولقد قال أحد أصدقائي المصريين في معرض حديث له معي: (يستحيل علينا أن نعود إلى تلك الأثواب الطويلة المهلهلة عندما نبغي الصعود إلى المركبات أو عربات الترام).
ولكني رأيت كثيراً من الناس يرتدون تلك الأثواب وما كان أجملهم في نظري وهم يتسلقون الترام أو السيارة بكل خفة ورشاقة والواقع أن تلك الملابس أفضل بكثير من الأثواب الأوربية الضيقة، ولا سيما القبعات التي نضطر إلى أن نحملها بين أيدينا عندما نجلس أو نزور أو نحيي أحداً
ومن رأيي أن الحصول على الأثاث الشرقي واللباس العربي والتطبع بالعادات الشرقية أمور يسهل اتباعها في القرن العشرين من غير أن يفقد المصريون خصائصهم ومميزاتهم، أضف إلى ذلك أن إحياء الصناعات القومية وإنعاش حال الأسواق الشرقية متوقف على إقبال المصريون على عاداتهم الأصيلة، أما التقليد الأعمى والاتجاه شطر أوربا وترك الثقافة والتراث القومي جانبا فصفات يجب التخلي عنها. وليت الأمر وقف عند الحد الذي شرحته، بل أن آمالي انهارت دفعة واحدة بمجرد أن زرت الأزهر وتفقدت الأروقة التي كثيراً ما قرأت عنها في شبابي وتخيلتها في أحلامي،. . . فمقاعد التدريس لا تزال كما كانت منذ ألف سنة، وبرامج التعليم ناقصة وغير مستوفاة لشروط الثقافة الحق؛ ولم أر في الأزهر سوى خلية للحكمة وبث التعاليم الإسلامية وقشور من العلوم الحديثة؛ أما المعاهد الدينية فهي نماذج مصغرة لجامعاتنا إذ أن هذا النوع من التعليم يقود الطلاب في سبيل البحث والاستقصاء والتعلم
(يتبع)
عبد الكريم جرمانوس